بعد أن أصبح عالميا؛
جاء في ويكيبيديا حول تاريخ الشاي بالنعناع المغربي،
أن هذا المشروب المغربي وصل إلى المغرب من تركمانستان عابرا إيران وتركيا ومصر وقارات وبلدان لا حصر لها ووصل آخر المطاف إلينا!!!
لكنني وجدت الحقيقة في وثائق تاريخية لسفراء ومستشرقين أوروبيين منذ القرن 19؛ فقد حددت سنة 1750 كبداية أكيدة لهذا المشروب المغربي وهو تاريخ نشأة وبداية تداول الشاي بالنعناع المغربي، ولأسباب كثيرة ذكرتها في مناسبات سابقة حول تاريخ الشاي بالنعناع المغربي (انظر في ذلك روابط مباشرة على اليوتيوب والمواقع الاجتماعية)**، أهمها الصراعات الاقتصادية والعسكرية التي كانت تدور رحاها في حوض البحر الأبيض المتوسط، بين الشركات العملاقة الأوروبية المعروفة بشركات الهند الشرقية، سواء شركة الهند الشرقية الإنجليزية والهولندية والفرنسية وغيرها. وأنا أتساءل وأطرح أسئلة على محرري الموسوعة الإلكترونية؛ كيف حصل أن هذا المشروب انقرض واختفى من كل تلك البلدان والقارات، ولم يبق له فيها أثر يذكر وبقي في المغرب؟؟؟ أمر مضحك فعلا أن نصدق ما جاء في ويكيبيديا، مع أمر آخر أكثر غرابة وهو ربط هذا المشروب المغربي الخالص مع مجموعة بلدان شمال إفريقيا كما اعتادت أن تفعل مع الكثير من الوصفات..
بينما يذهب باحثون آخرون إلى أبعد من ذلك، ويعتبرون أن هذا المشروب المغربي عرف في زمن أقدم من ذلك، وقد حدد بعضهم سنة 1670م كبداية أكيدة لهذا المشروب المغربي بالرجوع إلى أحداث ووقائع حصلت في ذلك العصر وكانت سببا لاختراعه.
يورد الأستاذ عبد الحق المريني في دراسة بعنوان “الشاي في الأدب المغربي”؛ عدة احتمالات حول كيفية اكتشاف الشاي، منها أن “أحد أباطرة الصين القدماء كان يغلي إبريقا من الماء تحت إحدى الأشجار وكانت فوهة الإبريق مفتوحة، وإذا ببعض الأوراق تسقط في الإبريق وتفوح منه رائحة طيبة ويتغير لون الماء، وما إن تذوق الإمبراطور الصيني شيئا من هذا السائل حتى استطاب مذاقه فأوصى المقربين باستعمال هذه العملية حتى شاع في الصين شرب الشاي”، وهناك من يشيع أن أحد الكهنة البوذيين في الهند هو من اكتشف هذه النبتة التي كان يستعملها كمنبه للبقاء أكبر وقت ممكن مستيقظا.
ويذكر عبد الحق المريني اتفاق جل المؤرخين على أن المغرب “عرف الشاي في القرن الثامن عشر، وبدأ انتشاره عبر المغرب في منتصف القرن التاسع عشر لما صار المغرب يتعاطى التجارة مع أوربا”. وهكذا يبدو أن دخول الشاي إلى المغرب كان في عصر السلطان المولى إسماعيل حيث تلقى أبو النصر إسماعيل “أكياسا من السكر والشاي ضمن مجموع الهدايا المقدمة من قبل المبعوثين الأوربيين للسلطان العلوي” تمهيدا لإطلاق سراح الأسرى الأوربيين، مما يدل على ندرته في البلاد المغربية.
ويضيف: “واحتل الشاي منذ بداية القرن العشرين مكانة متميزة في وسط الأسرة المغربية، وأصبح له طقوس وعادات، وظهرت في وسط الصُّنّاع حرفة جديدة أبدع أصحابها في صنع أدوات تحضير الشاي من: صينية، وبراد، وإبريق، وبابور، وربايع… والتصق الشاي بحياة الشعب المغربي، وفرضت جلساته حضورها الدائم في وسط مختلف طبقاتهم، وقد تغنى بهذه الجلسات الشعراء والناظمون والزجالون”.
