تمنحُ الفردانية -وأهم سماتها الميل إلى الانعزال- خياراتٍ واسعة للسعي نحو ذاته وإشباع رغباته وطموحه وتحقيق أهدافه، فكيف يمكن لممارساتِ الفردانيين أن ترفع قيمتهم المضافة إلى المجتمع؟
في مجتمعاتٍ غوغائية ينسلخُ الفرد عن ذاتِه الحقيقية فيصبح إمعة أو نسخةً كربونية مكررةً، من دون صفة تميزية تجعلُه ذا ثقل وموضعَ قدم أينما حلّ وارتحل، ولكن من يدرك قيمة نفسِه ويرى لوجوده غاية ويدرك قدرته المتأصلةَ فيه على التغيير ولعب أدوارٍ هامة في محيطه، يثبت أمام موجات تكنيسه وتفكيكه وانحلاله، ليكون فردانياً له بصمته المتفردة في هذا العالم.
تمنحُ الفردانية -وأهم سماتها الميل إلى الانعزال- خياراتٍ واسعة للسعي نحو ذاته وإشباع رغباته وطموحه وتحقيق أهدافه، فكيف يمكن لممارساتِ الفردانيين أن ترفع قيمتهم المضافة إلى المجتمع؟ وهل المجتمع العربي بما فيه الأسرة يحاربُ السمات الفردانية؟ ولماذا يحاربها؟ وكيف ينأى الفردانيون بأنفسهم هرباً من سطوة الجماعات؟ وهل توجد علاقة حقيقية بين الفردانية والإبداع؟
نضوجٌ ذاتي كبير:
تعرف الفردانية كفلسفة أو منهج يتخذه الأفراد لأنفسهم من أجل الارتقاء بمستواهم الفكري العقلي وشحذ مهاراتهم وصقل شخصياتهم في اتجاه النمو والتقدم نحو ما هو أفضل لهم.
في هذا الصددِ تقول د.ستيفاني غانم أخصائية علم النفس العيادي والتحليل النفسي من لبنان عن الفردانية: “الفردانية بمعناها الصحي مرتبة نفسية يحققها الفرد تدل على نضوج ذاتي كبير، ففي ظل الجماعات المبنية على التأثيرات الخارجية والداخلية والتربية التي لا تشجع الاستقلالية بالأفكار والخيارات، يذوب الكائن البشري في فخ الواجبات والتفكير بالآخر على حساب التركيز على تطوير الذات الذي يؤدي إلى اكتشاف مكامن القوة فينا والتي بطبيعة الحال ستنعكس إيجاباً على محيطنا من خلال تحريكه وتطويره إلى الأفضل”.
الخوفُ من التغيير:
أما عن الأسباب التي تجعل الفرداني يعيش شبهَ منبوذ، أو يخوض صراعاً نفسياً مع الأسرة أو المجتمع دفاعاً عن مساحته الخاصة وأفكاره المستقلة وما يؤمن به إيماناً يجعله يكد ويشقى حتى الرمق الأخير ليحقق رؤيته وفلسفته الخاصة به في الحياة ويراها واقعاً يتمثل أمامه ويلمسه، وكل هذا الجهد الذي يبذله يستلزم منه التمتع بمساحة خاصة وهدوء من أجل تركيزٍ عالٍ وميلٍ إلى الانعزال لفترة يستشف بها ما سيؤول إليه من أمور.
وكل سلوكياتِه هذه تعتبر خروجاً عن القاعدة العامة لمجتمعٍ يسوده تفكير جمعي يؤيد الأغلبية من دون إعمال العقل الفردي أو بناء فكر ووجهة نظر للفرد نفسه بنفسه، كما يطغى عليه التقليد والتبعية لما هو شائع ووارد، من دون تفكير مستجد أو خروج عما هو متداول!
