Home Slider site الكتل الشعورية في ديوان “موت كفّ على غسيل نجمة” للشاعر بياض أحمد...
الكتل الشعورية في ديوان “موت كفّ على غسيل نجمة” للشاعر بياض أحمد – د. أنور غني الموسوي
إن الفارق الأهم بين المقطوعة الشعرية وغيرها من الكتابة هو الحضور القوي للبعد الشعوري الإحساسي في النص. فالقصيدة ليست فقط مجموعة تراكيب دلالية إفهامية وإنما هي في الواقع كيانات شعورية مرتبة في النص. وهذا هو البعد التعبيري للكتابة بل أحيانا يكون التركيز والاهتمام للبعد الإحساسي فتتحقق التجريدية.
أحمد بياض شاعر مغربي أجاد كتابة القصيدة التعبيرية، وحققت نصوصه انسيابية جيدة تقترب من الفكرة النموذجية لقصيدة النثر المقومة بالأفقية والسردية والتعبيرية، بل نجد أحيانا لمحات تجريدية في كتاباته وهذا ما سنتتبعه في ديوانه “موت كفّ على غسيل نجمة“.
إن الكتابة الفنية تمرّ بثلاث مراحل تطورية، فهي تنتقل من التوصيل المعتمد على الدلالية والإفهامية كعامل تعبيري وهي المرحلة الدلالية الإفهامية وهي مرحلة بدائية، إلى حالة اجتماع الدلالية والإحساسية كعوامل تعبيرية وهذه هي المرحلة التعبيرية وهي مرحلة متوسطة، إلى حالة تعاظم البعد الإحساسي والشعوري وخفوت البعد الدلالي الإفهامي وهذه هي المرحلة التجريدية وهي التجلي الأعظم لسحر اللغة.
بخصوص الكتابة التعبيرية نجد ملامحها وعناصرها متوفرة وبقوة في ديوان “موت كفّ على غسيل نجمة“. ففي قصيدة ” طُقُوس عَرَاءٍ فِي وحْشَةٍ بِدائِيّة” يقول الشاعر:
” نَيْسان يَأتِي بِثَوبِ الصّمت، قَطَرَاتُ نَدَى مُحْتَشِمة عَلَى أَرَامِل الزّهر، وَنَجْمَةٌ مِن فُولاَذ تَزْرَعُ ثَمْرَةَ الحَنِين: هَكَذَا الصبْرُ بِلَوْن ثِمَارِ المَغِيب، علَى جَسَدِ اللّيْلِ وَطُقُوسِ العاصِفة.”
هنا نجد زخم شعوري واضح ومتجل، ونلاحظ أن النص يتكون في حقيقته من كتل شعورية وليس فقط وحدات لغوية دلالية.
في قصيدة “ريح الصمت” أيضا نجد قوة الحضور الشعوري في قوله:
“بريح الصمت تنسج الأوراق النحيفة وكرها على ريش الأرض، وتعانق الأقدام المبحوحة هواء السقوط.”
هنا نلاحظ النفوذ والعمق الذي حققه النص بسبب القرب الملحوظ في التعبير مع محافظة النص على قوته الفنية ومستواه الشعري.
في قصيدة “موت كفّ على غسيل نجمة” يقول الشاعر:
“مدينة تبحث عن أطفالها حين يتلو الدمع آيات الفراق، وشيب القضبان على محاجر المسالك، طفلة حلم على انفطار الجسور ووهم المشارف في ليالي الأنهار“.
وهنا أيضا نلاحظ الحضور القوي والتجلي الواضح للزخم الشعوري مكونا كتل شعورية بارزة مرتبة في الزمان والمكان النصيين.
إن هذا الفهم المهم للقصيدة وهذا التحول الفكري في اللغة يفتح أفقا جديدة في الكتابة بل في الحضارة الإنسانية، حيث يتحول النص من كتل دلالية إلى كتل شعورية، وهذا هو البعد التعبيري للكتابة.
أما اللمحات التجريدية في كتابات أحمد بياض فأنا نجدها متحققة في نصوص من ديوانه “موت كفّ على غسيل نجمة” بتركيز عال وتجل قوي للبعد الإحساسي وخفوت الغايات الدلالية والإفهامية، ففي قصيدة “شوق مبتور” يقول الشاعر:
“لهجة متصوفة على شفتي بئر، ترعى حلم الأطفال؛ حين يبحر النشيد في مملكة الدخان.
رماد جارح؛ وشم مبتور ولغة الحنين هواء القميص“.
وهنا نجد تعاظم البعد الإحساسي والكتلة الشعورية مع خفوت الغاية الدلالية والإفهامية للنص، وهذا هو العامل التجريدي في النص، ولقد اعتمد الشعر لغة سريالية لتجاوز حاجز الإفهام وغايات النص الدلالية كما هو ظاهر.
وأيضا نجد تجليا ّ تجريديا في قصيدة “نشيد الرمل” حيث يقول الشاعر:
“غربة على وجنة الريح؛ قيظ وقيد في الليالي البعيدة على وسمة الخريف، حبات رمل منفردة؛ تلثم خد الصحراء على كف الشمس، حنين طين إن صحا على شرفة الرماد“.
نجد اللغة التجريدية هنا متجلية بالوصفية الإحساسية حيث لون الشاعر نصه بمفردات ذات بعد شعوري وإيحائي، تستقل في تحقيق الإثارة والاستجابة الجمالية، مما يحقق تعاظم البعد الإحساسي، وبخفوت الغايات الدلالية الإفهامية تحقق التجريدية.
لقد بينا في كتابنا “الكتابة التجريدية” أن التجلي التجريدي للغة لا يشترط الغموض والانغلاق على مستوى سطح اللغة كما قد صورته الحداثة والتنظيرات الأولى عن الشعر التجريدي، بل أن ما يحقق التجريد هو تعاظم البعد الإحساسي الشعوري في النص وخفوت لغايات الدلالية والإفهامية فيه، وهذا لا يتعارض مع انسيابية وسلاسة النص كما يكتبه شعراء مجموعة تجديد والشعر السردي.