Home Slider site تحديات الملاءمة التشريعية مع أحكام القانون الدولي الإنساني – ذة. سليمة فرجي
دأبت المملكة المغربية منذ حصولها على الاستقلال على الانخراط في المنظومة الكونية لحقوق الانسان، كما اعتبرت طرفا في معظم اتفاقيات القانون الدولي الإنساني على رأسها اتفاقيات جنيف الأربع المؤرخة سنة 1949، المتعلقة بحماية ضحايا النزاعات المسلحة والبروتوكولين الإضافيين لها لسنة 1977.
وفي إطار دعم التأصيل الدستوري لحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، تم ترسيخ مبدأ سمو المعاهدات والاتفاقيات الدولية على القوانين الوطنية في كل ما له صلة بحقوق الإنسان وأحكام القانون الدولي الإنساني، في تصدير دستور المملكة لسنة2011، والذي جعل الاتفاقيات الدولية كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور تسمو فور نشرها على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات مع ما تتطلبه تلك المصادقة، وهو ما يعتبرتقدما دستوريا ملحوظا، انضاف إلى ما حققه المغرب من مكتسبات تفسر حرصه على تحديث ترسانته القانونية وتجويدها وملاءمتها مع المنظومة الحقوقية الدولية، مع تخويل البرلمان اختصاص المصادقة على المعاهدات المهمة الملزمة للدولة، والمؤثرة على الحياة الاقتصادية والسياسية والمالية، أو تلك التي لها علاقة بالحقوق والحريات.
علما أن سهر الملك رئيس الدولة وممثلها الأسمى على احترام التعهدات الدولية للمملكة طبقا للفصل 42 من الدستور، يجعل المصادقة على المعاهدات الدولية محاطة بضمانات ملكية، ويجعل الضمانة البرلمانية المستمدة من مقتضيات الفصل الثاني من الدستور تخول السيادة للأمة تمارسها مباشرة بالاستفتاء وبصفة غير مباشرة بواسطة ممثليها.
وإذا كان الفصل 89 قد نص على ممارسة الحكومة للسلطة التنفيذية، وأنها تملك حق المبادرة التشريعية عن طريق تقديم مشاريع قوانين للبرلمان، فإن الدستور لم يمنحها صلاحية مباشرة التشريع الذي يرجع أمره بالأساس للسلطة التشريعية باستثناء الحالتين المنصوص عليهما في المادتين 70 و81 المتعلقتين بالتفويض التشريعي عن طريق الإذن، وحالة الضرورة أو ما يطلق عليه بالتفويض التلقائي.
من خلال ذلك يتجلى دور البرلمان في ملاءمة التشريع الوطني مع الاتفاقيات الدولية في إطار النهوض بمنظومة القانون الدولي الإنساني وحمايتها، تماشيا مع دستور المملكة من جهة، واقتراحات اللجنة الوطنية للقانون الدولي الإنساني المنوط بها تتبع تطبيق المعاهدات الدولية المتعلقة بالقانون الدولي الإنساني المصادق عليها من لدن المملكة وملاءمة التشريع الوطني معها.
وإذا كان التشريع يعتبر من مبادئ سيادة الدول، ومن أهم مظاهر هذه السيادة مبدأ إقليمية القانون الجنائي الذي يجعل الدولة مختصة وحدها بمعاقبة مرتكبي الجرائم على إقليمها، أيا كانت جنسيتهم، فإن مبادئ العدالة والإنصاف واتجاه الضمير الإنساني إلى مكافحة كل أشكال اللاعقاب، أديا إلى تغيير النظرة إلى مفهوم السيادة الذي عرف نوعا من الليونة يقتضيها إحقاق العدل ومكافحة الإفلات من العقاب، خصوصا أن الجهود الفردية للدول في الوقت الراهن لم تعد قادرة على مواجهة مختلف الجرائم التي لا تعترف بالحدود الإقليمية للدول، وأصبحت تشكل خطرا على استقرار الدول واطمئنان السكان بسبب شراستها وقوتها التدميرية.
