الشارع في مواجهة الدولة ــ عبد الكريم ساورة

0
637

  الدولة التي تفقد احترامها، هي الدولة التي تتخلى عن مبادئها في رمشة عين بمجرد ما تشعر بالخطر يداهمها، أو تتوهم أنها في منطقة الخطر. هذا ما تعيشه الدولة المغربية في الآونة الأخيرة من ارتباك واضح في اتخاذ القرارات المتناقضة وغير الناجعة، بما بات يعرف بقضيتي الريف وجرادة.
أول ما يلاحظ في هاتين القضيتين، هو هذا التحرك العظيم للأساطيل الأمنية بكل أنواعها، كأن هناك تسونامي يضرب هذه المناطق، أو هناك من يتوهم أن المملكة مهددة بالفعل، وأن الريف وجرادة هما المتزعمان للانقضاض عليها والدفع بها إلى الفوضى والاندثار.
سوء تقدير كبير من طرف الحكومة، في معالجة هذا الملف وملفات أخرى بالمملكة، وهذا ناتج عن ضعف التكوين، والتسرع في الأحكام، والأنانية المفرطة، والمعالجات الترقيعية المتسرعة، وغياب مؤسسات ومراكز مختصة للدعم في الخدمات العمومية. وهو ما يجعل الحكومة تتخبط في أخطاء فادحة في كل مرة يظهر ملف من الملفات إلى الواجهة.
والسؤال الجوهري: هل المطالب الاجتماعية للساكنة في كل مناطق المملكة أصبحت تشكل تهديدا وإخلالا بالنظام العام ؟ أم هي مجرد جرس تحذير أن السياسات العمومية لا تسير في الاتجاه الصحيح ؟
بهذا الخصوص تحضرني واقعة يحكيها الكاتب والروائي الكبير جبرا ابراهيم جبرا في كتابه ” الحرية والطوفان ” حيث يقول : كنت في حلقة جمعت بين لفيف من الشباب ونفر ممن يعدون أنفسهم ” وجهاء القوم ” وكنا نبحث في مسألة معينة واشتد النقاش على أشده، وجاء أحد الشباب وكان جد ملم بهذا الملف، وقام بتنويرنا جميعا عندما أحاطنا بفكرة جديدة وملهمة وألقت نورا جديدا على المسألة، وإذا أحد ” الوجهاء ” يجيبه، وقد تحاشى معالجة تلك الفكرة، قائلا : ” كنا في العشيرة، إذا جاءنا أحد برأي جديد، نقطع رأسه، فالرأي الجديد أول الفساد “.
والمتمعن جيدا يستشف الصورة الحقيقية لقضية شباب الريف وجرادة، فالمسألة لم تبق ذات طابع استعجالي يطالب بها المحتجون، فالدولة لا يعوزها تحقيق ذلك، لكن المسألة أخطر وأعمق من ذلك وهو أن شباب هذه المناطق أصبح لهم رأي في قضية الثروة، بحيث أصبحوا يعتبرون أنفسهم جديرين بأن تقتسم الدولة معهم خيرات البلاد، لقد أصبحوا يرفضون لعب دور المستهلك ودور الخادم، ودور المستمع. وعلى هذا الأساس فهم يصرخون بأعلى صوتهم بأن يصبحوا لاعبين، وشركاء حقيقيين في اقتسام هذه الثروة في إطار الجهوية الموسعة التي تحمي هذا الحق وتدافع عنه بقوة.
فشباب المملكة ينتظر من الدولة أن تحافظ على شرعيتها من خلال حماية مؤسساتها الدستورية من عبث بعض المسؤولين الفاسدين، سواء الذين تم تعيينهم في الإدارة الترابية أو المنتخبين الذي يتصارعون كل الوقت من أجل مصالحهم الشخصية، وهذا لم يعد سرا على أحد، ففي كل مناسبة يقوم عاهل البلاد على تأنبيهم وتقريعهم ومطالبتهم بتمثيلية لمناطقهم تكون أكثر تشريفا وإنتاجية وإنصاتا للساكنة، وذلك بإعطاء نفس وروح لهذه الوحدات الترابية ولا تبقى مجرد بنايات فارغة بدون حياة.
أمام هذا الوضع المؤلم المبكي الذي يبعث على السخرية، ماذا يبقى من خيار أمام شباب هذه المناطق، أمام شباب المغرب العاطل عن كل شيء ؟
الشارع، وحده الشارع من يعوض كل هؤلاء الشباب الذين أجهضوا ظلما وأنانية وافتراء على حقهم المغدور، إنهم شباب تم غدرهم من طرف السياسيين الفاشلين في صناعة التنمية، ومن طرف الإدارة الفاشلة في التدبير الجيد، ومن طرف الأسرة المنكوبة. ومن طرف المجتمع المتكالب عليهم. الشارع وحده من وجدوا فيه ضالتهم، المأوى، والظل، والأخ، والصديق، والرفيق . إنه الملجأ الأخير، إنه الخيار الأخير، إنه المحكمة الكبرى لمحاكمة اللصوص والانتهازيين والفاسدين وآكلي الريع، وكل من أجهض حقهم الطبيعي في العيش في مغرب جديد.
هل الآلاف من العسكر والبوليس والدرك والقنابل المسيلة للدموع تستطيع أن توقف هذا التدفق الهائل من الشباب على شوارع المملكة ؟
لم يبق من خيار أمام الدولة سوى الحوار، الحوار الجاد والمسؤول مع مطالب الشارع، وليس مع طرف آخر، لقد انكشف القناع ولا أحد يمكنه ابتداء من كتابة هذه السطور أن يلعب دور الزعيم، دور القائد، دور الوسيط، الزعيم الحقيقي هو الشارع، وعلى هذا الأساس فالدولة أضحت أكثر من أي وقت آخر مطالبة بتغيير لغتها الأمنية والتسلطية والبحث عن أسلوب آخر، عن رجال حكماء جدد، عن نخبة جديدة، وعن أفكار جديدة، وشركاء جدد، وعن نموذج وسلطة جديدين.
يبقى سؤال جوهري؛ هل سيتحقق التغيير هذه السنة أو السنة القادمة ؟ التغيير الحقيقي يحتاج فعلا إلى سنوات أخرى، وهل سيسقط الفساد القائم ؟ لن يسقط بالشعارات والخطابات الاستهلاكية، لأنه يحتاج إلى إرادة وصرامة حقييين، لكن هل سيستمر الوضع بهذا العبث إلى ما لا نهاية ؟ لن يستمر بالمرة، لأن الدولة لا يمكنها أن تستمر في بناء الثكنات العسكرية، وأن تزيد في كل شهر من مرتبات البوليس والعسكر والقوات المسلحة لمواجهة الشعب.
عندما انتقد جلالة الملك النموذج التنموي الذي تبنته الدولة هذه السنين، فهي رسالة واضحة للمسؤولين على الشأن العمومي بالبحث عن بديل حقيقي يجيب فعليا عن احتياجات المواطنين الذين بُحت حناجرهم بالشعارات في شوارع المملكة وهم يطالبون بالكرامة، والكرامة لا يمكن أن تتحقق خارج عنصرين جوهرين وهما العدالة المجالية، والتوزيع العادل للثروة.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here