بيع الجسد قسريا، الوجوه المظلمة للمجتمعات الأوروبية

0
53

ما زال موضوع “بيع الجسد” من الموضوعات التي تشغل الباحثين الاجتماعيين الأوروبيين، رغم الاختلاف في التشريعات المرتبطة بتقنين العمل في الدعارة بين كل بلد وآخر داخل الاتحاد الأوروبي.
من الثابت أن إطار هذه الممارسة يرتبط بالضرورة بكثير من المشكلات التي تبدأ من مستوى التهديدات الأمنية الصغيرة في المناطق “الحمراء”، كانتشار بيع المخدرات وأعمال السرقة، وصولاً إلى مستويات أكثر تعقيداً من الجريمة المنظمة وعمليات الاتجار بالبشر.
يمكن النظر إلى مسألة بيع الجسد هذه بشكل تبسيطي مفاده أن الأمر لا يستحق العناء وأنه ما دام خياراً شخصيا فلا مشكلة، لكن نظرة أكثر عمقاً يمكن أن توضح لنا أن الأمر ليس بهذا التبسيط وأن ممارسة الدعارة ليست، على الأقل في الغالب الأعم من الحالات، مجرد خيار فردي طوعي لفئة اختارت أن تدخل هذا المجال من أجل التربح بجسدها، إذ تثبت الدراسات والأعمال الاستقصائية أن عاملات الجنس هن في الغالب فئات تنتمي إلى طبقات اجتماعية دنيا لم يكن لديها خيار آخر لكسب الرزق.
بهذا يمكن للأمر أن يكتسب أبعاداً متعددة أهمها بلا شك البعد الاجتماعي الذي يمكن طرحه عبر مواجهة السؤال التالي: ما الذي يجبر إنساناً في إحدى بلاد الرفاه الاجتماعي التي تسعى لتوفير العيش الكريم لجميع مواطنيها على بيع نفسه؟
إجابة هذا السؤال لن تنحصر في الجانب المتعلق بالدراسة الاجتماعية التي تهتمّ بمعرفة الخلفية الخاصة بعاملات الجنس، ولكنها ستتعدى ذلك إلى الجانب السياسي وفشل الاتحاد الأوروبي في صياغة تشريعات موحدة وحاسمة وكفيلة بالقضاء على أسواق تهريب البشر وتجارة الأجساد.
للتوضيح يمكن القول إن أوروبا تتعامل مع هذه القضية بمناظير مختلفة، بين دول تجعل الدعارة وما يرتبط بها من مواخير نشاطاً غير قانوني، ودول أخرى ترى بالمقابل أن تقنين هذا النوع من الأعمال واعتباره مجرد نشاط تجاري قد يكون أفيد للعاملات وللزبائن، بل ولمجمل الاقتصاد، من أن يتحول كل ذلك إلى ظل بعيد عن الرقابة.
تقنين الدعارة لا يساهم في حلّ الأزمة بقدر ما يعمل على تعقيدها، لأنه يوحي إلى العاملات بأنهن يعملن عملاً شرعياً، وبأن القانون يكفل حقوقهن، في الوقت الذي يكُنّ فيه، في الغالب، بلا حقوق ومجرد ضحايا لعصابات المافيا التي تجعل أجسادهن رهينة للاستغلال. من جهة أخرى فإن هذا التقنين يوفر مساحة صغيرة جدا لتدخل الشرطة التي تجد صعوبة في التفريق بين مافيا البشر وغيرها من المنظمات “الشرعية” التي تقدّم خدمات معلنة، وهو ما يجعلها لا تستطيع التحرك إلا في حالة وجود شكوى صريحة.
تخلق هذه التناقضات أوضاعاً فريدة من نوعها في ظلّ الانفتاح والتداخل الحدودي بين دول الاتحاد الأوروبي. في الحالة الفرنسية مثلاً لا يفيد التشدُّد على المستوى الوطني في منع أعمال الدعارة كثيراً، ما دامت متاحة في دول الجوار. بلدات إسبانيا الحدودية، على سبيل المثال، تشتهر بوجود أكبر المواخير الأوروبية، وإذا كانت العاملات قد اضطُررن إلى الانتقال إلى هناك بعد تجميد نشاطاتهن في الداخل الفرنسي، فإن الذي حدث هو ببساطة لحاق زبائنهن بهن. النتيجة أن تكدُّسهن على الحدود أدّى إلى تزايد المنافسة وإلى توفير خدماتهن بأسعار زهيدة.
على صعيد آخر، تلفت قضية عاملات الجنس أيضاً إلى وجود مشكلة في بنية الاتحاد الأوروبي الذي أصبحت دوله الأكثر غنىً بيئةً مهيَّأة لاستغلال واستعباد أبناء الدول الأكثر فقراً. هذا الأمر ينسف فكرة الاتحاد الذي كان يُفترض أن يُبنى على التضامن بين المجتمعات والشعوب ويجعلها بلا معنى.
