عرفتهم فعرفت فيهم البساطة والبراءة – ولن أقول بأي حال من الأحوال (السذاجة) – أسرة ارتبطت بالأرض ارتباطاً وثيقاً.. وارتبطت بالعمل فهم لا يكلون ولا يملون.
في أطراف قريتنا كانوا يعيشون، يزرعون الأرض المعطاء بكل أنواع الفواكه والخضار، فتحسب أرضهم قطعة من الجنة.
كانت فرحتهم شديدة عندما وصلتهم المياه من الصنبور، وكانت الفرحة أعظم يوم أضيء منزلهم المتواضع بالكهرباء، وكانت سعادتهم وفرحتهم أعظم وأعظم بكثير عندما ابتاع لهم الأب جهاز التلفاز الملون.
كنت أتردد عليهم في زيارات متقطعة بحكم الجوار والصداقة، فكنت ألمس فيهم البساطة بأجل معانيها، وأعهد البراءة بأسمى آياتها، فأردد بيني وبين نفسي: “بأن الدنيا ما زالت بخير”.
أصر رب الأسرة على حضوري في اليوم التالي إلى منزلهم لحضور حفل غداء يجتمع فيه الأهل والجيران والأصدقاء، بطبعي لم أسأله كثيراً عن الأسباب والمسببات، المناسبة أو المناسبات، واكتفيت بقبول الدعوة.
لم أجد غضاضة في اصطحاب بعض الأصدقاء إلى الوليمة، خاصة وأن هؤلاء الأصدقاء كانوا من الحميمين للأسرة أيضاً، وكانوا ممن وجهت لهم الدعوة أيضا.
أبى المضيف إلا أن يجلسنا في مكان قريب منه.. بل إلى جانبه، راح يمطرنا بعبارات الترحيب التي لا تنتهي، والمجاملات البريئة والابتسامات العذبة النابعة من القلب، وحتى لا نشعر بالملل لحين حضور الطعام، راح يحدثنا بأسلوب مرح فكه.. وهو يوجه حديثه لي بشكل خاص:
– تصور يا أستاذ.. تصور أن زوجتي أبت إلا أن تقوم بعمل هذه الوليمة إكراماً لهما!! فهي قد أحبتهما كثيراً، وتعاطفت معهما، إنهما “وحيد”.. و”سامية”.. لقد أحبتهما كثيراً، وعاشت معهما لحظة بلحظة قصة حياتهما، إذا سهرا سهرت، إذا سعدا سعدت، إذا أرقا أرقت، وإذا تألما بكت وانتحبت.
– لقد أقسمت أغلظ الأيمان، وأخذت على نفسها عهداً أن تقوم بعمل وليمة ضخمة تدعو إليها أبناء القرية ونساءها إذا تم للشابين الزواج، وها هي تبر بقسمها وتفي بعهدها وتقيمها وتدعوكم جميعاً إليها.
في بعض الليالي.. وفي أعماق الليل، كنت أستيقظ على زوجتي فأراها غارقة في الدموع.. تجهش بالبكاء كمن فقد عزيزاً غاليا.. أنهض من فراشي.. أواسيها.. أخفف عنها، أكفكف دموعها، أطيب خاطرها.. إلى أن تهدأ، فأستفسر منها عن سبب البكاء المر الأليم، فتجيبني من بين الدموع بأن الظروف القاهرة وقفت حائلاً دون لقاء “وحيد” و”سامية” وأنها رأت “سامية” تبكي للموقف بحرقة، فتأثرت بها وبكت.
في ليالٍ أخرى كنت أستيقظ من نومي على صوت ضحكات وسرور وهناء، وأفتح عينيّ لأرى زوجتي وهي تبتسم، تضحك.. تقهقه بسعادة، فأستفسر منها عن الأمر، فترد عليّ بأن “وحيد” و”سامية” قد التقيا مرة أخرى، وتؤكد بأنها رأت بريق السعادة في عينيهما، ورأتهما يضحكان فرحين مسرورين، فسعدت لسعادتهما وضحكت لضحكاتهما.
