اللوحة الثالثة : لحنينة أمي
الدار الكبيرة (الخير والبركة) :
مولاي آمحمد بن مولاي الفاطمي، الأخ الوحيد الذي تستنشقين _ لحنينة أمي _ منه أريج دوار الشرفاء، حيث ترقد روح جدي منك مولاي الفاطمي في لحده بأمن وسلام، وجدتي لالة بوجة، تولاهما الله برحمته الواسعة.
من عادته التي ألفناها، ينطلق في رحلته السنوية بعد انتهاء أسبوع عيد الأضحى، من رياض الفقيه السي البشير السباعي لزيارة الأحباب والأقرباء المتوزعين عبر كثير من مدن الوطن، (بني ملال، مريرت، فاس، مكناس، الرباط، البيضاء، مراكش) صلة للرحم، وإحياء للقرابة الدموية؛ وتلك خصلته حتى التحق بالرفيق الأعلى. علاقتك به حميمية بنعومة ورقة مشاعرها؛ نسعد نحن بزيارة خالنا الوحيد والأوحد، نتحلق حوله، وهو يفترش جلد عيد أضحية العيد (الهيدورة)، التي تعودت كل عيد على دباغتها، ومشطها، بيديك الناعمتين، وأنت ترددين دندنة غنائية، لم تختزن ذاكرتي همسها وترانيمها…
خالي مولاي امحمد، من حفظة كتاب الله، ومن بركاته أنه يداوي بعض الأمراض الطفيفة التي تصيب الإنسان؛ كجبيرة كسر العظام، أو التواء عظام المفاصل (الفدع)، وعلاج بعض الدمامل بالرماد (النار الفارسية _ أم الجلود _ الحلاقم _ الأذنين)، أو (البخان).
وقد أكسبك خبرته العلاجية، خبرتها أنت لحنينة أمي؛ بعد أن منحك شيئا من بركاته (دفل ليك في يديك) حسب الذاكرة الشعبية، فكنت لحنينة أمي، مقصد الزوار المصابين بمثل هذه الأمراض…
فجر صباح كل يوم، يعج الرياض بالنساء وأطفالهن للتداوي والتبرك ببركتك( تفراكت = الفراكة)… تستقبلينهن بابتسامة عريضة كالمعتاد، بركاتك بلسم وشفاء لأمراضهن وأمراض صبيتهن. يسلمنك بقشيشا، ترفضين استلامه على مضض، فهي فقط (لبياض)
أو كما يسميها الرقاة المنسيون ب (لفتوح).
خالي مولاي امحمد، يسعد كثيرا حين نحيط به وهو يستمتع باستظهاري سورا قرآنية من اقتراحه، يدخل يده الشريفة في شكارته المعلقة على الكتف الأيمن بمجدول حريري زاهي اللون الرمادي المتناسق لونه مع لون الشكارة، يناولني حلوى (فنيد المكانة) الذي لا يبرح شكارته العجيبة، والتي تختزل قولته الشهيرة : “اللي ما يذبح شاتو، وما يخيط كساتو، آش من خير تترجى فحياتو “.. حيث تحتوي على إبرة الخياطة ومخيط ؛ وقليلا من فاكهة شجرة السدر (النبق)، وحلوى (فنيد المكانة)، هي عادته أينما حل وارتحل يقدمها هدية لصبية العائلة فرحة وسعادة بلقائهم.
في الجانب الآخر من دروب عرصة بلبركة، ودرب المعدة، بحي بوسكري المقابل لدرب الفران المركون قبالة رياض الفقيه السي البشير السباعي، يتجمع الأطفال المتمدرسون حين مغادرة المدارس مساء على الساعة الخامسة، والشباب الذين انقطعوا عن الدراسة بسبب الحاجة، أو التعثر الدراسي، أو الذين حرموا من حقهم الطبيعي في ولوج المدرسة وهم صغار لأسباب أجهلها…
نتجمع جميعنا _ وأنا أنتعش بنشوة اللعب التي حرمت منها لفترة غير يسيرة في حياة سيد الرياض _ في حلقات متناثرة عبر مسار دروب الحي؛ تتساقط شيطنة البعض منا لتحدث رجة وضوضاء ترددها أسوار الرياضات والمنازل المتراصة بشكلها الهندسي البديع؛ نتفاعل جميعنا معها بشكل عفوي…
أحمد زومري واحد من شباب درب المعدة، رجل يافع أربعيني السن، نحيف الجسم، طويل القامة، سريع الركض، يطلق العنان لرجليه حين يرمق سيارة الشرطة، أو يسمع صفارة إنذارها، ناجيا بنفسه حتى لا يضبط في حالة تلبس بين؛ وهو يتاجر في مشاميم القنب الهندي… كعادته يوميا يجلس القرفصاء، متخذا من السور الخارجي لرياض السيد وسادة يحمي بها ظهره من الاعوجاج ؛ يترقب زبناءه من المدمنين على بضاعته، القادمين من كل فج عميق، من أحياء المدينة القديمة، يبتاعون ربع أو نصف مشموم. كان أحمد زومري يعشق حبات زهر شجرة الرنج (الزنبوع) أمده بحفنة صغيرة منها خلسة عنك لحنينة أمي، يصبها في كأس الشاي المنعنع بجانبه…
عبد الغني الذي اعتدنا تسميته ب ” باغني” يفترش أرض الركن المحادي للفرن، المقابل لرياضنا، يتسارع الآخرون القادمون من حي بوسكري للالتحاق به، يشكلون حلقة دائرية صغيرة، لتبدأ لعبة التعياط( لعبة قمار الدراويش)، باغني سيد الحلقة الدائرية ما يهمه هو الظفر بالرابعة؛ الحصيصة المستخلصة من المشاركين في اللعبة، لينتشي بريعها مساء حين يحتسي قنينة خمر أحمر قاتم، ويتعالى صراخه بعد منتصف الليل…
السي أحمد لقشاشبي يستمتع، ويمتعنا بأنغام محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وسيدة الطرب، ومحمد فويتح والغرباوي وغيرهم من فحول الغناء المغربي الأصيل، وهو ينهر المتعلم الصغير، كلما غفل عن مسك البرشمان بحنكة ومراس.
