أول ما يثير انتباه القارئ قبل الدخول إلى عالم رواية «لودميلا» ثلاث عتبات: العنوان والغلاف ثم الإهداء. والملاحظ أنها كلها تثير أجواء من الغموض والغرابة، وتجعلنا نحس بأننا مقبلون على عوالم جهنمية رهيبة، يواجه الناس في أتونها العذاب والمعاناة والمصير المجهول.
العنوان :
يلاحظ أن العنوان «لودميلا»، ينبني على العنونة المفردة المعرفة، فهو اسم غير عربي، غريب علينا، ما يدفع المتلقي إلى التساؤل عن دلالته ووظيفته في المتن النصي، ويثير فضوله فيجعله يتلمس الطريق إلى الكشف عن سره، لذلك كان العنوان «أول مثير ومنبه أسلوبي يتلقاه القارئ من النص» إنه اسم الكتاب الذي «يثير العديد من الأسئلة التي تجعل منه مكوناً غير منفصل عن بقية مكونات النص ومراتبه القولية». فهل يتعلق الأمر باسم شخصية من شخصيات الرواية، أو باسم مكان يمثل مسرحاً لأحداثها؟ إذا كان العنوان يتصل باسم شخصية روائية، فمن الطبيعي أن تكون هي شخصيتها المحورية ما دامت الكاتبة اختارت اسمها عنواناً لروايتها، وهذا ما تشير إليه كلمة الغلاف: «لودميلا هي بطلة الرواية الشاهدة على جحيم أرضي صاغته الكاتبة السورية لينا كيلاني بكثير من العذوبة والألم على مصائر الناس». وغير خاف «أن اختيار العناوين عملية لا تخلو من قصدية… إنها قصدية تنفي معيار الاعتباطية في اختيار التسمية ليصبح العنوان هو المحور الذي يتوالد ويتنامى ويعيد إنتاج نفسه وفق تمثلات وسياقات نصية تؤكد طبيعة التعالقات التي تربط العنوان بنصه والنص بعنوانه». وسيدخل العنوان «لودميلا» ضمن البنية الحكائية للنص الروائي في جمل سردية تشير إلى أهمية الشخصية التي تحمل هذا الاسم (لودميلا) باعتبارها البطلة الرئيسة في الرواية التي ستخوض غمار أحداث مهولة في عالم جحيمي رهيب، قائدة أسرتها في رحلة نحو المجهول، بعيداً عن مكان الحادث المشؤوم. نذكر من هذه الجمل السردية على سبيل المثال ما يلي: «ارحلي يا لودميلا مع الأولاد وباقي أفراد الأسرة». « أما هي (لودميلا)، فقد صمتت إذ تقع في حيرة شديدة.. ترحل إلى أين؟ وكيف؟ أمها المريضة والأولاد وأختها تانيا وأطفالها والعمة سارة». «وقبل أن تعلن الساعة الدقاقة المثبتة في بهو المنزل الواحدة من صباح يوم 26 أبريل/نيسان، كانت لودميلا آخر من خرج من المنزل. وبدأ الرحيل». من خلال الجمل والفقرات السردية التي يحضر فيها العنوان على امتداد المتن النصي، يتبدى لنا أن اختيار اسم «لودميلا» عنواناً، يؤكد أنها الشخصية المركزية في الرواية، وأنها بطلتها المساهمة بالدور الرئيس في أحداثها.