ما يقارب الشهر، وأنا أرى زوجتي مشدودة منفعلة بين فرح وترح، سرور وشقاء، سعادة وبكاء، إلى أن انتهت المشكلة.. مشكلة “وحيد” و”سامية” أخيراً، وتم اللقاء بينهما، وتم الزواج، ولم تجد زوجتي بدّاً والحال كذلك من الوفاء بالتزامها وقسمها، وعمل الوليمة التي تعهدت بالقيام بها إذا تم الزواج.
أنهى مضيفنا حديثه وهو يبتسم ابتسامة عريضة، بدوري لم أكن أعرف من هو “وحيد” أو من هي “سامية” ، ولكنهما بالتأكيد وحسب اعتقادي كانا أحد أبناء العائلة والأسرة.
وصل الطعام تسبقه رائحته اللذيذة، أبى المضيف إلا أن يقدمه لي بيديه، ناولني قطعة لحم لا بأس بها، وقبل أن أضعها في فمي بادرته:
– دعني أقدم لك التبريكات والتهاني بمناسبة زواج ابنك “وحيد”.
نظر المضيف نحوي بغرابة والابتسامة الجذلة تملأ وجهه:
– وحيد ليس ابني يا أستاذ .
تداركت بأنني قد أخطأت بعض الشيء بالأمر، إذ يبدو بأنه قد أقام الوليمة لابنته العروس، وليس لابنه.. فتداركت الأمر بسرعة:
– معذرة سيدي.. إذاً دعني أقدم التبريكات والتهاني بمناسبة زواج ابنتك الغالية “سامية”.
بادرني المضيف بابتسامة أعظم وأكبر:
– أيضاً “سامية” ليست ابنتي.
شعرت بالحرج الشديد.. إذ يبدو بأنهما من أبناء العائلة وليسا من أبنائه.. بادرته:
– على كل حال فإن فرح العائلة هو فرح الجميع، وفرحتك أنت أيضاً.. “وحيد” هو ابنك لأنه ابن العائلة.. و”سامية” ابنتك لأنها ابنتها أيضا.
أصبح وجه المضيف كله ابتسامة.. غطته الابتسامة بالكامل:
– لا يا أستاذ.. هما ليسا من أبناء العائلة.
شدهت للأمر.. توقفت قطعة اللحم في يدي..
– إذاً.. هما أبناء الجيران؟؟
– ولا هذه يا أستاذ..
– إذاً.. هما من أبناء القرية.
– ولا هذه أيضاً.
– إذاً.. أخبرني بالله عليك من هما “وحيد” و”سامية”؟؟!!
– نظر المضيف نحوي بتعجب واستغراب وعتاب:
– ماذا بك يا أستاذ؟؟.. إنك تدعي بأنك مثقف.. مطلع..
– وما شأن الثقافة والاطلاع بهذا الزواج؟؟!!
– لهما شأن كبير..
– وكيف ذلك بالله عليك؟؟!!
– ألا تشاهد التلفزيون يا أستاذ؟؟!!
– أشاهده طبعاً..
– ألم تشاهد المسلسل المسائي الأخير؟؟
– شاهدته فعلاً..
– ألم تشاهد الشاب والفتاة أبطال المسلسل؟؟
– نعم.. رأيتهما.. ما شأنهما؟؟!
– ما شأنهما؟؟!!.. إن لهما كل الشأن.. إنهما بطلا المسلسل الذي أقسمت زوجتي إلا أن تقيم الوليمة ابتهاجاً وفرحاً بزواجهما في نهايته؟؟!!
تنويه: النص بريء جداً.. اجتماعي جداً.. وليس له أي بعد سياسي.. اللهم إلا إذا رأى القارئ ( المتلقي ) غير ذلك ؟؟!!