من المؤكد أن القلق من الوجود الإسلامي في فرنسا واقع وحقيقة، ومن المؤكد أيضاً أنه ليس جديداً.
ما الذي جعل ذلك يتصدر اهتمامات السياسة الفرنسية في السنوات الثلاثين الماضية فيوليه رؤساء الدولة المتعاقبون اهتماماً خاصاً دون باقي الديانات، حتى يصل مع الرئيس ماكرون إلى التخويف من جميع المسلمين؟ وما دور المسلمين والمؤسسات الإسلامية في إذكاء القلق أو التخفيف منه؟
من إسلام باهت وافد إلى إسلام مواطني واعٍ متجذر:
لقد شهدت فرنسا وفود أعداد كبيرة من المسلمين للعمل إبان استقلال مستعمراتها، إذ تركتها قاعاً صفصفاً بعد أن أهلكت الحرث والنسل وأوقعت خلال مواطنيها وما بين الدول الفتنة والفرقة لسنوات طويلة. كان الوافدون مهاجرين يبحثون عن فرصة حياة أفضل في ظل دولة مستقرة سادت دولهم لأكثر من قرن. ولكن الذي كان يغلب عليهم هو انعدام التحصيل العلمي والحرفي/ المهني، فعملوا في ميادين هامشية لا تتطلب دراية ولا حسن تدبير، وسكنوا في أطراف المدن في أحياء قصديرية متهالكة، أو مساكن خصصت لهم دون غيرهم لا ترقى إلى أن تعتبر لائقة بمن يسكنها من الآدميين. ثم سرعان ما تطورت الحالة لينتقل إلى فرنسا طالبو التعليم الجامعي ليشكلوا أهم شريحة سنوات الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. تطور استقبلته فرنسا بترحاب وهي تبحث عن الإطارات في مختلف المجالات، فكانوا سبب ثراء وتنوع مهم في المجتمع دون أن تتناسب أدوارهم ومكانتهم مع ما يقدمونه من إضافة نوعية واضحة. ثم كان من الطبيعي أن ينشأ جيل جديد من صلب المهاجرين ليشكلوا الجيل الثالث. جيل متعلم مثقف واعٍ بواقعه وواعٍ خاصة بهويته وأصوله التي اكتشف أن المسافة ما بينها وبين الأجداد تتسع، فبادر إلى إحياء الشعور بالانتماء عبر التتلمذ على الجيل الذي وفد من البلاد العربية والإسلامية في الثمانينيات والتسعينيات من ناحية، وعبر الانخراط المباشر في تأسيس المدارس والمعاهد والمساجد ثم الكليات المتخصصة في اللغة العربية والدراسات الإسلامية. فلم يعد الإسلام ذاك الوافد كما أرادت أن تصوره السياسة أو الإعلام، وإنما أصبح الإسلام فرنسي النشأة والتنشئة، مستفيداً من أدوات العلم الحديث ومناهج التربية الأوروبية، ليصبح تديناً واعياً متحضراً ينهل من معينين، تاريخ الإسلام وثقافته وحضارته التي لا ينكرها الغرب نفسه، والعلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة وأدواتها.
تطورات عكس التيار:
أمام النقلة الحتمية التي حصلت للمسلمين في فرنسا كان من المنتظر منطقيا أن تستوعب الدولة الظاهرة وتتعامل معها لتتساوق مع التطور الطبيعي للمجتمع. ولكن الذي حصل هو عملية ممانعة سياسية وإعلامية أمام تفاعل اجتماعي إيجابي مهم كانت تمظهراته في مواقف سياسية راديكالية، فشهدت فرنسا أزمة الحجاب أواسط الثمانينيات، ثم قوانين لمنعه في المدارس، ثم حملات تخويف في كل مناسبة سياسية، لدرجة أن أصبح الشأن الإسلامي المدخل لولوج السياسة لكثير من الشخصيات ومنها المغمور والنكرة، ليصل الأمر إلى طلب سحب الجنسية على الشبهة ومناقشة قانون يمنع المرأة المحجبة من مرافقة أبنائها في أثناء النشاطات خارج المدارس مع منع ارتدائه في الجامعات، الأمر الذي شكل فضيحة دعت الحكومة إلى سحب المقترح.
تطور خطير أمام التحدي اليميني المتطرف:
مع تعدد العمليات الإرهابية التي يقوم بها منتسبون إلى الإسلام وجد اليمين الفرنسي الفرصة، فعمل على إحراج الطبقة السياسية والإعلامية، ودفعها إلى التحرك بقوة ضد الانتشار الأفقي للوجود الإسلامي، ولاقت هذه العملية آذاناً صاغية من الخائفين على مواقعهم أمام الزحف اليميني في السنوات الأخيرة. فليس خافياً على أحد في فرنسا والعالم أن طموحات الرئيس ماكرون وأحلامه واسعة جدا. فهو رئيس شاب استطاع أن يحيّد جميع الطبقة السياسية التقليدية باستثناء اليمين المتطرف. وأمام تحدي اليمين كان لا بد من تبني بعض مقولاته وسياساته. وليس أحسن ولا أيسر من الإسلام والمسلمين ليطلق عبارته الشهيرة أن “الإسلام في العالم يعيش أزمة ويجب أن تعالج”، ليطرح علاجاً للإسلام بفرنسا يتمثل في “ترويض” الجمعيات والمؤسسات والمدارس والمساجد والأئمة الذين يراهم خطراً على المجتمع والدولة. ثم أخذ رئيس الوزراء السابق “إدوارد فيليب” عنه عبء التوصيف، فاعتبر في إحدى تصريحاته أمام برلمانيين فرنسيين أن من علامات التطرف الإسلامي إطلاق اللحية ومضاعفة ارتياد المساجد في رمضان، ومداومة الصلاة في المساجد وإرسال الأبناء إلى مدارس اللغة العربية. لتأتي بعد ذلك الحكومة الحالية ممثلة في الوزير الأول “جون كاستيكس” والسيد وزير الداخلية الحالي “جيرالد دارمانان” ويعلنا عن البدء في إقفال 76 مسجداً ومؤسسة إسلامية، ومنع الأئمة والدعاة والعلماء غير الفرنسيين من مخاطبة المسلمين الفرنسيين، ثم ليعلن عن منع التعاون مع الدول الإسلامية في إرسال مدرسي اللغة والتربية الإسلامية والأئمة.
