حوار مع الشاعر المصري فيصل سليم ــ ذ. نصر سيوب

0
2425

ــ مَــــنْ أكــــــون :

ولدت في قرية صغيرة تابعة لمحافظة قنا…أقصى جنوب مصر( في صعيد مصر) في أسرة تعمل بالزراعة، وعشقت العلم منذ نعومة أظافري… كنت أبحث دائما عن المعرفة. بعد انتهاء دراستي الابتدائية والاعدادية التحقت بمدرسة المعلمين وعملت في مجال التدريس وفي مجال اللغة العربية والتي عشقتها من كل قلبي، واصلت الدراسة والتحقت بكلية الآداب وحصلت على درجة الليسانس قسم اللغة العربية، ثم واصلت الدراسة وحصلت على درجة الليسانس في التربية قسم اللغة العربية، وأخيرا دبلوم الدراسات العليا في الدراسات الإسلامية، بالإضافة إلى دبلوم من معهد الخطوط العربية. استغرقت هذه الدراسات المتواصلة نحو ربع قرن من الزمان.

في مجال العمل عشقت اللغة العربية،  وبخاصة النحو العربي، وقرأت الكثير من المتون، وتأثرت كثيرا بمتن الأجرومية لابن أجروم، وألفية ابن مالك وشروحاتها، والمفصل للزمخشري، والنحو الوافي لعباس حسن. وكان انضمامي لجبهة حماة اللغة العربية نقطة تحول، لأن هذه الجبهة تعني باللغة ومشاكلها ووضع الحلول المناسبة للنهوض بها. أما وظيفتي الحكومية فهي موجه أول صحافة وإعلام بوزارة التربية والتعليم.

أكتب في الكثير من الصحف والمجلات المصرية من باب الهواية وليس من باب الاحتراف، ولي الكثير من القصائد في الصحف، ولي ثلاثة دواويين مطبوعة.

الديوان الأول “خلف قلاع الصمت”، والديوان الثاني “عويل كربلاء”، والديوان الثالث “آخر وصايا لقمان”. والدواوين الثلاثة شعر فصحى،  وتم عرضها في معرض القاهرة الدولي للكتاب. ولي كتاب تحت عنوان “الموسوعة الثقافية” يحتوي على أكثر من خمسة آلاف سؤال في مختلف أنواع المعارف.

أنا محب للريف المصري إلى درجة العشق، خاصة عندنا في صعيد مصر. وأنا لست ناقما على التطور لكن أفضل الهدوء، والمحافظة على القديم، ومجتمع الصعيد محافظ على العادات والتقاليد والقيم. والتحضر قد يأتي بأشياء كنا نعدها في الماضي نقائص، لكنها سنة من سنن الحياة. وأنا من المعجبين والمحبين لليمن وللشعب اليمني وبما يملكه من زخم وإرث حضاري، ولأنه قريب من عادات وتقاليد الصعيد.

ــ صعوبات التعليم:

من الصعوبات التي تواجهنا في مجال التعليم؛ كراهية الطلاب لمادة النحو العربي، وعدم إتقان التحدث بالفصحى، بالإضافة إلى منهج التدريس في المدارس وعدم تطوره ليناسب العصر. أضف إلى ذلك رداءة الخط في الكتابة. وتألمت كثيرا عندما قابلت في زيارتي الأخيرة للقاهرة طلابا يدرسون في الأزهر من دول جنوب شرق آسيا وهم يتحدثون الفصحى كالماء الزلال.

ــ حلمي وجذور تنشئتي الأدبية :

كنت أحلم أن أكون شاعرا، وقرأت لكثير من الشعراء في العصر الجاهلي، والعصر العباسي، وصولا للعصر الحديث، وتأثرت كثيرا بشعر نزار قباني، ومحمود درويش، وبدر شاكر السياب، والبردوني، ونازك الملائكة، وفاروق جويدة…

وفي حياتي الدراسية كنت أحب اللغة العربية، وقرأت الكثير من النصوص الشعرية كما ذكرت، وقواعد الإملاء، والنحو العربي، والصرف، فضلا عن حياة الصعيد القاسية، والبيئة الصعيدية خالية تماما من مظاهر البهرجة والترفيه.. فالصعيدي يولد رجلا يعتمد على نفسه في مختلف مناحي الحياة.