الغلاف :
يتآزر الغلاف مع العنوان ليثير المزيد من الغموض والغرابة وأجواء الرهبة والخوف. أول ما يلفت نظر المتأمل لصورة الغلاف: فضاء موحش، لا أثر فيه للأحياء. الأشجار يابسة خالية من الأوراق نهائياً، يقف بعضها على يمين الصورة، ولا تبدو لنا في الجانب الأيسر منها إلا أغصان جافة لشجرة كبيرة أخذ يتساقط الكثير منها على الأرض أسفل الغلاف دلالة على موتها، وفي الجانب الأيسر في الأعلى أعواد متدلية من الشجرة تنتظر أوان سقوطها. أما في وسط الصورة، فيقوم بيت كبير يهيمن عليه الظلام ويكاد يخفي جدرانه ونوافذه، وهو أشبه ما يكون بتلك البيوت الكبيرة المخيفة العالية الأسوار التي تخفي خلفها الغامض من الخبايا والأسرار والتي نراها في أفلام الرعب. تقول ناديا: «إنها بلادنا.. والأسوار فيها تحيط بالأسرار.. فلا يصل إليها أحد.. ولكنها ضرورية، لعلها، هذه الأسوار، لتحمي بلاداً تقترف بين وقت وآخر حروباً بين ساخنة وباردة. نظام صارم لا يجوز اختراقه ولو بلهفة السؤال عن أب غائب». يطغى على الغلاف اللون البنفسجي الذي يبدأ فاتحاً ثم ينتشر متدرجاً إلى أن ينتهي غامقاً ممتزجاً باللون الأسود في أسفله، الأمر الذي يزيده ظلمة وقتامة. ولكننا نلمح في أقصى الجانب الأيمن سيارة سوداء ينبعث منها نور أصفر، أضاء بوابة البيت الحديدية المغلقة، إلا أنه لم يستطع أن يزيح ما خلف شبابيكها من حلكة وظلام وغموض. هل ثمة قصدية من لدن صاحب الغلاف باختيار اللون البنفسجي الدال نفسيّاً على الكتمان والانطواء على الأسرار؟ الحقيقة أننا حين نلج عالم الرواية، نجد أن ثمة أسراراً خطيرة يراد لها أن تبقى طي الكتمان، فالأمر يتعلق بالحرص على هيبة نظام دولة قوية متقدمة علميّاً وتكنولوجيّا.. «فهذا النظام الذي بلغ حد الغرور بإمكاناته العلمية والتكنولوجية المتقدمة، وتفوقه أيضاً لا يقبل أن يواجه بنقائصه أو تقصيره، أو حتى إهماله إذا كان يجوز أصلاً أن يتهم بالإهمال». أما عنوان الرواية «لودميلا»، فنلاحظ أنه كتب بالبنط الغليظ بلون أحمر يوحي بالعالم الجهنمي الملتهب الذي سيدخله أبطال الرواية ويعانون من أهواله. كما نلاحظ كذلك أنه وضع في أعلى الغلاف دلالة على مكانة صاحبة هذا الاسم في الكون الروائي، باعتبارها بطلة الرواية الشاهدة على الجحيم الأرضي الذي أبدعته كاتبة الرواية، كما ورد في كلمة ظهر الغلاف. «وهي كلمة عادة ما يرتبط وضعها بتقديم الرواية وتقريب عالمها الحكائي من القارئ المحتمل». نجد فوق العنوان اسم السلسلة «روايات الهلال الذي يغني بطبيعة الحال عن كلمة التجنيس «رواية» التي تذيل بها عادة أغلفة الروايات، وفي أسفل الغلاف في الجانب الأيسر الشديد العتمة، نجد اسم المؤلفة لينا كيلاني كتب باللون الأبيض الذي يضيء هذه العتمة. ألا يدل ذلك على أنها هي التي ستضطلع بإنارة طريق القارئ للكشف عن العالم الروائي المليء بالأحداث المهولة والأسرار الغامضة التي يوحي بها الغلاف؟
الإهداء :
يلاحظ أن عبارة الإهداء موجهة إلى أشخاص عامين غير محددين بضمير الغائب/الجمع: «إلى الذين عبروا إلى الضفة الأخرى عسى أن يقبضوا على مفاتيح الجحيم.. قبل أن ينفتح أمامهم أي باب من أبوابه»، وهو موقع بالاسم الشخصي للكاتبة لينا. فمن هؤلاء الذين اختارت المؤلفة إهداء كتابها إليهم؟ وماذا تعني الضفة الأخرى التي عبروا إليها؟ يبدو أن الخطاب موجه إلى كل العلماء والهيئات التي بيدها إمكانية إنقاذ العالم من الجحيم الذي يتهدده، والذين يقعون في ضفة أخرى تناقض ضفة الشر التي يقف عليها أعداء الإنسان والحياة و«شياطين العلم» حسب تعبير الكاتبة. إنها توجه إهداءها إلى عقلاء العالم عسى أن يوجهوا جهودهم إلى تجنيب الإنسانية خطر الدمار والخراب والفناء الذي يهددها في أي لحظة.
