كان يمشي، بخطوات سريعة متقاربة، ثم توقف فجأة، نظر إلى السماء بعيون واسعة، فتح يديه على أذرعهما و غمغم بصوت مغن : قال الراعي أين الله؟؟ تعالى صوته في الغناء وهو يردد: قال الراعي أين الله؟ قال الراعي أين الله؟ … تساقطت على جبينه قطرات ندى جامدة… استنشق نسمة الهواء الرطبة، فشعر بحرارتها الباردة تداعب رئتيه الساخنتين بسبب الحركة المستمرة لعملية الأخد والرد … صعدت إلى أنفه رائحة الأرض المبللة بالمطر، أخد يحرك أرنبة أنفه باحثا عن مصدر هذه الرائحة الزكية… نظر عند موضع حذائه الكبير.. قداماه غارقتان في بركة طينية موحلة.. رفع قدمه اليمنى، وهو ينظر إلى حذائه التي استخ بالكامل: ” أنا آسف يا أبي، لم أنتبه لوجودك…”. رفع رجله اليسرى، ثم جلس القرفصاء بجانب الحفرة الطينية… .
” اشتقت إليك يا إنسان ،متى ستعود ؟” تمتم بصوت هادئ، حاملا حفنة من الطين بيديه الكبيرتين… . أخد يتأمل لون الطين البني المائل للاحمرار، انعكاس الضوء على صفحة الماء التي تغطي التربة الخشنة بحجاب أملس… اتسعت حدقة عينيه البنيتين الواسعتين، لقد لاحظ أن الألوان تصبح أكثر لمعانا وظهورا في الجو الغائم… كان يحاول أن يرى انعكاس صورته على الضوء المسلط، فتشوهت تقاسيم وجهه، وظهرت جميع تفاصيله بشكل مبالغ: شوارب كبيرة تخبأ تفاصيل الشفة العليا، لحية وشعر طويل أشعث ، أنف دقيق، حواجب سوداء كثة فوق عيون دائرية.. وجه يشبه البوم..البوم رمز للشؤم والحظ السيء، لكن ايضا وجه الحكمة والنظرة الثاقبة.
نهض بشكل مستقيم، حاملا حفنة الطين ، أكمل طريقه بخطوات بطيئة خوفا على الغنيمة بين يديه… تتذبذب عيونه بين مراقبة الطريق المليئة بالحفر، وبين يديه الثقيلتين، يمشي في حذر كي لا يصدم بالمارين، أو بعمود الإنارة… أخذ ينظر إلى الإشارات الضوئية للمرور، وانتظر إلى أن صار الضوء أخضرا، وبدأت السيارات في الحركة، ثم قطع الطريق المكتظة دون اكتراث لضجيج المنبهات الصارخة. سمع صوتا غاضبا لأحد السائقين: “أ الحيوان، واش الطريق طريق بّاك..؟؟”، نظر إليه وجه البوم بعيون باردة وأجابه بتهكم : ” نعم أخويا الإنسان… الطريق، طريق بّانا كاملين..”، ثم أكمل سيره بتجاهل.
وقف عند إحدى البنايات يتأمل علوها الشاهق. هي أكبر عمارة في المنطقة، بناية قديمة خالية على عروشها، أكل الزمن من جلدها، فاستحالت إلى لون شاحب تحيط بها الشقوق والتجاعيد في كل تقاسيم وجهها الكئيب. كان يبدو قزما قصيرا مقارنة بطولها الفارع. دفع الباب المهترئة برجله اليمنى ، و دخل إلى سرداب مظلم صدئ.. حاملا طينه الذي سقط نصفه في الطريق، صعد الدرج الضيق خطوة خطوة، في محاولة للحفاظ على توازن جسده تجنبا للسقوط. كان المكان مظلما حالكا ، لا تدخله إلا بعض الأشعة الخجولة المارة من بعض الثقوب التي أكلتها الديدان. رائحة الرطوبة العفنة تحيط بالمكان. كان الجو يزداد برودة كلما صعد أعلى إلى القمة.
فوق سطح العمارة، وفوق أعلى قمة من بين قمم المكان، وقف يتأمل العالم الصغير من زاويته المرتفعة، كان يرى المدينة بأكملها عند امتداد بصره، مدينة صفراء مملة، تتشابه جميع منازلها وأحيائها، لا شيء يميزها ، سوى العدد اللانهائي من الصومعات الصاعدات إلى السماء ،و التي تصدح بالدعاء وتوفر مأوى الحياة لطيور اللقالق البيضاء… في تلك اللحظة المتعالية، كانت الشمس توشك على الغروب، تجمع تلابيب ثوبها المنير لتختفي وراء الأفق مسافرة إلى بلاد أخرى من أجل صباح جديد. السماء الزرقاء الغائمة، ملطخة بخليط من الألوان الساخنة الحمراء والصفراء والبنفسجية… في غمرة هذا الجمال، رفع يديه إلى السماء، حاملا طينته المقدسة، كأنه يقدمها قربانا إلى الشمس الراحلة، رفع عينيه إلى السماء، ثم أغمضهما بعد ذلك، وهو يتلو بعض تراتيله: ” يا خالق هذه الشمس، يا خالق هذا الغيم الذي ينزل مطرا، فيختلط بهذا الطين، فينبت بشرا… انظر إلى هذا النبات.. لقد غير من جلده، فأصبح كائنا اسمنتيا يكسوه الحديد والالمنيوم … يا ترى هل الألمنيوم مرحلة أخرى من سلسلة التطور الطبيعي.. لقد أخطأت يا داروين في حساباتك إذن، ونسيت هذه المرحلة الحديدية… .
أخد يرش الهواء برذاذ الطين الذي يحمله في يديه، وهو يصرخ بهستيرية: ” خدي يا سماء هذا الطين وأمطرينا لعل الإنسان ينبت من جديد فينا …”