في قريتي الكثير ممن يكتبون الشعر، وكان في القرية خاصة في الليالي الصيفية والتي يتم فيها جمع المحاصيل كالقطن، والقمح، وقصب السكر، تجد الفلاحين يرتجلون المواويل والغناء الصعيدي.. والشيء الغريب أن تجد ممن لا يجيدون القراءة والكتابة يحفظون قصائد أم كلثوم عن ظهر قلب.

ففي فصل الصيف تكون درجة الحرارة في الصعيد حارقة، هذه الحرارة المهلكة هي التي جعلت الإنسان الصعيدي يتحمل كل شيء، وقد تأثرت كثيرا في كتابتي الشعرية بالصعيد، فضلا عن مسحة الحزن التي تغلف الكثير من أشعاري.. وسأعرض قصيدة عن جو الصعيد وبيئته :

“أرْصِفةٌ لِبيع الزُّهورِ”

فِي سِنِّ العَاشِرةِ

الرَّبيعُ..

لا يأتي عِندنا!!

يَنزوي..

تَحْتَ شجَرةِ اللّبخِ العَتيقةِ

وقيلولةِ السُكونِ

تسامِرُ أنغامَ الطَنابيرِ

تتناثرُ حِكاياتُ الغَريبِ

فتشيب عراجين النخيل

أرْصِفةٌ لبيعِ الزُّهورِ….

قرونُ التَّيسِ

النَّواعيرُ

العَنادِلُ

وعَمَائِمُ المَجاذيبِ

أمطارٌ بلا ماءْ

ترضع آهاتي الحبلى

عُكازي الهَرِمْ..

يتلوى كثعبان ضرير

يَعْبثُ..

بِسَنواتِ العُمْرِ العِجافِئ

مُنذُ ألفِ سَنة…

لمْ يُداعِبْ الرِّيحُ

بيادرَ قريتي!!!

ولم ينكشف البُر

مَاتتْ هَداهِدُ الحُقولِ!!!

في زحمة الكون الصريع

كانت البيئة الصعيدية ومازالت بيئة قاسية لأحبابها.. الكثير من شباب الصعيد مهاجرون في أصقاع الأرض بحثا عن لقمة العيش، والحياة الكريمة، ومن ثم انعكس هذا على الشعر الصعيدي :

“الحزن مجاناً”

جَفتْ عُروقُ الوَرقِ

فِي شَجرةِ السَّنطِ الشَّاحِبةِ

لماذا

تلبسينَ ثِيابَ الحِدادِ ؟

قالتْ…..

وَهِي تُرثي مَواسِمَ الجَني

يا بلدَ الحُبِّ

والأفراحِ

والأحْزانِ

لِماذا يَخْرجُ مِنْ جَوفِك

الشوكُ المُسَنن بِالجِراحِ

الصَّمغُ

يُلاحِقُ الفَراشاتِ الثكلى

وَوجْهُها الدَّامِي المُمزقْ

مِنْ عَذاباتِ السِّنين

أليسَ المَوتُ منْ الأشياءِ العَادية

تماماً

مِثلَ حَفلات الزَّار

وَحَفلاتِ المَجاذِيبِ

وَهُو كالميلادِ

والحُبِّ

والزواجِ

والسِقم

والشيخوخة

وأشياءٌ أخرى

ــ ماذا أعطاني الشعر :

كما قلت أحببت الشعر منذ صغري، وأعطاني الشعر أثمن شيء في الوجود وهو محبة الناس.. وأصدقائي في جميع أنحاء العالم، فلي أصدقاء في أوروبا، وأستراليا، وماليزيا، فضلا عن الكثير من البلدان العربية، أتواصل معهم في القضايا الشعرية، فضلا عن ذلك أنا عضو في الكثير من الصالونات، والمنتديات الشعرية والأدبية.

ــ الشعور بالألم :

الشعور بالألم عند الشعراء يختلف اختلافا كليا عما عند الآخرين، فتجارب الحزن تنضج مشاعر الإنسان، فضلا عن أن جلد الذات عند الأدباء يكون على درجة أكبر.