وهذا ما يجعل الفرداني يُحارَب من مجتمعه وأيضاً أسرته التي تجد في سلوكه شذوذاً عن قاعدة المعتاد، وهو ما يستنزفه إذ يقع تحت مظلة التبريرِ المستمر لما يمارسُه من سلوكيات.
تقول د. ستيفاني عن محاربة المجتمع والأسرة للفردانيين: “هذا سببه الخوف من التغيير أو من المجهول وميل الكائن الاجتماعي إلى التمسك بما يعرفه حتى لو كان مدمّراً”.
يؤيدها في هذا د. جميل الطهراوي أستاذ علم النفس بالجامعة الإسلامية في فلسطين، إذ يقول: “الإنسان بصفة عامة يميل إلى ما يألفه، خصوصاً إذا تقدم في السن، والتغيير أي الخروج عن المألوف يسبب الإرباك، وهذا ما حدث مع كفار قريش حين قالوا: هذا ما وجدنا عليه آباءنا”.
النأي بالذات لغاية عظمى:
وهو ما يؤكد أن الفرداني أينما وُجد في هذا العالم، لا بد أن يعيشَ في ضغطٍ اجتماعي، فإما يجامل الجماعات على حساب نفسه لبعض الوقت، وإما يرضخ لتبريرٍ استنزافي، أو يتعرض لأشكالٍ من التنمر والاضطهاد، ولكن هذا كله لا يؤثر فيه إذا ما كان مدركاً في نفسه السحيقة أهمية وجوده كإنسان حي يأخذ حيزاً من هذا الوجود الذي له مصير حتمي واحد وهو الفناء.
فتحت هذا الإدراك والوعي الكبير بأن الإنسان وقته في الوجود محدود، يفهم الفرداني أنْ لا بدّ لوجوده من غاية عظمى، فيعمل على تطوير نفسه واستكشاف بواطن مواهبه وإبداعه، وهذا التركيزُ الشديد يجعله أيضاً ينأى عن الجماعات وسطوة التفكير الجمعي.
توضح د. ستيفاني غانم هذا الجانب: “ينأى الفرداني بذاته عن المجتمع بسلوكه الانعزالي، فالمجتمع يميل نحو حقن النفوس بالأفكار والمبادئِ التي من شأنها جعلنا نسير كالقطيع، فيصبح الميلُ إلى الانعزال ضرورة وحاجة لدى الأشخاص الفردانيين لأنهم يشعرون بعدم الانتماءِ إلى منظومةٍ كهذه ولأن إجبارهم على التقليد أو التنفيذ لما يطلبُه المجتمعُ يقلل من قدرتهم على الخلق والتطور واكتشاف الذات”.
الميل إلى العزلة من سمات الفردانية:
وبما أن النأيَ بالذاتِ والميل إلى العزلة مطلبٌ يأخذه الفردانيون على محمل الجد، فالعزلة مملكةالأفكار، تتبين الحقائق، ينحل كل أمرٍ متشابك، وبها تتهذب النفس وينمو الخيال، ومن خلالها يمكن استشراف المستقبل والتنبؤ بحيثياته بناءً على دراسة الواقع ومقارنته بالتاريخ، وقد مارس العزلةَ كثير من الأدباءِ والمفكرين الذين خلدهم التاريخ ومنهم: أبو العلاء المعري وفرانز كافكا وإيميل سيوران ونيتشه وغيرهم الكثير!
الفرق بين العزلة والميل إلى الانعزال:
وهكذا يكون الوقتُ الذي يمضيه الفردانيون مع أنفسهم انعزالاً عن محيطهم هو أساس كونهم مبدعين، ولكن في محورِ هذه العزلة ينوه د. الطهراوي بالفرقِ بين العزلة والميل إليها: “الانعزال له منحى سلبي ومنحى إيجابي، وأرى أن الانعزالَ وحده لا يولّد الإبداع، لكن من الممكن أن يميلَ المبدع إلى الانعزال، يوجد فرق، لأن المبدع لا ينسجم كثيراً مع العامة، بالإضافة إلى حاجته إلى الهدوء، لذلك نرى المبدعين غير متفوقين اجتماعياً ويميلون إلى العزلة”.
