قضى رشيد ليلة سوداء، لم تر عيناه فيها النوم، بدأ يومه بالرجوع إلى مخفر الشرطة لعله يسمع خبرا يطفئ النار التي تأكل قلبه وقلب أخواته منذ يومين، حين اتصلت به أخته الكبرى لتخبره باكية أن أمهما خرجت ولم تعد إلى البيت، نزل عليه الخبر كالصاعقة. صرخ غاضبا: (كيف لها أن ترجع ؟!! كيف خرجت أصلا من البيت، لماذا لم تتركي معها أحدا ؟!).. بدأت زوجته تهدئ من روعه، و تركب رقم الشرطة لكي تخبرهم بأن سيدة في السبعينيات خرجت من بيت ابنتها ولم تعد منذ الصباح. مغربية الجنسية ولا تتحدث الفرنسية، سمراء طويلة القامة، ترتدي جلبابا مغربيا.. تداركت لتصحح المعلومة.. تلبس لباسا طويلا، قفطانا أزرق و تضع على رأسها منديلا أسود، يتوسط ذقنها وشم أخضر. والمعلومة الأكثر أهمية.. أنها مصابة بمرض الزهايمر..
وصل رشيد إلى مخفر الشرطة القريب من بيته، لا جديد.. لا وجود لامرأة بأوصاف أمه. طلبت منه الشرطية الانتظار. جلس على كرسي، وضع رأسه بين يديه ليخفي دموعه وليضغط على ناصيته حتى لاتنفجر. هدأ قليلا.. تذكر تلك الصورة التي لم تغب عن ذاكرة طفولته، صورة أمه وهي تتوسل أباه لكي يرجع للاستقرار بالمغرب بدل أن تلتحق هي وأطفالها به بالمهجر ، بشمال فرنسا حيث يعمل بمنجم إلى جانب عدد كبير من المغاربة الذين استقدمتهم شركات التنقيب في المناجم خلال السبعينيات. تذكر وهو ابن العشر السنوات أنه لم يبال لدموع أمه، و استمتع بفرح لقرار أبيه. و بفخر نشر الخبر بين أقرانه في الحي. في صباح باكر ودع مع عائلته بيته بدرب السلطان، وودع جدته التي لم تتحمل فراق ابنتها، ركب السيارة وإخوته وأمه التي دخلت في صمت غريب. لا دموع ولا كلام.. لم ينتبه أبوه لحالتها، أو ربما تجاهلها..
قطع حبل ذكرياته صوت الشرطية، (لقد ثم العثور على سيدة بالطريق السيار ، ربما تكون والدتك). أجاب بخوف و لهفة: (الطريق السيار .. هل ماتت ؟)، أجابت الشرطة (لا لاتقلق هي على قيد الحياة وبحالة جيدة). حمد الله، استجمع قواه، تبع خطوات الشرطة، دخلت قاعة، دخلها خلفها وقلبه يخفق مخافة أن لا تكون السيدة التي عثرت عليها الشرطة هي أمه. ما أن وقعت عيناه عليها حتى تنهد وهرول لمعانقتها وتقبيل يديها. (أمي.. هل عرفتني؟.. أنا رشيد.). تنظر إليه بابتسامة شاردة، آلمه مظهرها، ملابس متسخة، و جه شاحب، حذاء(شربيل) اختلط لونه بلون الغبار.. قطعت الشرطية عليهما لحظات اللقاء: (تفضل سيدي لنقم بالإجراءات حتى تتسلم والدتك.) .
اطلع على ملف والدته (عثرت الشرطة على السيدة فاطمة في الطريق السيار على الساعة العاشرة صباحا).. لم يستطع مواصلة قراءة الملف، مؤلم أن يتصور كيف قطعت أمه كل هذه المسافة من بيت أخته إلى الطريق السيار وهي التي لم تبرح حي مدينتها الصغيرة بشمال فرنسا أڤيون منذ أن وطئت رجلاها فرنسا سنة 1977. ربما كانت طريقتها للاحتجاج على رفضها مغادرة بلدها ومدينتها وحيها درب السلطان، رغم توسلها لزوجها لكي لا يقتلعها من جذورها فتتيه في بلد بعيد.. كيف لها أن تصل إلى الطريق السيار وتتفادى كل هذه السيارات والشاحنات وهي التي لا تستطيع عبور شارع حيها إلا بصعوبة. قضت شبابها داخل شقتها فرنسية الحيطان ومغربية الديكور ، صالون مغربي، أواني مغربية، طبخ مغربي.. قاطعت القنوات الفرنسية لأنها لا تفهم لغة موليير وكذلك لا تستسيغ ما تعرضه من مواد لا تتقبلها، و تستغرب كيف لأبنائها وزوجها أن يشاهدوا أفلاما وإشهارات وبرامج (قلة الحياء). لم تتصالح مع التلفاز إلا بعد أن تم اختراع الصحن اللاقط للقنوات العربية خاصة الدينية والمغربية، فكانت لها ملاذا للهروب من ملل الأيام التي تقضيها داخل شقتها بين الطبخ والكنس.. رغم أن المساعدة الاجتماعية وطبيبتها كن يحثانها على الخروج والتواصل مع باقي النساء في المركز الاجتماعي للحي، لم تكن تبالي لتحفيزاتهما، ولم يشعر رشيد بمسؤوليته ومسؤولية أبيه وأخواته لانغلاق والدته طيلة الأربعين سنة التي قضتها بفرنسا، دون احتساب العشر سنوات الأخيرة التي أصيبت فيها بمرض الزهايمر الذي زاد من انغلاقها وانطوائها على نفسها وعالمها الخاص.