أتألم كثيرا على الواقع المرير الذي يحيط بالأمة العربية، فالشاعر يكون قريبا من أمته خاصة في لحظات الانكسار، هذه الأمة التي تتعرض لهجمات شرسة، ومؤامرات تحاك في الخفاء، فضلا عن حالة التفرق والتشرذم، في الوقت الراهن.. مع أننا نملك كل المقومات التي تجعلنا في مركز الريادة.. أتمنى من الله أن يأتي اليوم الذي تتوحد فيه الكلمة والهدف، فنحن لسنا أقل من دول الاتحاد الأوربي التي أصبحت كيانا واحدا… أماني أتمنى أن تتحقق.

ــ دور المعاناة في تحفيز الطاقة الإبداعية :

فعلاً من رحم المعاناة تتفجر طاقة الإبداع، ولأن الذي وُلد وفي فمه ملعقة من ذهب يختلف عمن صادق الفقر واتخذه خليلا، ومعظم الشعراء إلا القليل منهم من عضّه الفقر بأنيابه فترك جرحاً غائراً لم يندمل رغم مرور الأيام.

ــ ﺍﻟﻤﻜﻮﻥ ﺍﻟﻔﻨﻲ ﻫﻮ ﻧﺘﺎﺝ ﺍﻟﻤﻜﻮﻥ ﺍﻟﻨﻔﺴﻲ :

أوافق الناقد يوسف اليوسف الذي يرى “أن المكون الفني هو نتاج المكون النفسي، ﻟﺬا فإﻥ ﻋﺒﻘﺮﻳﺔ ﺍﻟﻤﺘﻨﺒﻲ ﻣﺜﻼ ﻧﺎﺑﻌﺔ ﻣﻦ ﻧﺮﺟﺴﻴﺘﻪ ﻭﺳﺎﺩﻳﺘﻪ، ﻭﻫﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﺷﻜﻠﺖ ﺍﻟﻄﺎﻗﺔ ﺍﻟﺪﺍﻓﻌﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﻏﻨﺖ ﺍﻟﻤﻜﻮﻥ ﺍﻟﻔﻨﻲ ﻟﺪﻳﻪ” ؛ لأن العامل النفسي له علاقة مع العمل الفني، فالعمل الفني هو ترجمة للعامل النفسي.. والمتنبي هو حالة متفردة في الشعر العربي، وكان على درجة كبيرة من عزة النفس، وفي حالتي كان العامل النفسي هو ترجمة لأحداث مرت في حياتي، وكانت البيئة الصعيدية هي التي شكلت الكثير من أعمالي.

ــ كــتـــابـــاتــــــي :

كثير من الآراء يفهمها القارئ كما يحلو له، ويقولون أن المعنى في بطن الشاعر، لذلك يلجأ المبدع إلى التورية، والاستعارة، والكثير من علم البيان.. وقبل طباعة الديوان لا بد من مراجعة الديوان مرات من خلال دار الطبع، حتى لا تكون فيه شائبة تمنعه من النشر.. وأنا لا أكتب الشعر السياسي.. فللسياسة رجالها، وكتاباتي تنصب على الأدب، ووصف هموم قريتي التي أعشقها من كل قلبي.

ــ القصيدة تكتبني :

القصيدة هي التي تكتبني من خلال خاطرة أو فكرة.. وربما استيقظت من النوم على صوت هاجس، ولو حاولت النوم قبل تسجيلها.. كان مستحيلا.

ــ الشعر ضرب من الجنون :

هناك قول يتردد : زارني شيطان الشعر فكتبت هذه القصيدة.. فكتابة الشعر هي ضرب من الجنون.. وكثير من الخواطر لو نظرت إليها بعمق تكون عند الإنسان السطحي فكرة جنونية، والكتابة الشعرية لا يفهمها إلا كاتبها.

ــ أولــويــاتــي :

التجربة الأدبية والثقافية في المرتبة الأولى، فالشأن الأدبي كان ولا يزال في الأولويات من محاور الاهتمام في تجربتي.

ــ قـضــيــتـــي :

قضية العرب الكبري هي قضية فلسطين.. هذه القضية التي تقض المضاجع العربية، وكتب عنها الآلاف من الأدباء العرب؛ رواية، وقصة، وشعر، وزجل، لكن تجربتي الإبداعية قليلة في هذا المضمار..

ــ الشعر رقص والنثر مشي :

طبيعي أن يكون الرقص شعرا من خلال تموسق الكلمات، والنثر مشيا لأن هدوء الفكرة، وتسلسلها ماء سلسبيلا.. والرقص حتى من خلال رقص الأفنان عندما يداعبها نسيم الربيع تستمتع عند مداومة النظر إليه.

