يحتاج وعي الحقوق القانونية إلى مواطنٍ يدرك مكانته وفعاليته الفردية في المجتمع، يدرك حقوقه، لأنه يدرك أن هناك مؤسسات سياسية واجتماعية قوية أمينة على هذه الحقوق تقوم بحمايتها باستقلالية كاملة. الوعي الحقوقي هو وعي لقوة المواطن الفردية وشعوره بالقدرة على تجسيد هذه الحقوق، والتأثير في المجتمع في سياق الدفاع عنها، فالحقوق القانونية يتوافق عليها الجميع في المجتمع، وتقوم مؤسسات هذا المجتمع على حمايتها من التعدّي، بردع المعتدي، وإحقاق الحق لصاحبه الذي تعيد إليه مؤسسات المجتمع حقوقه وكرامته، في مواجهة التعدّي الذي تعرّض له. والمجتمع في صياغة قواعده القانونية لا يميز بين أفراد المجتمع، فتأتي قواعده كلية على الجميع أن يخضع لها أفراد ومؤسسات ودولة. كل هذا في حال خروج حقوق المواطن التي يحميها القانون من توافق وتطور مجتمعي حقيقي وطبيعي، لا من خلال نقل نصوص قانونية استقرّت في مجتمعات أخرى إلى مجتمعات أخرى، من دون روح هذه القوانين ومرجعيتها المجتمعية، لتولد معطلةً في مجتمعاتٍ افتقدت إلى التوافق المجتمعي حول هذه الحقوق. وبذلك تكون قد ولدت في سياق تقليد شكلي للدول الأخرى، من دون أن تشكل هذه الحقوق أساس عمل المؤسسات. هذه هي مشكلة استيراد التشريعات القانونية في الحقوق، كما هي مشكلة كل المفاهيم والقيم التي لا تمتلك أصالة التطور الطبيعي لمتطلبات المجتمعات التي تولد فيها، فهي تأتي غريبة وغير فاعلة في مجتمعاتٍ أسقطت عليها من دون تفاعلاتٍ اجتماعيةٍ أدت إلى الوصول إليها.
تندرج مشكلة وعي المرأة حقوقها القانونية في هذا السياق، فهي بعيدة عن معرفة حقوقها، لأنها جاهلة بكل معنى الكلمة بهذه الحقوق، فهي عمليا لا تدرك حقوقها القانونية، ولو نصت عليها التشريعات الوطنية، فأساسا هناك مشكلة عامة تشمل الرجال والنساء، تتمثل بعدم معرفة الحقوق التي يجب أن يتمتعوا أو يطالبوا بها في أوطانهم. ولكن المشكلة تتفاقم عند المرأة لأنها أكثر جهلا بحقوقها، بحكم ضغوط اجتماعية تجعل الأعراف والتقاليد البالية المرجعية الأساسية للمرأة في التعاطي مع سير حياتها، وتعتقد أن هذه هي الحقوق القانونية التي يصيغها المجتمع، والتي تُغرقها في مجموعة كاملة من الواجبات القاسية، من دون أن يكون لها أي حق، ما يجعلها أكثر عرضة للاضطهاد المزدوج لأنها لا تعرف كيف تحمي نفسها عبر هذه الحقوق، ولا إلى أي مؤسسات تلجأ، في حال وجود هذه المؤسسات.