واحد البرّاد منعنع بْرَزْتُو (هكذا يقول المغاربة)
للشاي الأخضر المنعنع مكانة خاصة في حياة المغاربة مهما كان الموقع الذي يحتلونه في المجتمع، لدرجة أنه رقى القائم على شؤونه إلى درجة قائد (قائد البراد أو قائد الأتاي).
ويضطلع قائد “البراد” أو قائد “الأتاي” بشؤون إعداد الشاي الأخضر المنعنع، كما يسهر على فرقة من الخدم يعينونه على القيام بمهمته ويقوم على اختيار لباسهم ومراقبتهم عن قرب، وإعداد برنامج كل جلسة أو مناسبة كما يعد قائد الطائرة رحلته.
ويعد “الأتاي” على الطريقة التقليدية مع احترام كل القواعد والعادات المرتبطة بطقوس تهييئه كاستعمال الصينية بكل لوازمها من “بابور” و”براد” و”الربايع” الثلاثة (الخاصة بقطع سكر القالب، وحبوب الشاي الأخضر، وأوراق النعناع الطرية) وكأس “التشليلة” الأولى، ومراحل إعداده انطلاقا من غليان الماء وانتظار خروج “السبولة” (البخار) من البابور كعلامة على الوصول إلى درجة الغليان المطلوبة، ثم “التشليلة” الأولى لحبوب الشاي فـ “تشحيرة” البراد، وطريقة سكب أول كأس قصد التذوق وحدود ملئه لإبراز “الرزة” (الكشكوشة)؛ تلك هي المهام التي يحرص عليها قائد البراد.
كما يستبدل النعناع أحيانا بنبات الشويلاء المعروفة محليا «بالشيبة» Absinthe ، خصوصا في فصل الشتاء.
الشاي في الأدب المغربي والغناء الشعبي :
لقد تميز الأدباء المغاربة بنظم الأراجيز والمتون النثرية والمنظومة في مختلف الفنون والعلوم، ولعل الرغبة في تسهيل عملية الحفظ والمذاكرة للطلبة أهم دوافع ذلك، إضافة إلى حفظ الذاكرة التراثية. ويعد الشاي المغربي موضوعا استفاضت فيه عدة متون، لعل أبرزها أرجوزة الأديب الفاسي والشاعر “عبد السلام الأزموري” بعنوان : “الرائقة العذبة المستملحة الفائقة”، التي يحكي فيها عن طرق تهييء الشاي المغربي ولوازمه وأفضل مجالسه وأوقاته وغيره..
وقد قام بشرح هذه الأرجوزة العلامة سيدي المكي البطاوري تحت عنوان : “شرح الأرجوزة الفائقة المستعذبة الرائقة فيما يحتاج الأتاي إليه ويتوقف شربه وإقامته عليه”، في ما يقارب مائتي صفحة، اشتملت على فوائد تاريخية وأشعار ونوادر طريفة وأخبار أدبية..
ويستهل سيدي البطاوري الأرجوزة بقوله:
الحمد لله الذي أطعمنا *** من كل مطعوم به أكرمنا
وبعد أن حمد الله مرة ثانية على نعمة الماء الصافي “كالغمم الصيب” استطرد قائلا:
مثل الأتاي “اللندريزي” الجيد *** صفرته مثل مذاب العجسد
مِثْل الأَتَاي الوَنْدَرِيزِ مَذْهَبَهْ ** عَلَى صَفَا صِينِيَّةٍ مُلْتَهِبَهْ
إشارة منه إلى مصدره وهي العاصمة البريطانية لندن، التي كان يسميها المغاربة آنذاك “لندريز”.