ــ قصيدة النثر :

قصيدة النثر جاءت نتيجة سُنّة التطور.. وهناك من يرى أن قصيدة النثر جاءت تمردا على شعر الفصحى، ونتيجة للصعوبات الجمة لعلم العروض، وصعوبة تقطيع البيت الشعري، وكنوع من السلاسة.. والفصحى لها جمهورها، وقصيدة النثر لها جمهورها، وهناك من لا يعترف بالشعر العامي ( الزجل) ويعتبره مضيعة للوقت..  يمكننا القول أنّ قصيدة النثر هي ذلك الشكل الفنيّ الذي يسعى إلى التخلّص من قيود نظام العروض في الشعر العربيّ، والتحرّر من الالتزام بالقواعد الموروثة من القصائد التقليديّة، بالإضافة إلى ما تقدّم فقد عرفّها بعض الأدباء بأنّها عبارة عن نصّ تهجيني يمتاز بانفتاحه على الشعر والسرد والنثر الفني؛ ويتسم بافتقاره للبنية الصوتية الكمية ذات التنظيم؛ إلا أنّ له إيقاعاً داخليّاً منفرداً بعدم انتظامه، ويبرز ذلك بتوزيع علامات الترقيم، والبنية الدلالية، وفقاً لبنية التضّاد.

ــ قصيدة العمود والأغراض الجديدة :

قصيدة العمود يمكنها استيعاب الكثير من الأغراض الشعرية كالشعر السياسي، فكثير من المشكلات السياسية تم صياغتها شعرا عموديا مواكبا لقضايا العصر.

ــ الأوزان الخليلية :

الأوزان الخليلية كبّلت الشاعر ورسمت له طريقا فولاذيا، من خلال كلمات مؤطرة، ألزمت الشاعر بنهج معين، وحجمت المعاجم الأدبية على درب محدد.

ــ مساحات الأدب :

مساحات الأدب فعلا ضاقت وتضيق يوما بعد يوم…وصاحب ذلك انهيار في القيم وانتشرت الأفكار الدونية والسطحية، وأدى ذلك إلى حالة الاغتراب الثقافي الذي نعاني منه حتى يكاد يفقدنا الهوية، وهي آخر حوائط الصد في عالمنا العربي.. ومثال ذلك ما نراه من أتون الحرب الضروس بين الفصحى والعامية، والتي للأسف يشجعها الكثير من الأكاديميين في عالمنا العربي.. والقليل من يدافع عن العربية لكن على استحياء.

ــ الشعر والحداثة :

مصطلح الحداثة يُفهم خطأ .. فالحداثة لا تعني نسف الثوابت وتدمير الرواسي، لكن من المفروض أن تكون الحداثة موطن العبور إلى الأرض الجديدة الصالحة للنبت الحديث.. لكن للأسف يمجد الكثير من السطحيين الأفكار الهامشية، والمصطلحات الغثة، والأفكار التي لا تستند إلى أطر الثوابت، وظهرت نبتات شيطانية ادّعت زورا وبهتانا معرفتها بكل شيء.

ــ الشعر الحديث :

الشعر الحديث ربما يكون متشابها في الإطار، لكنه مختلف في الأفكار والرؤى… كل شاعر له رؤية تحتلف عن الآخر.. فبدر شاكر السياب، ومحمود درويش، ونازك الملائكة… كل علم من هذه الأعلام له أفكاره المؤدلجة في الكثير من المناحي.

ــ النقد الأدبي :

للأسف النقد الأدبي في عالمنا العربي يخضع لعوامل كثيرة منها الذاتية، ونظريات النقد، وكثير من النقد يعرف بالنقد التأثري. فهو  يخضع للمزاج والهوى، فعندما يتناول الناقد عملا فنيا يمكن أن يرتفع به إلى عنان السماء، ويمكن أن يهوي به لسابع أرض، أي أن الرؤية الفنية يمكن تغييبها ويمكن استحضارها.

