لكل حلقة من حلقات برنامج “الديوان” ما يميزها وإن كانت جميعها تتميز بمقدمها الذي يحاول جاهدا أن يجعل من برنامجه سلما يصعد درجاته واحدة بعد أخرى ليتربع على قمة البرامج الحوارية.
هذه الحلقة التي حاور فيها المضيف “أحمد حضراوي” ضيفه الخطاط والفنان التشكيلي “إدريس رحاوي” تميزت أكثر ما تميزت بالطرح الجاد والموضوعي لواقع الثقافة العربية للمغاربة في بلدان إقامتهم ولتلك العلاقة الإشكالية التي تربطهم بوطنهم “الأم”. فكان الانتقال من الحديث عن الخاص إلى العام، ومن الهمّ الشخصي إلى الهمّ الثقافي انتقالا سلسا، فعندما تستمع للمتحاورين وهما يناقشان الموضوعات المطروحة، يحلّلانها ويفككان خيوطها تدرك مدى انغماسهما في ذلك الواقع ومدى وعيهما العميق بالإشكاليات التي أحدثتها تدخلات من لا علاقة لهم بالفن ولا بالثقافة ولا بالفكر لا من قريب أو من بعيد.
رجل إعلام لكنه قبل ذلك شاعر وروائي عاش واقع الثقافة العربية في بلده المغرب وفي بلجيكا بلد إقامته في مهجره، كما اطلع على واقع الثقافة العربية ككل متكامل في مشرق العالم العربي وفي مغربه، عانى الأمرين نعم، لكنهما -أمران- عربيان بامتياز، أو قل علقمان. الأول علاقته بمن تسيد المشهد الثقافي دون أن يكون من أهله، والثاني أشباه المثقفين الذين تم دعمهم ليحلوا محل من يحملون الهم الثقافي بالفعل، يعيشونه ويعايشونه. معاناة مزدوجة حمل شاعرنا ثقلها فوق كتفيه دون أن ينحني أمام إغراءات الشهرة أو المادة أو أولئك الذين يحاولون شراء ذمته. بقي شامخا لم يستطع هؤلاء كسر جذع نخلته التي تطاولت رغما عنهم، وآتت أُكلها من خلال مؤسسات ثقافية بجهود فردية لم تنل دعما من مؤسسات بلاده الرسمية ولا حاول أن يمد يده لمؤسسات عربية أو أجنبية يوما، هو وثلة من المثقفين الذين آمنوا به وبأهدافه النبيلة.
من أولئك الذين آمنوا به ثلة من المسؤولين عن محطة تي في المغربية التي تبث من بلجيكا فتم تعيينه مقدم برنامج حواري مع مثقفي العالم العربي المغتربين خاصة، وإن استقبل عددا من غير المغتربين.
من هنا أُتيحت له الفرصة في التعريف بالمشهد الثقافي العربي من خلال لقاءاته بعدد من الشعراء والروائيين والفنانين التشكيليين والنقاد والمفكرين. وبهذا تمكن من رسم صورة الواقع الثقافي من خلال فسيفسائية دقيقة، فكل ضيف من ضيوفه يشكل مشهدا مقتطعا من المشهد الكلي، وفي كل لقاء تمتد الصورة بتفاصيلها أمام المتابع للبرنامج فتتضح له تلك الصورة حلقة بعد أخرى.
في كل حلقة يطرح “أحمد حضراوي” الجديد من الأسئلة التي تتناول هموم واهتمامات المثقف المغترب، ليكون حوارا يتميز بتسليط الضوء على أهم أسباب تردي الوضع الثقافي في المغرب العربي وامتداد آثار هذا التردي إلى بلدان الإقامة في أوروبا وبلجيكا نموذجا. فهناك محاولات لاستقطاب المثقف لصالح مؤسسات معينة لا علاقة لها بالثقافة الحقيقية بل بالسياسة واهتماماتها الخاصة بها وبالأخص اهتمامات الأحزاب السياسية المغربية بالذات. وهذا التوجه خلق مثلثا من المال والسلطة والظروف لتحصر الثقافة بل لتعمل على أسرها داخل أضلاعه، فلا يستطيع إلا أن يكون مجرد أداة لتحقيق مآربهم لا غير، ليكرّس الوضع كما قال “المضيف”، بدعة سياسية قديمة جديدة. قديمة كون “السلطة – المال” علاقة غير شرعية ذات سيطرة على الواقع العربي منذ القدم، وجديدة إذ أضيف إليها الثقافة لُتحكم السياسة قبضتها على والواقع أكثر فأكثر. والحقيقة التي قد تكون قد غابت عن المتحاورين أن هذا الوضع هو هو لم يتغير في واقعنا العربي منذ “القدم”. منذ الخلاف الذي نشب في قضية التحكيم بين علي رضي الله عنه ومعاوية ابن أبي سفيان. من هنا يتضح لنا أهمية رأي المتحاوريْن بأن يكون الاعتناء بالمشهد الثقافي من اختصاص ذوي الخبرة لا أصحاب رؤوس الأموال أو إقحامه ضمن سياق ثقافي ما.