ماكرون وورطة الانفصالية الإسلامية:
تبريرات الوزير الأول الفرنسي كاستيكس للقانون الذي يريدونه ضد الانفصالية بالقول: “إن القانون يعزز مبادئ الجمهورية الفرنسية”، وإنه “ليس ضد الأديان بل يستهدف الفكر الخبيث الذي يحمل اسم الإسلام المتطرف”، لم تمنع المبعوث الأمريكي للحرية الدينية سام براونباك عن التعبير عن قلقه بشأن طابعه “القمعي جدا”، ويقصد القانون المزمع إصداره. كما لم يقنع المسلمين خاصة وشريحة واسعة من الفرنسيين أنه يستهدف شيئاً آخر غير الوجود الإسلامي بفرنسا، وإعلان حرب على التدين وإن كان في أبسط مظاهره والمتمثلة في العبادة الحرة، قطعاً للطريق أمام انتشار واسع قد يؤدي، حسب اعتقادهم، بعد الانتشار الأفقي المجتمعي إلى امتداد عمودي يدخل في مؤسسات الدولة وإن بالاسم والصفة دون التأثير المباشر، ثم جاء تصريح المفوضة السامية لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة كمسؤولة أممية رفيعة المستوى لتبدي مخاوفها من استهداف المسلمين عبر إجراءات خاصة وتمييزهم سلبيا عن غيرهم.
في الطرف المناقض تماماً لمعنى علمانية الدولة:
يرى كثير من المتابعين للشأن الإسلامي بفرنسا من ساسة وباحثين وحقوقيين من أمثال المفكر والفيلسوف الفرنسي “فرانسوا بورجا” أن القانون الماكروني في نسخته الحالية، والتي لم تنشر بعد ولا يزال التشاور فيها مستمرا، إنما هو نص مناقض تماماً لمبدأ العلمانية التي هي حياد الدولة تجاه الأديان دون استثناء، وعدم التدخل في شأنها الداخلي في علاقة المتدين بدينه نصاً وممارسة، وعدم دعمها مالياً أو لوجستياً، كما تفرض العلمانية على الحكام ضمان حماية المعتقد والممارسة الدينية. كما يعتبر هؤلاء المختصون أن القانون الماكروني ماسّ بالمساواة بين المواطنين، وفيه تمييز سلبي ضد المسلمين دون غيرهم لأنه، حسب السيد “عبد المجيد مراري” مدير مكتب أوروبا والشرق الأوسط لمنظمة افدي الدولية لحقوق الإنسان في حواري معه حول الموضوع، “يفرض عليهم التوقيع على تعهدات لم تطلب من غيرهم من أهل الديانات الأخرى، ويخص المسلمين بالذكر دون غيرهم”. وهذا يجعله قانوناً خاصاً بفئة معينة من المجتمع. ومعلوم بديهة ومنطقاً وقانوناً أن القوانين في الدولة الديمقراطية ودولة الحريات إنما هي عامة في شمولها لجميع المواطنين.
جدلية المشاكسة والمشاركة:
في خضم الجدل والتدافع الواضحين بين الرئاسة الفرنسية بالأصالة وبقية المكونات الحكومية بالتبعية وبين المؤسسات الإسلامية، لا زلنا نشهد هدوءاً كبيراً من الطرف الثاني، وقبولاً أوليا حذراً بالإجراءات التي اتخذت حتى الآن مع بعض التحفظات على استحياء. ما يدخل سلوك المؤسسات والشخصيات الإسلامية في خانة المتفاعل الحذر لا الرافض ولا المصادم، ولتلعب السياسة الفرنسية تجاه المسلمين دور المشاكسة ومحاولات الترويض.
فهمت الجهات الإسلامية المختلفة في فرنسا أن الرسالة الماكرونية تعني المسلمين، وأنها مزايدة يمينية قد تكون كارثية إن لم يتم التعامل معها بعقل وروية. فآثرت وإلى حد الساعة الحوار مع المؤسسة الرسمية للدولة، وتقديم مؤاخذاتها مكتوبة وشفهية دون الإعلان عنها ودون حملة إعلامية مصاحبة، على الرغم من الإشارة بالاسم من قبل وزير الداخلية إلى مؤسسات بعينها، وغلق مؤسسات أخرى مشهود لها بالكفاءة والفاعلية في الدفاع عن حقوق المسلمين كتجمع مناهضة الإسلاموفوبيا في فرنسا.
تجد المؤسسات والشخصيات الإسلامية في فرنسا نفسها اليوم أمام تحدٍّ مهم. فإما الانقياد لسياسة احتوائية فيها كثير من سوء الفهم وشيء من الاستهداف، وإما المرور إلى مرحلة أخرى من التفاعل، وهو الحوار الجدي المسؤول والإيجابي بمضامين الإسلام الوسطي المعتدل المتفاعل مع محيطه المتأثر به والمؤثر فيه، دون اعتداء على ثقافات الغير ولا تقاليده، ودون غمط للنفس وشعور بالذنب.