ــ دور الشعر :

أمة بلا لغة شاعرية هي أمة بلا هوية، فالشعر هو أعظم وسيلة لاستنهاض العزائم، وبث روح العزة والكرامة، ولو نظرنا إلى الماضي التليد كيف حافظت الأمة على هويتها، وكيف حفظ التاريخ أعمال عنترة، والخنساء، وامرؤ القيس، والنابغة الذبياني… كيف يكون الشعر وسيلة من وسائل حياتنا الروحية، وفي مواجهة حالة الافتراس الحضاري… نحن في مفترق طرق.. نكون أو لا نكون.

فالشِّعر، بما له من ألفة في وجدان العربيّ، قادر على أن يُسهم، كما سبق القول، في تأصيل الهويّة العربيّة. والمتأمِّل في النّهضة العربية أواخر القرن التّاسع عشـر، يلاحظ أنّ أوّل الفنون التي استعملها النّهضويّون العرب هو الشِّعر؛ لأنه قادر على أن يربط الإنسان العربيّ بقضايا أمّته، والمواطن العربي بدأ يتصف كليا وجزئيا بالصفات الآتية :

1- الإحساس بعدم المسؤوليّة عمّا يجري في المجتمع.

2- الانغماس في متع العصر الاستهلاكيّة في المأكل، والملبس، والسّلوك، أو التّطرُّف، والابتعاد عن العصر بإيجابيّاته وسلبيّاته.

3- التَّرجُّح بين قيم العروبة الرّوحيّة، والماديّة النابعة من العقيدة والثقافة، والقيم المادية النابعة من العولمة الاقتصاديّة.

4- الاعتقاد أن المجتمع المثالي هو المجتمع الغربيّ بعاداته وتقاليده وديمقراطيّته، وأن المجتمع العربيّ متخلِّف لا يمكن إصلاحه ولا حفزه إلى اللَّحاق بالغرب المتقدِّم.

5- الإيمان بأن اللّغة الانجليزيّة هي لغة التقنية الحديثة، وأن العربية صعبة لا علاقة لها بهذه التقنية، ولا صلة تربطها بالحداثة، ولا أمل لها باللّحاق بركب صانعي الحضارة العالميّة الجديدة.

ــ مكانة الشعر :

كان الشعر ولا يزال ديوان العرب، وكثير من الأدباء في عالمنا العربي ينحتون الصخر لكي تصل إبداعاتهم إلى محبي الشعر.. ويتميز الشعر العربي عبر عصوره المتلاحقة بعلاقة الإبداع الشعري بالموسيقى من خلال الإيقاع الشعري، وبتكونه من مجموعة أبيات، كل بيت منها يتألف من مقطعين يدعى أولهما الصدر، وثانيهما العَجُز، وهذا النوع من البناء عُرف بالشعر العمودي.

كان الشعر العمودي هو الأساس المعتمد للتفريق بين الشعر والنثر، بحيث يخضع في كتابته لقواعد الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهذه القواعد تدعى علم العروض.

ويعرف علم العروض بأنه علم بمعرفة أوزان الشعر العربي، أو هو علم أوزان الشعر الموافق أشعار العرب. مما حدا بالبعض في ما بعد لنظم العلوم المختلفة المستجدة في قوالب عمود الشعر، كألفية بن مالك وغيرها، وذلك استغلالا لما تألفه الأذن العربية من الإيقاع المنتظم، ممّا يجعل تلك المنظومات أسهل للحفظ والاسترجاع من الذاكرة، ولكنها بذلك، ولذلك بالتحديد، خرجت من دائرة الشعر إلى دائرة النظم، أي أنها افتقدت الفاعلية الجمالية التي تميز الشعر عبر أدواته المختلفة، التي لم يكن عمود الشعر إلا مظهراً من مظاهر الشكل الفني غير جوهرية، وبهذا فقدت روح الشعر، مع أن المعلقات قصائد عمودية نظمت بأوزان الشعر العربي دون أن تفقد روح الشعر وجمالياته الإبداعية بأبعاده الفنية والفلسفية والتي تعد أشهر ما كتبه العرب في الشعر، وقد قيل إنها سميت معلقات لأنها كانت تعلق في أطراف الكعبة لشهرتها وكتبت بماء الذهب، وقيل أيضا إنها معلقات لأنها مثل العقود النفيسة تعلق بالأذهان. والصعوبات الجمة لتحوصل الشعر العربي في المكانة الضيقة وغياب النقد الجاد البعيد عن الأمزجة والأهواء الشخصية، بالإضافة إلى غياب الكوادر المتخصصة في النقد، أضف إلى ذلك أن الشعر الذي يوجد على الساحة لا يناسب الكثير من الأمزجة الحديثة التي انحدرت فيه الأذواق إلى الهاوية بحجة مواكبة المدنية.

