.. بعد يومين رنّ هاتفها، سمعت صوته يستفسر عن سبب عدم عودتها إلى دار الرعاية. كان يطلب إليها – ذاك المدير – الذي انتابتها الكوابيس بسببه أن لا تخذله بعد أن عملت جاهدة على إدخال الكثير من الأمور الإيجابية في الدار، والكثير من البهجة على نفوس الأطفال الذين تعاملت معهم في يومها اليتيم ذاك. ورجاها أن تعود ولو ليومين في الأسبوع، وإن تعذر الأمر فليوم واحد.
أجابته: سأحاول سيدي، أعطني وقتا أتدبر أمري وأنظم برنامج اهتماماتي ثم أعاود العمل لديكم.
– لا بأس، ننتظرك سيدتي.
مضى أسبوع فأسبوعان وهي في صراع ما بين شكوكها وكوابيسها وإحساسها بحاجة الأطفال إلى عنايتها واهتمامها. أولئك الذين يبدون كملائكة تنزّلت من السماء، تبتهج لمرآهم النفوس، رياحين في حديقة لكنهم يتكدسون في أصص متزاحمة، فلمَ لا تخفف عنهم غربتهم الأليمة تلك وهي التي عانت الإغتراب بكل أشكاله وأنواعه.
استغربت عدم تواصل المدير معها في فترة غيابها، وقرّرت أن لا تعود. ذهبت إلى عملها كما كل يوم وعندما خرجت وجدته يقف بانتظارها، تفاجأت به يقول لها: ألا تودين رؤية الأطفال في يوم احتفالهم السنوي، هم لا يفتأون يذكرونك منذ أتيتنا.
خجلت أن تجيبه بلا، ركبت معه سيارته متجهيْن نحو دار الرعاية وهي متوجسة وخائفة، تجول في ذهنها شتى الأفكار السلبية والإيجابية معا حتى وصلا. كان الأطفال في انتظارها بأزهى ملابسهم يحملون لها باقات من الزهور، وجوهم كالأقمار تضيء بومضات سحرت فؤادها.
اقتربت منهم وغاصت بينهم حتى ما عادت تظهر أمام المدير فصرخ بهم: أين أخفيتم “زينب”، أظهروها أيها العفاريت الصغار. أجابته وهي تقهقه: ها أنا ذا يا “عدنان” قد قيّدني عفاريتك بحبال الودّ، تعال وأنقذني.
احتفلت معهم في ليلتهم تلك حتى ساعة متأخرة هي وجميع موظفي الدار، تسع سيدات يقمن في الدار وثلاثة رجال يغادرون ليلا فيما بينهم “عدنان”، لكنهم لم يغادروا في تلك الليلة إذ لم يتبق على انبلاج الصبح إلا سويعات. نظرت إليهم، جميعهم متعبون بعد ما بذلوه من الجهد لإسعاد الأطفال، وعيونهم تكاد تغلق وحدها لشدة النعاس، ورغم ذلك طلبت من “عدنان” ان يذهب بها حيث سيارتها. فرفض محتجا أنها لن تتمكن من قيادة سيارتها وهي في حالة النعاس هذا. عندئذ طلبت منه أن يوصلها إلى بيتها، لكنه رفض ذلك فهو الآخر متعب جدا، وأن ليس أمامها إلا أن تقبل بالأمر الواقع وتنام في غرفة معدة له ليبت فيها في حالات الطوارئ أو أثناء دوامه في منتصف النهار إن أراد أن يقيل قليلا.
أحست بانقباض شديد في صدرها وصداع وكادت أن تتوقف أنفاسها، فكيف تبيبت خارج بيتها. تذكرت قول والدها الذي كان يردده دائما: الحرة لا تبيت إلا في بيت مُحْرَم أو برفقته. ولا تخلع رداءها إلا في حجرتها. فما العمل الآن وقد وُضعت في موقف صعب لا يمكنها التخلص منه، هل تخرج إلى الشارع في مثل هذا الوقت، وإن فعلت فهل تسلم من تعليقات سائقي سيارات “التاكسي”؟
ذهب الرجال الثلاثة وبينهم “عدنان” إلى البهو لعلهم ينعمون بغفوة ساعة. ودخلت هي غرفة “عدنان”، أرادت ان تغلق الباب لكن لا مفتاح ولا مزلاج له. جلست على طرف السرير بكامل ملابسها وقد أسندت ظهرها إلى وسادة تراجع أحداث يومها.
اسيقظت وجالت بنظرها أنحاء الغرفة، لأول وهلة ظنت أنها تحلُم. تحسست السرير وأدركت أنها تعيش حقيقة ما تجده حقا. هدوء يعمّ المكان، ولا حركة لآدميّ هنا! خَطَت خارج الغرفة بحذر شديد دون أن تُحدث جلبة، غسلت وجهها لتمسح عنه بقايا النعاس، وفي طريق عودتها وقع بصرها على شخص يستلقى على كنبة وقد غط في نوم عميق. اقتربت منه، يا للمفاجأة، إنه مدير الدار “عدنان”. تساءلت، تُرى لمَ هو هنا. تواردت الإجابات على ذهنها، منها السليم ومنها السقيم، لكن وجدانها أبى إلا أن يختار واحدا من الاحتمالات فقط. بالتأكيد هو هنا ليحرسها، خاف عليها من الرجلين الآخرين. ولم يغب عن بالها أنه ربما أراد أن يثبت لها أنه شخص نبيل لا يقترب من إحداهن أبدا، وربما أراد ان يكون قريبا منها. ربما وربما إلى ما لا نهاية. لكن وجدانها هو الذي انتصر لهذا الرجل.
بعد عدة ساعات اسيقظ الجميع ليجتمعوا في مطعم الدار، لم تسأله هي عن سبب نومه أمام الغرفة، فربما كان السبب ممّا لم يخطر في بالها أبدا. ولم يحكِ هو شيئا. فقط سألها: هل أحببت ما نحن فيه؟ أجابته بالتأكيد، إنها دار تكاد تكون مثالية. فعاد ليسألها ألا تعملين معنا فيها كموظفة مسؤولة وبدوام كامل وبراتب تعيّنه الدولة وتزيد عليه بعض الجمعيات الخيريّة كتشجيع لنا؟ ستكونين مساعدتي والمشرفة على كل صغيرة وكبيرة هنا، فأنا لوحدي أصبحت عاجزا أمام تزايد أعداد الأطفال الجدد، ولا بد من مساعد يقوم ببعض مهماتي. وافقت دون تردد على أن لا تبيت في الدار إلا في الحفل السنويّ فقط.
أعادها إلى حيث تقف سيارتها أمام مبنى المدرسة التي عزمت على تقديم استقالتها إلى مديرتها. وهما في الطريق كانت صامتة إلا من ردود مقتضبة على أسئلته القليلة. لكنه فاجأها بسيل من الأسئلة قُبَيْل أن يصلا: لمَ كل هذا الصمت، هل تودين الإستفسار عن شيء ما، هل لا زلت غير مقتنعة بالعمل معنا. هل حدث ما يقلقك من أيٍ من موظفي الدار أو الأطفال. هل لا زالت لديك شكوك.
-: شكوك! لا أبدا. وهل أخبرتك أن لدي شكوك!
– ملامحك هي التي تقول ذلك.
– كانت لدي شكوك والآن تبخرت جميعها. أنا فقط حزينة لأنني لم أتعرف عليكم من قبل. تلك جنة حالت ظروف حياتي والأقدار بيني وبين دخولها.