تأملات في تفريخ “المحللين السياسيين” في القنوات العربية كتبتها قبل عامين، ولا تزال تستشري في تضليل الرأي العام.
من يوميات سوق قراصنة التحليل السياسي!
يساهم تعدّد وسائل الإعلامية المرئية والمسموعة والبرامج الإخبارية على مدار الساعة في تخريج، إنْ لم نقل “تفريخ”، عدد متنام من “المحلّلين السياسيين” عبر الشّاشات سواء من أهل الكفاءات الفكرية أواللاكفاءات الهلامية، وهم بذلك أصناف متباينة:
1) صنف أوّل يرتدي عباءة “محلّل سياسي” يتحدّث عن شؤون السياسة والأمن والاقتصاد والاستراتيجية والإرهاب، ولا يمانع في التعليق حتى على العواصف الاستوائية في جزر الموز. ولا يقدّم سوى بديهيات أو معلومات استقاها من مواقع إلكترونية مما يشكل حصيلة لا تنفع المشاهد. يتحدث المحلل، ولا ينطق التحليل الموعود كمن يأخذك حتى ضفاف النيل، ويعود بك عطشانا!
2) صنف ثان يُنَصِّبُ نفسه “رأس الحَرْبة” الإعلامية للنظام القائم في محاولة لتعظيم وتفخيم وتهويل ونفخ بعض “الأحداث الكبرى” وإنْ كانت صغيرة، أو تطبيع بعض الكبائر وإن كانت محظورة ثقافيا أو اجتماعيا، أو إعادة اختراع الدائرة على أنّها مستطيل وإنْ ظلت تحتفظ بشكلها الدائري. وهذا الصنف بالمناسبة من خريجي مدرسة الرّقص الشرقي يتبرّجون بوسط أجسادهم الفكرية على إيماءات عازف الإيقاع السياسي. هم متمرّسون أيضا بالضرب على الدفوف والبنادر والنواقيس وحتى النفخ في المزامير حسب الحاجة من أجل إبهار الجمهور عند استعراض “عبقرية” الحاكم، أو إعلان “حروب” كلامية على الأعداء، أو “إسقاط” طائرات وهمية على طريقة بعض ديناصورات الإعلام الرسمي في القرن العشرين! تراهم يدخلون في جمل لا يعرفون الخروج منها، يُعقّدون الأمور أكثر مما يُفكّكون التعقيد، يعانقون التّجريد أحيانا فيضيعون ويضيع معهم الجمهور وسط الضباب، فضلا عن إيماءات وحركات أيدي متناثرة على غرار بعض المتفلسفين الذين اختلط عليهم الحابل بالنابل! وكما قالت إحدى المعلّقات على الفيسبوك “عندما يفقد المحلل المنطق يصبح التناقض صارخا بين الكلام والحركة، أصبحت هذه المسالة تتكرر دائما مع هذا الشخص “الكاري حنكو” (كناية عن المتطفل على ما هو أعلى من قدراته) والمقحم في جميع المواضيع”!
3) صنف ثالث يفتعل المعارضة والمشاكسة والضّجيج ويركب حصان طروادة، وله في ذلك مآرب أخرى! تراهم ينتقدون ويرفعون أصواتهم لإثارة الانتباه إليهم من بعيد. لكنّهم سرعان من يقلبون قمصانهم الأيديولوجية حالما تكتمل “الصفقة” مع المركز، ويحظون بالدعوات لحضور بعض المؤتمرات أو يحصلون على حوافز معنوية ومكاسب مادية، بل ويصبحون في مقدمة “الجوقة الإعلامية” للتطبيل و التبندير عند كل مناسبة من مناسبات الفتح السياسي المبين!
وهؤلاء قراصنة أكثر خطورة من الصنف الثاني لكونهم يكرّسون “العهر” الأيديولوجي باسم المعرفة السياسية والألمعية الأكاديمية في زمن تراجعت فيه مقاييس الفرق بين المعرفة الموضوعية والاحتيال باسم “محلل سياسي”، وينخدع بهم بعض الجمهور لبعض الوقت، وليس كل الجمهور لحسن الحظ!
4) صنف رابع لا يعتمد الصّخب ولا يُهرول نحو الكاميرات أو الميكروفونات، بل يقدّر المسؤولية الفكرية والأخلاقية أمام الجمهور. ينطلق من قناعة متغرّسة بأنّ على المحلل السياسي الجدّي أن يقدّم قيمة مضافة في تفكيك الخبر، وما يتشابك خلف الحدث، والعلاقات المباشرة وغير المباشرة بين حدث وآخر. هؤلاء ينطقون بما يتأتّى من خبراتهم وأبحاثهم الفعلية وحصيلتهم المعرفية بالسياسة والعلاقات الدولية والدبلوماسية والتاريخ وسائر الروافد المتصلة ببلورة تلك الحصيلة المعرفية. لكنهم مقتنعون بقاعدة “علمتُ شيئا وغابتْ عني اشياء”. ويبقى هؤلاء الفئة الأقل عددا في سوق التحليل السياسي.