ــ الشعر والإعلام الترفيهي :

الإعلام الترفيهي هو الذي أفرز ثقافات وضيعة وثقافة التدني… كلمات ليس لها معنى؛ (بَحِبَّك يا حمار)، هل تعلم أنها عنوان أغنية، هل وجدت انحطاطا أكثر من هذا..

ــ المبدع والإعلام :

الإعلام له دور بارز في تقريب المبدع إلى جمهوره، ولكن قد يكون الإعلام سلبيا حين يسلط الضوء على شاعر أو أديب ويترك الباقين، فمثلا أحد الشعراء العظام عندنا في صعيد مصر اسمه أمل دنقل، هذا الشاعر لم ينل حظه من الشهرة رغم قامته السامقة في عالم الشعر ومات فقيرا، والكثير من الأدباء لا يعرفه لأنه لم يعرف من أين تؤكل الكتف، والإعلام لم يعطه حقه لأسباب كثيرة.

ــ جسر العبور إلى وجدان الإنسان :

الفن والأدب فعلا هما جسرا العبور إلى وجدان الإنسان، وعلى الخصوص الشعر، لأنه من أقصر الطرق لمخاطبة مشاعر الإنسان، أحلى الصور الأدبيَّة هي تلك التي تكون فيها الرُّؤى والمشاعر تتدفق، رابطة ما بين صعوبة الحاضر (لتوحي بالصدق)، وإمكان المستقبل (لتوحي بالأمل)، تتخلَّل تضاريس البيئة الواقعيَّة متعالية على تحدياتها؛ لترسم لوحة أحلام وآمال تمسُّ شغافَ القلب والوجدان، هنا يمهد الأدب المبدع لإحداث التغيير الإيجابي في الفكر قبل حدوثه على أرض الواقع، هنا يرتفع منسوب التحفُّز والطموح ليدفع باتجاه الحياة بكل عنفوانها. إلى نوع من الفن الراقي لمخاطبة العقل قبل مخاطبة الجسد

ــ الشعر ونزعة الاستعلاء :

الشعر العربي قد واجه مفهوما جديدا من حيث الإزاحة الثقافية لطغيان نزعة الاستعلاء التي ميزت الشخصية العربية التي عدت نفسها على الدوام أمة الشعر، فالمقولة (الموروثة): “الشعر ديوان العرب” كانت اختصارا لحالة من الشوفينية التي ميزت العقلية العربية (الحديثة) التي رأت في شعرها نسقا بلاغيا مستعليا على سائر منتجات الأمم والحضارات الأخرى، فالكثير من التاريخ المدون في أمهات الكتب كان منخرطاً في تمجيد هذا النسق الاستعلائي للبلاغة العربية إلى أن استشرت هذه المقولات وترسخت في وجدانها.

ــ أزمة الشعر :

ربما يكون الشعر في أزمة! ولكن أزمته لا تكمن في ماهيته، حيث أن الشعر العربي، وخاصة في شكله الأجد ( التفعيلة وقصيدة النثر )، يشكل ظاهرة إيجابية متقدمة، في خروجه على المقدس (فقه الخليل ابن أحمد)، وقدرته على الانفتاح والتناغم مع الحضارة الإنسانية في مسراها الحداثي، خاصة بعد انكسار كل مشاريع النهضة والحداثة الأخرى في وطننا العربي، مثل المشروع الاقتصادي، والسياسي والاجتماعي، وعدم قدرتها على مفارقة أحضان فقهها! ولهذا يقع الشعر في أزمة تحليقه وحيدا في فضاء التجديد والحداثة، ومطاردة المقدس له في تصورات الأكثرية من المتلقين الذين تخرجهم مناهج التعليم المهمشة للشعرية الجديدة! أو الذين لا زالوا يتلقون الشعر الجديد بآذانهم! فهناك حيرة بين القديم والحديث.

ــ الشعر والرواية :

الشعر بخير، والدليل على ذلك أن الرواية لم تستطع سحب البساط من تحت أقدام الندوات الشعرية في القرى والكفور، فضلا عن المنتديات الأدبية التي تعج بها المدن.