نستنتج من ذلك أن القانون الدولي قد خفف من التشدد في النظرة إلى مفهوم السيادة، ويتجلى ذلك بوضوح من خلال إقرار مؤسسات منظمة الأمم المتحدة لاتفاقيات مفتوحة أمام الدول، كاتفاقياتها لمنع المخدرات، ولمكافحة الفساد، ومحاربة الجريمة المنظمة عبر الوطنية، ومعاهدة روما للمحكمة الجنائية الدولية، المعتبَرة مكملة للقضاء الوطني لا تتدخل إلا إذا كانت الدولة غير قادرة أو غير راغبة في ممارسة اختصاصها بشأن الجريمة، وتكون الدولة غير راغبة في المحاكمة أو بسط الاختصاص إذا كانت الإجراءات التي قامت بها بهدف حماية الشخص المعني، أو لوجود تأخير لا مبرر له يتعارض مع النية في تقديم الفاعل إلى المحاكمة أمام القضاء الوطني، أو أن الإجراءات ابتعدت عن الاستقلالية والنزاهة، أو لا تجسد نية الدولة في تقديم الجاني للعدالة، كما تكون الدولة غير قادرة على المحاكمة لتحل محلها المحكمة الجنائية الدولية من حيث الاختصاص، إذا لم يتوفر لديها نظام قضائي، أو إذا انهار كليا أو جوهريا لدرجة عجز الدولة عن إحضار المتهم والحصول على الأدلة والشهود، أو لأي سبب يعيق الاضطلاع بإجراءات المحاكمة.
ورغم كون ولاية المحكمة الجنائية الدولية تمتد إلى الجرائم المرتكبة داخل تراب الدول الأطراف، وأن قضاتها يمارسون سلطاتهم على أقاليم تلك الدول، فإن المحاكم الدستورية بعدة دول لم تر في ذلك انتقاصا لسيادة الدولة، لأن المحكمة الجنائية الدولية لا تمثل سيادة أجنبية مستقلة عن إرادة الدول، وأن الدول الأطراف هي التي أنشأتها، بناء على معاهدة أصبحت تسمو على القوانين الوطنية للدول الأطراف.
ولعل النموذج المغربي في مجال ملاءمة التشريع الوطني مع أحكام القانون الدولي الإنساني ترجمه مشروع القانون الجنائي المعروض للمناقشة أمام لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب منذ 2016، تماشيا مع تصدير الدستور وقوانين المملكة وهويتها الوطنية الراسخة، والفصل 23 من الدستور الذي نص على تجريم الإبادة الجماعية وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، وكافة الانتهاكات الجسيمة والممنهجة لحقوق الإنسان لإضفاء الحماية على ضحايا النزاعات المسلحة ومكافحة جميع أشكال اللاعقاب.
وفي هذا الصدد فإن مشروع القانون الجنائي المغربي 10.16 وفي إطار الملاءمة مع نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية، نص في الباب السابع مكرر على جرائم الإبادة الجماعية في الفصل 1-448 والذي يعاقب بالإعدام مرتكبي جرائم القتل العمدي لأفراد جماعة قومية أو إثنية، أو دينية أو عرقية بقصد الإهلاك الكلي أو الجزئي، كما اعتبر الفصل 448-2 إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة، أو إخضاعها عمدا لظروف معيشية قاسية لإهلاكها، أو فرض تدابير منع الإنجاب داخل الجماعة أو نقل الأطفال قسرا إلى جماعة أخرى، أفعال إبادة جماعية وعاقب عليها بالسجن المؤبد.