ومؤخراً عرضت قناة ARTE، وهي قناة أوروبية رصينة، فيلماً وثائقياً عن موضوع “الدعارة القسرية”، كان موضوعه مناقشة كيف يتم بشكل فعلي استغلال حاجة الفقراء إلى المال من أجل إدراجهم في سوق بيع الجسد، أو ما كان يُعرف سابقاً بسوق النخاسة. ركز الوثائقي على ألمانيا التي وُصفت بـ”ماخور أوروبا” وبـ”جنة شبكات الدعارة”، وكان ذلك مثالاً جيداً بوصفها إحدى دول الرفاه المتقدمة التي تُعتبر مقصداً مهماً للراغبين في تحسين حياتهم من داخل وخارج الأسرة الأوروبية.
يخلص الوثائقي إلى أن أغلب عاملات الجنس ينحدرن من دول الشرق الأوروبي الفقير، وبشكل خاص بلغاريا ورومانيا، وتتجول الكاميرا في تلك الدول لبعض الوقت من أجل تتبُّع الظروف التي تقود آلاف النساء إلى ترك عائلاتهن وأطفالهن من أجل البحث عن المال، كما تقود بعض الأهل والأقارب إلى بيع بناتهن المراهقات لعصابات الاتجار بالبشر.
يركز العمل الوثائقي أيضاً على التناقض بين الشرق الأوروبي حيث الفقر والفساد ونسب الأمية العالية، والغرب المزدهر، ويوضح كيف أن الانتقال إلى دول مثل ألمانيا وسويسرا والنمسا هو بمثابة الحلم المشترك لكثير من المراهقين الشرقيين من أبناء العائلات المتوسطة والفقيرة الذين يرغبون في تحسين حياتهم والذين يعتبرون أن بلادهم لا تستطيع توفير المستقبل الذي يريدون. اللافت في هذا العمل أنه لم يقصر المشكلة على عصابات التهريب والاتجار بالبشر التي تخدع الفتيات وتغريهن بوجود أعمال مناسبة قبل أن يجدن أنفسهن متورطات في أنشطة دعارة، بل اعتبر أنه، حتى في الحالات التي يبدو فيها أن الفتاة اختارت هذا الطريق طواعية، فإنها لا تكون في الواقع مالكة لخيارها، وهو ما يتضح حين تتاح لها فرصة عمل أكثر احتراماً لإنسانيتها فتقبلها بلا تردد. أضف إلى ذلك أن كثيرات ينجرفن إلى هذا المجال في سنّ المراهقة بسبب مشكلات عائلية ولمجرد الهرب من المنزل أو بحثاً عن الاستقلال المادي.
إنهاء استغلال الفقراء قد يبدأ من تجريم العمل بالدعارة، لكن باباً آخر بدأ بعض الناشطين محاولة طرقه، وهو توعية الزبائن بالجرائم المركبة التي يقترفونها وهم يبحثون بأنانية عن ملذاتهم، فدُونَ زبائن راغبين في شراء الجسد لن يكون لبيعه معنى. هذا المدخل يبدو صعب التحقيق وبعيداً عن الواقعية، وهو يبدو لي أشبه بمحاولة إقناع المستهلكين بمقاطعة المنتجات التي تُنتَج في دول لا تحترم حقوق العمال، أو تشتهر باستغلالهم، إذ يُظهِر عدد قليل من المستهلكين اهتماماً بظروف صناعة الملابس التي يرتدونها أو المنتجات التي يستهلكونها. رغم ذلك فإن مدخل مخاطبة الزبائن شائع في الدول الإسكندنافية كالسويد التي مضت أبعد من ذلك إلى حد تجريمهم بشكل رادع. قد لا تكون تلك الاستراتيجية أنهت الظاهرة بشكل تام، لكنها على الأقل نجحت في تخفيف مظاهر عرض الأجساد على الشوارع، وفي تعقيد عمل الشبكات الإجرامية على الأراضي السويدية.
محاولة “إنقاذ” العاملات في الجنس والسعي لمنحهن خيارات أفضل لكسب الرزق هي أحد المجالات التي يعمل فيها كثير من المنظمات في ألمانيا وفي غيرها من دول الاتحاد، وهي تبدو مبادرات مجتمعية إيجابية في مواجهة عجز الأطر الرسمية عن الحل. هذه المنظمات التي تحاول توفير المأوى والاحتياجات الأساسية لضحايا الاستغلال تجد دعماً كبيراً من الأطباء والمتطوعين والمانحين المحليين. مساعدة العاهرات كانت فكرة صعبة التقبل في البداية، تماماً كصعوبة تقبُّل فكرة تَعرُّض عاملات الجنس للاغتصاب أو الاستغلال. كان ذلك يتسبب في حصولهن على قليل من تعاطف العامة، لكن لحسن الحظ، فإن هذا الأمر تَغيَّر الآن، وهو ما يوضح وجود وعي على مستوى كبير بحجم وتعقيدات المشكلة.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here