نجح الملك الحسن الثاني رحمه الله في تحويل فكرة السياسة من ملعب المواجهة والانقلابات إلى ملعب الاقتصاد، وذلك عندما أعطى الضوء الأخضر لرجال الجيش بالاستخدام المفرط في المال والأراضي أكثر من استخدامهم للرشاشات والدبابات. ومن هنا بدأ التحول الجدري لفكرة السياسة والتي كانت في معظمها ممارسة اللعب الذي غالبا ما ينقلك إما إلى السجن أو الموت أو الجنون.
وتجدر الإشارة أن المجتمع في تلك المرحلة (أي في فترة السبعينات) لم يكن مستقلا عن التنظيمات السياسية، فقد كان هناك ترابطا عضويا وتجانسا تاما، أي تابعا له في الفكر والمذهب، فقد كان صوت الزعيم له ثقله الكبير، وكلمته لها المكانة التي لا يمكن الاستهانة بها، إنه صوت وضمير الجماهير، عندما يصرخ تهتف باسمه هذه الأخيرة وتستجيب إلى نداءاته دون نقاش.
المجتمع المغربي في تلك الفترة الحساسة تسهل تعبئته، لأنه كان يقظا ومُتابِعاً ، يستنشق السياسة في كل مناحي الحياة، رغم نسبة الأمية المرتفعة في صفوفه، كان ينزل إلى الشارع دون أن يرفّ له جفنٌ أو يأبه لعنف المخزن، كان يرفع الشعارات القوية، والمطالب السياسية والاجتماعية، ولم يكن يطالب بأي امتيازات أو تعويضات وإنما كان همه الوحيد هو البحث عن مساحات أوسع للحريات وتحقيق الديمقراطية. ما الذي تغير مع بداية التسعينات ؟ ولماذا فكرة السياسة فقدت كل معانيها السامية ؟
كانت تكلفة العنف اللامشروع الذي واجهت به الدولة النخبة السياسية باهظا جدا، بحيث أضحى المواطن الشغوف يشعر بالرعب من ذكر مصطلح السياسة، وهو ما جعله يعطيها ظهره وينسحب من الملعب بصفة نهائية، تاركا الفراغ يلتهم كل شيء ثمين في طريقه، ويصنع البهلوانات والمعتوهين والمتسلقين والانتهازيين ومقبّلي الأيادي من الأعلى والأسفل لغرض في نفس يعقوب.
انطلاقا من هذه المرحلة تغيرت فكرة السياسة عند المجتمع، وأصبح الكل يعتبرها سوقا تجاريا يتوجب الولوج إليه لتصيد الفرص، وصنع العلاقات المهمة، وتبسيط وتيسير العقبات، والفوز بالصفقات والربح أكثر. لقد تحولت من ملعب أكثر اشتعالا وتجاذبا وإنتاجا للأفكار والمبادرات إلى مجال لفن المزايدة والكسل والتكرار واستغلال الفرص، لقد تحول المجتمع إلى كائن انتهازي بامتياز.
ولا يخفى على أحد أن توالد الأحزاب ومنها الإدارية، وكذا الانقسامات التي عرفتها بعض الأحزاب المسماة ” باليسارية ” قد ساهما بقدر كبير في إفراغ السياسة من كل مضمون طليعي، وهو ما جعل كل أطياف المجتمع تستسهل فكرة ممارسة السياسة وتعبث برسالتها النبيلة وتعتبرها بَغْياً وجب وطؤها في كل وقت وحين دون حشمة أو حياء.
انطلق كل من هب ودب من مقولة مكيافيل ” الغاية تبرر الوسيلة “، ليجول ويصول بين دروب الأحزاب السياسية، فهو في موسم الزيتون مع حزب الزيتونة، وفي موسم التفاح مع حزب التفاحة، وفي موسم الحصاد مع حزب ” موكة أو الحمامة “، فهو في نهاية المطاف يفوز ببطاقة متجول، وليست ببطاقة متحزب، ليس عليه أي حرج، وليس مطلوب منه أن يفهم في المتن الإديولوجي للحزب وتطلعاته، ولا أن يولد ويتدرج في الحزب، ولا أن يكون له فائض في الأفكار والمقترحات، كل ما يتوجب عليه هو فائض المال في حسابه البنكي والذي يتسنى له الدخول إلى حلبة الصراع، عريسا فحلا من أجل سحق خصومه ليلة العرس الانتخابي .
ومع توالي الأيام بدأت السياسة تفقد ما تبقى لها من زينة، كامرأة بدأت تشيخ وتفقد جمالها، وبعد أن كانت تجذب كل الرجال أصبحت مثار سخط وسخرية وتهميش وفقدان الثقة، لأنها لم تعد تُنْجِبُ سوى المعوقين، ليس الإعاقة الجسدية وإنما الإعاقة الذهنية. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد عم السخط عليها وبدأ الكل يلعنها في الخفاء والعلن، وأصبح الكل يتجنبها كأنها مصابة بالجرب، وهذه خاصية من خاصيات المجتمع تاريخيا، فهو شديد الاستجابة والتقرب من كل ما يستفيد منه، وشديد الحساسية والانسلال يوم يشعر بفقدان ذلك الشيء حسناته ووهجه.
وبما أن السياسة أضحت مثارا للسخرية والتهكم من طرف الجميع بعد أن كانت بقرة حلوبا، يستفيد منها الأفراد سواء كناخبين أو منتخبين، كل واحد يستفيد من موقعه بدون حياء، وفي غياب تام للمسؤولية، فهناك من يستفيد بالزبدة، وهناك من يستفيد من “زبدة الزبدة ” كما يقول المثل الفرنسي، وبعد مرور مدة طويلة من الاستغلال أصاب هذه البقرة الإنهاك الكامل، وهو ما جعل المجتمع نفسه يصل مرحلة التعب التام والتخلي عن المشاركة في هذه اللعبة والتي بات يعرفها : بـ ” اللعبة القذرة “، وبذلك فقد أصبح يفكر جديا في التخلي عنها بصفة نهائية وتعويضها بلعبة جديدة أكثر جدية، ربما خيار المقاطعة سيكون اللعبة المفضلة للكثير من المغاربة في الفترة القادمة.
هل المجتمع مسؤول عن سقوط السياسة في الغدير بعد أن تخلى عن صوته طواعية لتجار الانتخابات ؟ أم أن النخب السياسية كانت أكثر قسوة من الجلاد؟
كان الكاتب الإنجليزي الكبير جورج برنارد شو يقول :” إذا أردت أن تخدشني فاخدشني بابتسامة “، يبدو أن ثلة من السياسيين المغاربة قد تجاوزوا حدود الخدش إلى إهانة الشعب، وقد حان الوقت لمحاسبتهم وذلك برميهم في مزبلة التاريخ.