ثم تعرض البطاوري لذكر منافع الشاي عند شربه كتطاير الهم عن النفس وانشراح الصدر وجلب الفرح والسرور:
تَطَايَرَ الهَمُّ لَدَيْهِ وَانْشَرَحْ ** صَدْرُ الَّذِي يَشْرَبُهُ مِنَ الفَرَحْ
وجاء في أرجوزة الشاعر الفاسي عبد السلام الأزموري في مدح الشاي :
شُـرْبُــهُ عَـلَــــى الـشِّــــوَاءِ وَالـكَبَــــابْ***يَـفْـتَــــــحُ لِـلـصِّحَــــةِ مِـنْـــــهُ أَلْـــــفَ بَـــــابْ
وشُـــرْبُــه عـلـــى اللـحــــوم جَـــيِّـــــدُ***لكنّـــــه علــــى الدجـــــــــــــاج أَجْــــــــــــوَد
وشُـــرْبُـــــه عـلــــى رُؤوس الـضّــــــأْن***مَـشْـــوِيّــــةً شَـــــــــــــأْنٌ وأيُّ شَــــــــــــــأْنِ
وشُـــرْبُــــه عـلـى الكُـفــوتِ المُعْجـِبَـــهْ***أحْبـِـبْ بــــــه مِـن مُشـتـَـهى مــا أطْـيَبَــــــــــهْ
وشُـــرْبُــه عـلـى الـرَّغـائــف الّـتــــــي***بالزّبْــــد والعســـــــل قــــــــد أعْـــمِـلــــــــتِ
أحْـسَــــنُ شَــيء نِـلـْـتـَـهُ صــبـاحــــــاً***وإن تـُـداوِمــــــــهُ تنَــــــلْ صـــلاحـــــــــــــــاً
وشــاع بـالـكَـعْـب الـغَـــزالـي ومـــــا***أشْـبَـهَـهُ فــــــــــي سلكـــــه قـــــــد نـُـظِـمــــا
كالـكَـــعْــك والغَــريـبـــة الـمُـكـرَّمَـــهْ***مَـحْـشُـــــــوَّةً طَيِّبَـــــــــةً مُـنـَـعَّـمَـــــــــــــهْ
وجـوَّزوا البـِشْـكــوتَ وهْــو صُــــورَهْ***كـذا القراشـيـــــــل لَـــــــــدى الضّـــــــــــرورَهْ
يُـخْــتـــارُ لـلأتـــاي بـــــابـــورٌ غَـــدا***بلونـــــــه الأصفــــــر يحكــــــــــي العَـسْـجَـدا
ورُجِّــــحَ الـبَــقْــــــــراجُ عــنـــــه إلا***لعــدْم مَـــــــن يأتـــــــــي بـــــــــــــــــه وإلا
إذا الـمَـقـــــامُ يـقـتـضـــي الـبــابـــورا***كـأنْ تــــُـرِدْ أن تـُـرْخِـــــــــيَ الـسُّـتـــــــــــورا
وسط القصيدة :
خُـذْهُ فَـدَتْــــكَ الـنَّفْسُ مِنْ قَبـــــْلِ الطَّعَـــــــــامْ***أَوْ بَــعْـــدَهُ فَـمَـا عَـلَـيْــــــكَ مِــــنْ مَــــــــلاَمْ
إِلاَّ إِذَا كَــــــانَ الــطَّـعَــــــامُ كُـسْـكُـسَـــــــــــا***فَــكُــــــلُّ مَــــــــــنْ أَخَّــــرَهُ فَــقَــــدْ أَسَـــــا
ويختم القصيدة :
وقـد جَــرى الـعَـمَــلُ فـي الـكــــــؤوسِ***بـأن تكــــــــــون عَـــــــــدَدَ الــــــــــــرؤوس
بـرّادُهــا كــأنّــه شَــــيْـــخٌ غَــــــــدا***يُـمْـلــــــي علــــى الـكــــؤوس منــه سَـنـَـــدا
وإن يـَـكُ الـمديرُ قـَدْ حَـازَ الـجَـمَــــــالْ***فِي خُـلْـقِــهِ وخَـلْـقِــــهِ فـهْــــوَ الـكـَمــــــال
أما الشاعر سليمان الحوات الشفشاوني فقد رجح تقديم شرب الأتاي على “طيبات الأقوات” حيث قال:
وكونه قبل الطعام يحتمل *** وهو الشهير وبه جرى العمل
أما إذ كان الطعام كسكسا فشربه بعده يعد إساءة ما بعدها إساءة أجمعوا عليها كلهم، فقال :
إلا إذا كن الطعام كسكسا *** فكل من أخره فقد أسا
وقال أيضا :
وضعف التأخير عنه ومنع *** بعد الكساكس بإجماع سمع
وقد أجاز الناظم شرب الأتاي على خلاء المعدة قبل الشروع في تناول الطعام :
وشربه على خلاء المعدة *** جاز على شرط حضور مائدة
تأكل منها لقمة أو لقمتين *** من قبل أن تشرب منه حلقتين
أما وقت شرب الأتاي فقد حدده الناظم بقوله:
ووقته وقت سرور وانبساط *** وحيثما دعا لشربه النشاط
ووقت الصباح عندهم مستحسن *** لكنه بعد العشاء أحسن
ودعا إلى الإدمان على شربه لأنه شفاء للنفوس، حيث قال :
كونوا عليه مدمـنين لأنه***شفاء النفوس إن عراها سقام
وقال في القائم على إعداده :
فهو الذي يقيمه ويحـسنه***وكـلـنـا مـن يـده نـسـتـحـسنه
ومن الأغاني الشعبية المشهورة التي تغنت بالشاي الأخضر؛ أغنية “الصينية” لمجموعة ناس الغيوان :
أتاي آْه يَا الصِّينِيَّة . . .
أَيَا نْدَامْتِي وْلِيعَة بْرَّادِي فِينْ غَادِي يْتْشْحَّرْ ؟
أَيَا نْدَامْتِي وُحِيرَةْ بْرَادِي جَايْبِينْ جُوجْ مْجَامْرْ
مْجْمْرْ عَامَرْ بِالْفَاخْرْ
وُمْجْمْرْ بِاللّْظَى الْهَاجْرْ َفَاخْرْ صَارْ رْمَادُه
لْقْلْبِي الْمْحْرُوقْ بْ لْبْعَادْ . . . آشْنُه ذَنْبْ الْبْرَّادْ
آهْ يَا الصِّينِيَّة . . .
ثم أغنية “الكاس حلو” للمرحومة الحاجة الحمداوية وحميد بوشناق.
لقد أبدع المغاربة في تحضير الشاي وتذوقه، وجعلوا له طقوسا احتفالية، لا تقتصر على المناسبات والأعياد فقط، بل أصبحت جزءا من الحياة اليومية، حيث يُحضّر طوال النهار، وفي جميع الأوقات سواء في الصباح الباكر، أو حتى في ساعة متأخرة من الليل، على الرغم من أنه منبه قوي. والشاي عند المغاربة قبل أن يكون مشروبا يوميا، هو أيضا وسيلة للترحيب بالضيوف، إذ لا يمكن أن تدخل بيتا سواء كان أهله من الفقراء أو الأغنياء، إلا وسارعوا إلى إحضار صينية الشاي، إذ يعتبر من قلة الذوق أن يحل بالبيت ضيف ويذهب إلى حال سبيله من دون أن يتناول كأس شاي.
لا يمكن أن تدخل بيتا مغربيا دون أن يُقدَّم لك الشاي..
ويقدم الشاي بشكل يومي في الصباح عند الفطور، و في العاشرة صباحا، وبعدة وجبة الغذاء، وفي المساء حوالي 17.30 وبعد وجبة العشاء.
كما يقدم للضيوف وقت حضورهم، وفي المناسبات، وأوقات السهر والسمر، والجلسات العائلية والحميمية، وفي استراحة العمل…
لذا فعلى جميع المغاربة حماية هذا التراث بعد أن أصبح عالميا ووصل إلى كل بقاع العالم، فبات الكثيرون يدّعون اختراعه، وعلى الأدباء والشعراء المساهمة في توثيق تقاليد الشاي المغربي.
_______________________
*: بتصرف.
**: حلقة1 : حول تاريخ الشاي بالنعناع المغربي موقع يوتيوب
حلقة ثانية :