معادلة العنف والعنف المضاد بين الأستاذ والتلميذ في الاتجاهين تفاقمت وأصبحت عصيّة على الفهم والحل، تسجيلات مريرة عكست كلّ الهواجس، تسجيلات إهانات متبادلة لفظية وجسدية، هناك خلل واضح ووجدتني مكبَّلة بسوط العنف والصدمة، أحن لزمن مضى كاد فيه المعلم أن يكون رسولا وكاد فيه التلميذ أن يكون ملاكا. أحاول أن أوقف سيل الإهانات واللكمات التي امتصّت كلّ دلالات الاحترام، عداوات مجانية نطقت بصدى ضياع سكن الأفئدة حتى تطاير الشرر فوضى وتسيبا، شلل منظومة التعليم المريب ظاهر للعيان. مسؤولون يقفون خارج دائرة الزمان والمكان عوض الانكباب على الظاهرة وإيجاد حلول للمشاكل التي يتخبط فيها القطاع بكلّ جدّية والتزام، زيارة التربويين لأسرة تلميذة خريبكة تجاوزت المنطق وحدود الاستغراب وقد كان الأجدى تنظيم لقاء داخل المؤسسة لفهم حيثيات الموضوع بحياد تام. من التسجيل المسرب من داخل القسم، الظاهر أن أستاذ الرياضيات الذي قضى 35 سنة بالتعليم قد فقد أعصابه ولم يكن في حالته الطبيعية بعدما أفقده الاستفزاز تركيزه واتزانه، ربما عرضه على دكتور نفساني كان هو المتوقّع عوض الزج به في السجن. لم تشفع له سنوات من العطاء بكل تميز وبشهادة مفتشين وتلاميذ. ربما كانت التلميذة المعنّفة وأسرتها ستعيد النظر في الواقعة، وتدرك ما تسبّب فيه عدم احترام الأستاذ وإهانته من عنف مضاد، ربما كانت كلمة اعتذار متبادل وتهدئة النفوس وعرض التلميذة على أخصائية اجتماعية كاف.
وأنا أغوص أكثر بعمق المنظر البئيس، حدّ المرارة والوجع، سرت بعروقي رجفة الوجل، طالعني وجه منظومتنا التعليمية عاريا من المساحيق التجميلية، بدون ملامح وبدون أي برامج واضحة ولا خارطة طريق تزيّن قسماته، بين عبث التعاقد مع المعلمين المحدد المدة، واكتظاظ الأقسام، وقلة الأساتذة، وسوء تدبير القطاع، بدا الوجه قاتما بكلّ قبحه وتآكله بعدما أصبح هاجسه إنتاج كائنات سريالية مغيّبة في عالم ينبىء بنهايات سوداوية، ووجدتني أرنو إلى الضفة الأخرى من الكرة الأرضية حيث سانغافورة وماليزيا، نموذجان يحتدى بهما، انتقلا من الفقر والجهل في ظرف سنوات إلى مصاف الدول المتقدمة والغنية، والسر في ذلك هو النهوض بمنظومة التعليم فكان تطويرها من أولوية الأولويات، لقد أدرك البلدان أن الركيزة الأساسية لأي مشروع تنموي شامل من أجل الرخاء تعتمد على الارتقاء بالمنظومة التعليمية ونشر الوعي والثقافة، لذلك انخرطا في برامج دقيقة لتطوير المناهج وإعادة تأهيل المعلمين. الاهتمام بالبحث العلمي زيادة المدارس والمعاهد التكوينية والكليات، وأكبر ميزانية ضخت بالتربية والتعليم. نجحت التجربة بامتياز والفضل في ذلك يرجع لبعد النظر و الرؤية المستقبلية للحكومات، وضعت خارطة طريق وبرامج مسطرة يسهر على تنفيذها وإتمامها كل مسؤول بكل تفان وإخلاص، ولاؤه الكامل لمصلحة الوطن وهاجسه الارتقاء به.
صدق الطبيب مهاتيم محمد صانع نهضة ماليزيا الحديثة الذي أعيد انتخابه رئيسا للحكومة وهو بسن 92 سنة ليصبح أكبر زعيم في العالم حين قال: “إن أي مجتمع لا يفكر ولا ينتج فكرا لايمكن أن يصنع حضارة”.