الحياة/الجحيم :
سندلف من خلال هذه العتبات النصية الدالة إلى عالم جحيمي، إذ نجد أنفسنا إزاء عالم محاط بالأسرار والمخاوف، مهدد بحدوث كارثة وشيكة، فالساردة ـ المشاركة «ناديا» التي تولت سرد هذا الفصل بضمير المتكلم الطالبة في المعهد العالي التقني، تحس بأن ثمة سرّاً خطيراً تخفيه عنها والدتها وجدتها، وأن ثمة أشياء غير معتادة تحدث في منزلهم. تقول ناديا: «إقامة جدتي عندنا أصبحت طويلة بدون أن تشير إلى موعد سفرها.. لا بد أن في الأمر سرّاً.. أو أسراراً، ولا بد أن ينكشف أي شيء». تستخدم المؤلفة عنصر التشويق، فلا يتعرف المتلقي على السر إلا بعد أن تتعرف عليه الساردة ـ المشاركة. ويتعلق الأمر بسجن الوالد العالم الخبير في مجال الذرة بسبب تحذيره من خطر محتمل وقوعه في المعمل النووي، وكذا تعرض صهر أم الساردة «إيفان» زوج خالتها «تانيا» مدير المعمل ذاته للتحقيق والمضايقات، واحتمال سجنه هو الآخر. إننا نتعرف من خلال هذا الفصل على أسرة روسية بكل أفرادها، كانت تعيش حياة هنيئة في بيت يقع في إحدى المزارع، إلا أنها ستعرف تحولاً خطيراً إثر حادثة المفاعل النووي «تشرنوبيل» القريب من سكناها. ومن خلال أسرتين هما أسرة «لودميلا» وأسرة صهرها «إيفون» اللتان يعمل أغلب أفرادهما في المفاعل النووي، تصور لنا الكاتبة أكبر كارثة نووية عرفها العالم فاقت في هولها وخطورتها وآثارها الوخيمة ما خلفته قنبلة هيروشيما، ومثيلتها قنبلة ناجازاكي من موت وخراب ودمار، حيث بلغت كميات الإشعاع النووي، وقت الانفجار وبعده، ما يساوي 150 قنبلة نووية مثل قنبلة هيروشيما. وقد بلغ مدى انتشار الإشعاع النووي إلى أوكرانيا وروسيا البيضاء، بل تجاوز موطن الكارثة إلى بلاد أخرى في أوروبا. وستتعرض الأسرتان لكثير من الأحداث خلال الرحلة نحو المجهول بحثاً عن ملاذ بعيداً عن منطقة الإشعاع.
الواقعة :
استطاعت الكاتبة أن تمزج بين الواقع والخيال، فقد رصدت أحداثاً واقعية سجلها التاريخ عن تلك الكارثة الشهيرة، مازجة إياها بأحداث تخييلية صاغها خيالها المبدع الخلاق. إلا أنها استقت مادتها الروائية من قراءاتها حول حادثة «تشرنوبيل» التي حدثت عام 1986. تقول الكاتبة في النص الذي نصادفه في آخر الكتاب (عن الرواية): «هذه الرواية نُسِجت خيوطُها على مدى أعوام.. وأنا أتتبع فيها وثائق، وحقائق تتعلق بكارثة تشرنوبيل». كما استقتها كذلك من معاينتها عن كثب لما خلفته تلك الكارثة من آثار سلبية خطيرة على الإنسان، من خلال لقائها بضحايا الحادثة المرضى بالسرطان والمصابين بالإشعاعات النووية، أثناء مجيئها إلى باريس مرافقةً خالتَها (أمها الثانية) من أجل تلقي العلاج من مرض عضال في أحد مراكز العلاج الكبرى في أوروبا. هنالك وقفت الكاتبة على هول تلك المأساة الإنسانية، وعلى مدى الخطر الجسيم الذي يهدد العالم بالدمار والفناء في أي لحظة نتيجة أي خطأ أو إهمال أو تهور في استخدام تلك القوة الفتاكة.
إن رواية « لودميلا « للينا كيلاني، وإن كانت ترصد حادثة «تشرنوبيل» التي تعود إلى تاريخ سابق (1986)، فإنها تشير بشكل ضمني إلى واقعنا الراهن الذي تعمه الفتن والحروب في بقع عديدة من العالم. وهي شَجْبٌ وتنديد بتدمير الإنسان والحياة، ودعوة إلى المحبة والعدالة والسلام، واستخدام منجزات العلم والتكنولوجيا لصالح الإنسانية وسعادتها.