يكمن جزء من مشكلة المرأة في جهلها بحقوقها القانونية، وأحيانا تكون المشكلة أكثر تعقيدا، عندما تعرف هذه الحقوق ولا تستطيع ممارستها، لأن هناك شبكة من العلاقات الاجتماعية تمنعها من ممارسة هذه الحقوق. وفي حال إقدامها عليها، فإن هذه الشبكة الاجتماعية تصبح آلية عقاب قاسية في حقها، تجعل حصولها على حقوقها عبر القانون يرتدّ عليها، ويتحوّل إلى عقاب لها. ولا ينطلق ذلك من عدم مشاركتها في صياغة القوانين والمشاركة في صنع القرار فحسب، بل وينطلق أساسًا من عدم إدراكها لموقعها كمواطنة، وعدم السماح لها بأن تكون كاملة الحقوق، لانعدام ثقافة المواطنة والحقوق في بلداننا. وعدم السماح لها بأن تكون من خلال شبكة التقييد الاجتماعي فردًا فاعلًا في المجتمع، له القدرة على اتخاذ القرار بما يتعلق بمصيره ومستقبله الشخصي، من دون تدخل الآخرين وفرض الإملاءات أو التعدّي على هذه الحقوق. وهذا لا يعني أن القوانين التي تتعلق بالمرأة في العالم العربي مثالية وعادلة. وعلى الرغم من العيوب التي تعانيها هذه القوانين، المرأة لا تستطيع استثمار وتوظيف ما منحته لها القوانين من هذه الحقوق. وعلى سبيل المثال، تمنع القوانين في البلدان العربية الضرب، وتتعامل معه كجريمة يعاقب عليها بالحبس، وآلاف النساء يتعرضن يوميًا للضرب المبرّح على أيدي أزواجهن أو أخوتهن، تحت مفاهيم تقليدية من حق وضرورة تأديب المرأة من قبل الرجل. ويصل الضرب، في حالات كثيرة، إلى التسبب بعاهة دائمة للنساء اللواتي يتعرّضن للضرب. وفي هذه الحالة ـ قانونيًا ـ يحق للمرأة أن تتقدم بشكوى من جرّاء الاعتداء الذي تعرّضت له، فهذا الفعل يصنفه القانون جريمة. ولكن في الغالبية الساحقة من هذه الحالات ترفض المرأة التوجه بشكوى إلى الشرطة، تحت مفاهيم العيب والضغط الاجتماعي الهائل الذي تتعرض له ويجبرها على الإقرار الضمني والمعلن بحق الرجل في ممارسة العنف ضدها. والمتابعون لموضوع الاعتداء على النساء يقولون إن عدد الحالات التي يتم تقديم الشكوى بشأنها تكاد لا تذكر منسوبًا لعدد حالات التعدي الفعلية التي تحصل يوميًا. وما يمكن استنتاجه من هذه الحالات، أن المرأة غير قادرة على ممارسة حقها كأي كائن بشري بمنع أي شخص آخر من التعرض لها بالعنف، سواء كان زوجاً أو أخاً أو أباً أو أي شخص آخر. إن القيود الاجتماعية القاسية التي تحاصر المرأة تجعل الاعتداء متواصلاً عليها من قبل من يمارسه تحت ذريعة الأفضلية والقوانين الاجتماعية التي تقر فيها النساء حبًا أو كرهًا علنًا أو ضمنًا بأنها يجب أن تخضع لها. والمشكلة أن الكثير من هذه الاعتداءات لا يمكن وقفها إلا من خلال الردع، بحيث يشعر الشخص الذي يقوم بهذا الاعتداء أنه عرضة للمحاسبة على الاعتداء الذي يقوم به بصرف النظر عن مبررات هذا الاعتداء. وهذا ليس المثال الوحيد على عدم إدراك المرأة لحقوقها وعدم ممارستها هذه الحقوق لممانعة المجتمع، فهناك عشرات الأمثلة التي نراها يوميًا تثبت القاعدة السابقة وتكرس حالة الظلم.
وبعيدًا عن الثغرات القانونية التي تعاني منها التشريعات العربية بشأن المرأة، وهي كثيرة، فإن هذه التشريعات التي تم استيرادها من التشريعات الغربية، تحتوي على كثير من الحقوق الديمقراطية، التي جاءت إما معطلة بحكم تعطيل الدساتير من السلطات، أو أنها غير فاعلة لعدم وجود المؤسسات القادرة على حمايتها. وبقيت في جميع الحالات تشريعات غريبة عن الواقع العربي، لأنها تعتمد في بلد المنشأ على تطور اجتماعي أصيل، رافق التطور الحقوقي والتربية الحقوقية في المدارس، ما جعل المجتمع متماسكًا حول وضع هذه التشريعات موضع التطبيق والسهر من مؤسسات الدولة على حمايتها. وفي الواقع العربي، لم تكن هذه التشريعات نتيجة تطور داخلي طبيعي للعلاقات الاجتماعية. وبذلك بقيت فعالية قوانين العلاقات الاجتماعية التقليدية أكبر بكثير، وبشكل لا يقارن من التشريعات المكتوبة، وبقيت مرة أخرى المرأة الخاسر الأكبر في هذه المعادلة.