ــ الشعر والهوية :

تأصيل الهوية من مهام الإبداع عامة والشعر خاصة.. ولكي نفهم قضية الهوية حق الفهم لا بد أن ندرك أننا لا نتلقى الواقع في موضوعية مطلقة سلبية تكتفي بالرصد والتسجيل، فالعقل الإنساني عقل توليدي يبقي ويستبعد ويضخم ويهمش ويضيف ويحذف. وتتم عملية الإبقاء والاستبعاد والتضخيم والتهميش والإضافة والحذف حسب نموذج إدراكي يشكل هوية الإنسان، وهو في صميم رؤية للكون.. أذكر أنني كنت في اليمن في بداية تستعينات القرن الماضي بعد توحيد شطري اليمن، وحدثت مشكلات خطيرة ما بين موافق ومعارض لكن في النهاية انتصرت فكرة الوحدة بين الشطرين لأن الشعب اليمني كله وقف وقفة رجل واحد مدافعا عن هويته قبل كل شيء.

ــ الهَمّ اللغوي :

في كتابتي لا يزال الهم اللغوي الخاص باللغة العربية هو ما يشغلني، لأن هذا مسألة وجود، ومن خلال عضوية “جبهة حماة العربية” نكتب الأبحاث الخاصة الهدف منها بحث المشكلات التي تواجه العربية، وتقديم الحلول الناجعة في النحو والإملاء والبلاغة، وتقديم الطرق المثلى لتدريس اللغة العربية.

ــ الوضع الثقافي :

الوضع الثقافي في العالم العربي بخير، وما زلت أحلم بوجود تكامل بين بلدان العالم العربي يمكنه أن يخلق لنا رؤية ثقافية واحدة، وإن كان ذلك أمراً يحتاج إلى سنوات من التعاون كي يتحقق؛ لذا فإننا يمكننا أن نبدأ بعمل خريطة واحدة للعالم العربي، خريطة تخبرنا بالمواقع الثقافية الموجودة في كل بلدان العالم العربي، تخبرنا بكل مواقع الأدب والشعر وموطن الثقافات وأنشطته، تخبرنا بتباين المناطق العربية من الفقر إلى الغنى، من العشوائيات إلى الصحراويات، خريطة نرى أنفسنا من خلالها، وحينها سوف ينتبه الجميع إلى ما يجب عليهم عمله حيال ما يرونه على هذه الخريطة، وهذه بداية وضع استراتيجية ثقافية عربية شبه موحدة، أو على الأقل متلائمة مع كل هذا التنوع والتباين والتفاعل العربي.

ــ مجتمعاتنا العربية والعوائق :

هناك الكثير من الجوانب التي يجب الاهتمام بها لمواجهة العوائق في مجتمعاتنا العربية، على غرار الديمقراطية وتأمين الحريات بكافة أشكالها، والإصلاح الديني على مستوى العالم العربي، والمشاركة السياسية، وإصلاح التربية والتعليم، وتحفيز الابتكار والعمل والإنجاز، وحماية حرية التعبير، ومواجهة النقص في إنتاج المعرفة، ومواجهة القصور على الصعيد التربوي، والاهتمام بالتربية المدنية، والعمل على تكوين رأي عام فاعل.

ــ الغربة والاغتراب :

الغربة نوعان.. الأولى غربة الوطن، وهي مفارقة الأحباب والخلان وهي لاشك قاسية، وقد جربتها كثيرا وكانت تؤلمني أشد الألم حين اغتربت سنوات في اليمن السعيد، ولم يهون علي غربتي سوى حفاوة الشعب اليمني وكرمه ومحبته، لذا بادلتهم الحب ولا زلت أكن لهم كل محبة وعرفان، وأدين لهم بالفضل في محبتي للأدب والشعر والوصف الأدبي لطبيعة بلادهم الساحرة.. أما النوع الثاني هو الاغتراب الداخلي، وهو لا شك أصعب وأقسى من النوع الأول.. غربة الشاعر في وطنه، وأسباب تلك الغربة حيث تتجلى – من وجهة نظري – في سببين وهما فرقة المجتمع، ووأد الطبيعة والفنون، وكثير من الشعراء غادروا أوطانهم عندما لم يجدوا مناخا مناسبا مثل نزار قباني، ونازك الملائكة، والبياتي وغيرهم.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here