كما اعتبر الفصل 448-3 القتل العمدي في إطار الهجوم الواسع النطاق أو المنهجي ضد مجموعة من السكان المدنيين وعن علم بهذا الهجوم جريمة ضد الإنسانية وعاقب عليها بالإعدام، وفي نفس الفرع اعتبر الفصل 448-4 مجموعة من الأفعال جرائم ضد الإنسانية وعاقب عليها بالسجن المؤبد إذا ارتكبت في إطار هجوم واسع النطاق ضد مجموعة من السكان المدنيين وحصر هذه الأفعال في الإبادة، والاسترقاق وإبعاد السكان، والاضطهاد، والاختفاء القسري.
كما اعتبر الفصل 448-5 السجن أو الحرمان الشديد من الحرية بشكل يخالف القواعد الأساسية للقانون الدولي، والتعذيب والاغتصاب وهتك العرض والاستعباد الجنسي، والإكراه علي ممارسة البغاء اأو الاكراه على الحمل والولادة، أو الحرمان من القدرة التناسلية، أو التمييز المرتكب المؤسس على الاضطهاد من قبل جماعة عرقية تجاه جماعة أو جماعات عرقية أخرى، جرائم ضد الإنسانية وعاقب عليها بالسجن المؤبد.
وفي إطار ملاءمة القانون الجنائي المغربي مع معاهدة روما، نص الفصل 448-6 على جرائم الحرب وعاقب بالإعدام من ارتكب قتلا عمديا ضد الأشخاص المشمولين بحماية القانون الدولي الإنساني وقت النزاع المسلح.
كما اعتبر الفصل 448-7 العديد من الأفعال جرائم حرب وعاقب عليها بالسجن المؤبد، كالتعذيب وإجراء التجارب البيولوجية، وتجويع المدنيين، وتوجيه الهجمات ضد الأهداف الطبية ووسائل النقل والأفراد من مستعملي الشعارات المميزة والمبينة في اتفاقيات جنيف طبقا للقانون الدولي.
واعتبرت جرائم حرب كذلك بمفهوم الفصل 448-9 ورتبت عقوبة السجن المؤبد، أفعال قتل أو جرح المستسلمين عن طواعية، وتجنيد الأطفال دون سن 18، والاعتداء على الكرامة والمعاملة المهينة، والاغتصاب والاعتداء الجنسي واستخدام الأشخاص المحميين كذروع بشرية، وإصدار أوامر بتشريد المدنيين، ونهب البلدة أو المكان.
وفي إطار التصدي لجرائم الحرب ودائما في إطار ملاءمة التشريع الوطني مع القضاء الدولي، اعتبر الفصل 448-10 بعض الأفعال جرائم حرب وعاقب عليها بالسجن المؤبد، كإصدار أمر لتهديد العدو بأعمال قتال تكون نيتها عدم الإبقاء على أي أحد قيد الحياة، أو إساءة استعمال علم الهدنة أو علم العدو أو شارته العسكرية، وكذا الشعارات المميزة لاتفاقيات جنيف، وينتج عن ذلك موت الأشخاص، أو استخدام السموم والغازات الخانقة، أو استخدام الرصاص الذي يمنع القانون الدولي استخدامه في النزاعات المسلحة، أو استعمال الأسلحة والمواد والأساليب الحربية المخالفة للقانون الدولي.
نستنتج من الملاءمة أن المغرب متوفر على ترسانة قانونية تحميه من تدخل القضاء الجنائي الدولي وتمكنه من بسط اختصاصه ومحاكمة مجرمي الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية طبقا لأحكام قانونه الوطني، وفي إطار التزاماته الدولية، وتعزيز ترسانته القانونية الوطنية لمواجهة هذه الجرائم، بالإضافة إلى تجريم الاختفاء القسري والاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين والتحريض على الكراهية وإعادة تنظيم مقتضيات جريمة التعذيب، من أجل بناء نظام عدالة وطني، قوي مستقل، نزيه ومتخصص ومتلائم مع التعاون القضائي الدولي، بهدف مقاومة الجرائم والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتتبع المجرمين وشل حركتهم والسيطرة على قوتهم المدمرة.