تمتاز تجربة زكية المرموق بنهج عجيب، فهي تضفي الأطر فوق الأطر، وحلقة تتداخل بحلقة في توظيف وصفي لمشاهد عدة بالمجمل، أي من هذه المشاهد لا يؤدي الوظيفة المباشرة للمعنى وإنما تستبدل الوظيفة بطريقة فذة لتدخل القارئ أو المتلقي في فوضى الصورة التي تجيد إثارتها، وحالما ينجلي الغبار عن أول موقف تستدرك المعنى، هذه المحترفة تجيد التلاعب بذهن المتلقي لتخلق عوالم تحكمها بصرامة. زكية المرموق شاعرة ربما يصح القول عنها بأنها ظاهراتية، وهذا قول أدق في التوصيف من كون الأسلوب وصفي وفق أسلوب الرواية الجديدة، إذ أنها تعتمد من خلال الوصف استدعاء السياقات المضمرة وهو الذي يدحض الرأي القائل بعدم عمق شعر زكية المرموق. أنا شخصيا كقارئ أعتبرها رائدة في مضمارها وأقف حائرا كناقد في تنسيب شعرها مع أني أستخدم توصيف الظاهراتية الشعرية، وسبب حيرتي هو أنني لا أستطيع تنسيبها إلى التفكيك أو البنيوية التوليدية، مع أن نصوصها تنطوي على مثل هذا الأمر، لكنه ليس بالانطواء الصريح، إذ أن الإطارية التي تنتجها بحكم تركبها وتشاكلها تنتج فائض المعنى. مثلا لنأخذ:
” تقول الصحراء لآخر قافلة مرت من هنا
ما شردتني سوى الذاكرة
لا زلت أبحث عن دمي في الريح
وعن ورثتي
لكن النهر لا يعود أبدا
من حيث أتى “.
تستنطق الصحراء في توصيف مزدوج للهجرة الإفريقية إلى أوروبا وفي لوم مزدوج للذاكرة، أي بمعنى التراث المتحجر على عتبة الأزمنة الغابرة، ومن الضحية؟ إنه الإنسان العالق هناك، أو المغامر في رحلة محفوفة بالمخاطر إلى عالم النور، أوروبا ، الصحراء تنطق بالموروث الثأري وذكريات العصور الزاهية، هي لم تتقبل الانكفاء في هذه الأطر المتداخلة إنما تتحدث زكية المرموق عن الحراك الاجتماعي والتاريخي لشعوب المنطقة ولحظات الاحتضار لهذه الشعوب التي تأبى الاعتراف بذلك.
هناك تكمن أهمية زكية المرموق، في إنجازها الشعري، العمق أنت مسؤول عنه كمتلقي.
في المقطع الوصفي المتراكب والمكمل، تشير إلى تاريخانية هذه الصحراء العامرة بحقول الألغام، في الحرب الكونية واللافظة لأبنائها، هذه الأوطان أرض منفى وإقصاء وتاريخ دموي.. تأبى أن تغير سيرتها..
” ظهري حقل ألغام
صدري يعج بالنازحين
والعالم تاجر أعضاء
بشرية “..
حياك الله أيتها المرموقة.
كأي كلام عابر بين أحد
ولا أحد
أقتفي أثرك
وأقول للهواء
ما أبعدك!
أتمدد في ليل عينيك
بالهديل أقطف رمان صوتك
أتشتت في محبرة
وأقول للمسافة
ما أوجعك!
كل الذين دخنوا دمي
دلقوا دمهم في لعبة نرد..
المشهد الآن بدون حبكة
الجمهور لا يحمل واقيا
ضد العبث
وحينما تضجر الكراسي
يا بكيت
تأكل النص
فتبلع الستائر الخشبة
ترى هل هناك باب خلفي للحكاية
أيها الببغاء؟
تتساءل رصاصة جائعة
وهي في طريقها الى المدرسة
أيها الديك
حينما يحضر الجواب حصة الدرس
بكل حقوله
قبل أن يولد الجواب
يأكل الصباح لسانه
من يدري الآن ماذا يحمل الحلزون وهو يقتحم خلوة
العاصفة
بيتا
خوذة
ورما
أم حجارة؟
مرعب ما تدسه وصلات الإشهار في الوسائد
وعدد المسبحات في التكايا
أكبر عدد من عدد الدراويش..
يا لله
توشوش جثة للسماء حينما نامت الجدران
من يستبدل الحصير بريش
اليمام
هو من قتل الغابة..
الصقيع
شرفة صدئة
وامرأة في أقصى زاوية على الورقة
تحرس عشب الفكرة
من قنافذ اليقين..
تقول الصحراء لآخر قافلة مرت من هنا
ما شردتني سوى الذاكرة
لا زلت أبحث عن دمي في الريح
وعن ورثتي
لكن النهر لا يعود أبدا
من حيث أتى..