هنا في حلقة الخطاط والفنان التشكيلي “إدريس رحاوي” وكما في كل حلقاته، أخذ “أحمد حضراوي” يرسم لنا قطعة من اللوحة ولكن بالكلمات ليقدم بها هذا الفنان ذي الإبداع المتميز. فإن كان الضيف يرسم بالريشة متخذا الحرف أداةً لإبداعه الفني تخطيطا وتنميقا، فها هو مضيفه يقدمه من خلال رسم حروف تحكيه وتحكي فنه وجماليات هذا الفن وتجذره في ثقافتنا العربية، ليكون هذا التقديم قطعة نثر فنّية. كل عبارة منها تصلح لأن تكون قصيدة شعر. ناهيك عن الأبيات الشعرية التي قدم فيها المضيف ضيفه ليضاهي قلمه ريشة الفنان التشكيلي إذ قال:
عليل لونك الخمريّ
في فرشاتك الأولى
توشح كحلك العربي
بدد مهده نيلا
على عتبات فرعون
تصك الجرح تقبيلا
وكمثال لجماليات نثر المضيف وكرمه في تقديم الضيف نقتطف هذه الفقرة من جنائن لقائهما إذ قال:
“إبن الألوان العربية وشيخ خطوط الضاد الرملية، لاعب الريشة والقلم وجس بهما كل أمل وكل وهم ألم، ما زال مثابرا على الاعتكاف في صومعة الإبداع ومحراب الخلق ومعبد الفيض المتدفق.. “
ليدخلا بعد ذلك حديث المتخصصين بالفن، فالأديب المضيف على وعي عميق بالفن التشكيلي عامة وبفن الخط العربي الذي تخصص فيه الضيف خاصة، ليكون حوارا شيقا بينهما. فالفنان التشكيلي “إدريس رحاوي” وكما وصفه “أحمد حضراي” -وكما يرى هو نفسه كذلك، هذا الفنان الذي بدأ في سبعينيات القرن العشرين- يشكل امتدادا متجذرا للخطاطين القدامى وهو من المطورين له، مسايرا لكل فنون “الجرافيك” الحديث، وعاملا نشطا لإبداع كل جديد من خلال إدخال كل التقنيات الحديثة ليعطي هذا الفن جماليات إبداعية جديدة تمتزج بالروحانية التي ميزت وما زالت تميز هذا الفن رغم أن الحروف هي أساس التشكيل الفني هنا ليأتي المزج الفني المتقن بين الخط والزخرفة، بين الأشكال والألوان، بين القديم التراثي والجديد المعاصر من تقنيات وأساليب، فيكون ملفتا لمحبي الفن من العرب ومن غير العرب إذ تتوج الدهشة ملامح وجوهم عند حضور المعارض الفنية المتخصصة وهم يشاهدون كل ذاك الجمال فيندفعون بشوق للتعرف على تلك الروحانية المبثوثة في ثناياه. هذه هي بالذات الرسالة الحقيقية للفن عامة ولفن الخط العربي خاصة. فالفنانون هم السفراء الحقيقيون المعول عليهم لبناء جسور التواصل بين الثقافات المتعددة دون أن يُلمّ المتذوق لهذه الفنون للغة أصحابها، فالفن بحد ذاته لغة عالمية لا تحتاج ترجمة، تعبّر عن الوجدان لتعْبُر وجدان آخر عبورا مباشرا. ومن هذه الأهمية لهذا الفن التشكيلي يتوجه الفنان “إدريس رحاوي” إلى المسؤولين في العالم العربي عامة وفي المغرب خاصة للاعتناء بهذا الفن الذي كان وما يزال رمزا للتطور الفكري والمعرفي في ثقافتنا العربية من جهة وتوفير آليات وسبل الدعم لمبدعيه.
أعجبتني جدا تلك النظرة الإيجابية التى يتحلى بها هذا الفنان الضيف إذ ينظر إلى الإكراهات والعثرات والصعاب التي واجهها في مساره الفني وما يزال يواجهها عبر هذه السنين الطوال التي مارس فيها فنه، إذ اعتبرها مصدر فيض ومدعاة لتجدد إبداعاته.