بوجمعة الخراز يتوجس اقتناص الكرة البلاستيكية التى نتقاذفها بين أرجلنا لترتطم بدفة حانوته الخشبية ؛ فيطلق لسانه للسب والشتم…
عبرود هو الآخر لا يسلم من لسانه طفل من أطفال الدرب؛ غالبا ما يفترش عتبة باب منزل أخته الباتول، يتخذ من السبسي وصندوق عود الثقاب أنيسا له في وحشته ووحدته…
ونحن نتبادل تمرير الكرة البلاستيكية بيننا؛ تنقاذفها ذات اليمين وذات الشمال؛ هدير صوت الدراجة النارية من نوع فيسبا، يتصاعد ويكبر إيذانا باقترابه من مدخل درب الفران، نستجمع قوانا للفرار خوفا من المختار ولد لقزادري ونفر بالكرة البلاستيكية، يختضنها عبد اللطيف أخي، ويلج الرياض كالسهم..
يتفرق مجمع القمارة ويغادر باغني وخلانه المكان … فالسي المختار يهابه الجميع لغلظته وخشونة سلوكه، وقوة تعنيفه لكل من عاكسه أو حاول عدم احترامه هو سيد الدرب ؛ ولا تحط قيمته من قبل السكان وأبنائهم ؛ وكذا الغرباء عن الحي…
في الجانب الآخر نساء الدرب، محتشمات، أغلبهن يحافظن على الحشمة والوقار، ما عدا أمي الباتول والتي غالبا ما تفترش عتبة باب الدار عشية كل يوم، يحيط بها بنات الدرب، الصغيرات، والشابات اليافعات المستشرفات على الحضوة بزوج، وبناء بيت حواء (تستر رأسها)، يتحاكين بهمس حكايات تفهم ألغازها من خلال قهقهاتهن المتعالية من حين لآخر…
لالة وردية الجارة والصديقة الأمينة لك أمي لحنينة، امرأة طويلة القد، غجرية اللسان، نزحت من شرفاء سبت بنساسي بمنطقة الويدان بأحواز مراكش، من أكثر النساء اللواتي سمح لهن باقتحام حجبتك، والتوادد معك، تحكيك وتحكيها أسرارك الدفينة، تناديني دوما بالشريف، لقوة انتسابها لشرفاء زاوية بنساسي بمنطقة الويدان بأحواز مراكش، من أقدم ساكنة الدرب رفقة زوجها الذي لم أعاصر حياته، أمي وردية عاشقة للفن التشكيلي بالفطرة، تمتهن حرفة نسج الزرابي التقليدية، خلقت مقاولة تقليدية صغيرة لصناعة الزرابي ببيت الزوجية، رغم بساطة آليات النسيج، اكتفت بتثبيت منسج خشبي بإحدى بيوت الدار، يستقبل كل صباح شابات وطفلات يتقن فن النسيج، وهن يصدحن بأصوات رخيمة لازمة غنائية (يا الغادي والجاي….جيب لي لخبار) تتناوب في ترديدها الشابات والطفلات، ينقلها صدى سكون الصباح إلى أعماق الدور المجاورة …
يتفنن أبناء العرصة في كثير من اللعب الهادئة منها، والعنيفة، كان سبسبوط من اللعب التي أتقنها وأتفنن في اصطياد الضحية / الصكع لأركب على ظهره …
من حماقاتي الطفولية أني أصبت صديقا لي في بطنه بمقص صغير، حين حاول أن يستفزني بقطع كسرة خبز كنت قادما به من الفرن(فران مزوار)، سببت له جرحا غائرا في بطنه.. فأخذت (طرحة ديال العصا) من طرف لحنينية أمي، كانت درسا جديدا لي، في الابتعاد عن حمل أي من الأسلحة البيضاء.. لم أكن عدوانيا، لكن الإحساس بالحكرة وطيش المراهقة، كان الدافع للفعلة تلك…
هي مرات عديدة أتعرض فيها للعقاب من طرف سيد الرياض، واحدة منها لا زالت جاثمة بذاكرتي، وأنا في طريق العودة من الإعدادية أتعرض لضربة حجر متوسط يصيب رأسي من الخلف، لم أعرف من أين أتى!؟ ومن استهدف رشقي بها !؟ أسرعت مهرولا نحو البيت عبر طوالة باب الملاح، وإذا بإحدى بنات جيراننا تشتغل بمستشفى ابن طفيل (المامونية) تتوقف بالقرب مني ممتطية دراجتها النارية لتحملني إلى المشفى بهدف تضميد الجرح الغائر..
ولجت الرياض ورأسي ملفوف بضمادة طويلة عليها بقع الدم الحمراء، فما كان من سيد الرياض إلا أن يحمل عكازه ويشبعني ضربا (هرمكة) بدون سبب، مرددا : “أنا ما عندي الدري اللي يديرو ليه لعصابة بيضاء”، وكأنه يربيني على المواجهة وعدم الانهزامية..