وأدرك “فريدريك نيتشه” مدى الحاجة إلى الموازنةِ بين الانعزال والبعد الاجتماعي إذ قال: “لنتصوّر إنساناً رأى أن من المستحيل أن يُحلّ هذا التناقض عبر تدميرِ إحدى هاتين القوتين، وإطلاق عنان القوة الأخرى، ومن ثمّ لم يبقَ لهذا الإنسان سوى أن يصنع من نفسه صرحاً عظيماً، فتستطيع القوتان أن تقيما فيه حتى لو أقامتا على طرفين متناهيين. وبين هذين الطرفين توجد قوىً تصالحيةٌ محمية تتمتّع بقوةٍ سائدةٍ من شأنها أن تحلَّ، متى احتاج الأمر، أي نزاعاتٍ قد تحدث”.
ونصيحته هذه لم يطبقها على نفسه، إلا أن الأفضل لأي إنسان يميلُ إلى العزلة أن يجد له وسطاً اجتماعياً يليق به، فلا قيمةَ للإنسانِ المبدع إن لم يتوافر من يتلقى إبداعه، فالأصل هو عزلةٌ جزئية لا كلية كمن يعيشُ في كهف لا يدخله نور.
يقول د. الطهراوي في هذا الجانب: “معيارُ أن يكون الانعزال جيدا أو سيئا هو مدى خروج الشخص في مناحي حياته عن الدور المطلوبِ منه، فنحن نحترم عزلته، لكنه يمارسُ حياته كما هو مطلوب منه، على سبيلِ المثال الطالب المبدع، لكنه يذهب إلى مدرسته ويؤدي واجباته وينعزل أحياناً، فهذا لا بأس، وهذا يسمى أمراً نسبياً، البعد الاجتماعي في حياتنا مهم، حتى في الإبداع، فالإبداعُ خروج عن المألوف، بمعنى المألوف عن الناسِ فلولا الناس فلن تكون له قيمة”.
الفردانية والميل إلى العزلةِ والإبداع:
فالقيمةُ التي يتلقاها المبدع غالباً ما تأتي من غيرِ محيطه أو من مجتمعاتٍ أخرى، سواء اختلف أو اتفق مع هذه المجتمعات، ما يمنحه الفرصة لتشكيلِ وسط يجد نفسه فيه ولو بعد حين، وهذا لا يتعارض مع الفردانية، لأن الفرد الذي يطور نفسَه ويعطي كله لذاته هو أولاً وآخراً إنسانٌ منتجٌ عليه أن يعطي إنتاجه لغيره، أو يؤثر هذا الإنتاج بالغير سواء كفكرٍ أو أدب أو اختراع أو ابتكار!
تؤكد د. ستيفاني علاقة الفردانية بالإبداعِ قائلة: “عندما يبتعدُ الفرد عن الضوضاء التي يسببها المجتمع (واجبات أو تقاليد أو خوف منقول أو محاولة لبسط أفكار..) فإنه يصبحُ في علاقة وطيدة مع ذاته وفي عملية اكتشاف، وبالتالي يجد ذاته في شوقٍ إلي الابتعادِ وكسرِ المفاهيم النمطية وهنا يكمن الإبداع”.
في النهايةِ، ما يهم هو ألا يحاصرَ الإنسانُ الفردانِي المبدع نفسَه بنفسه، بانياً أبراجاً عاجية، أو حصوناً منيعة لوقتٍ طويلٍ جداً، ينسى به معالمَ الحاضر، جاهلاً بأبعاد المستقبل، فلا بد له من الخروج ولو بعد حين ليبثَّ نور عقله إلى هذا العالم، ولا يفعل كما فعل فلوبير حين قال: “لقد بنيتُ لنفسي برجاً، وتركتُ أمواج الهراء تضرب في قاعه”.