يعكس واقع الصّراعات في أيّ منطقة وجودَ عدة منصّات للخطوط المتوازية: هناك خطُّ إطلاق النار عند كلّ مواجهة مسلّحة، وخطٌّ إطلاق المواقف السياسية وتدبير الاستراتيجيات عقب أيّ تحوّل مهمّ في مسار الأزمة في ظلّ تشابك المواقف الإقليمية والدولية. هناك حاليا حالةُ ترقّبٍ قصوى متوازية بين الجزائر والرباط بأكثر من سؤال: كيف سيتغيّر ميزانُ القوة الإقليمي بعد اعتراف الرئيس ترمب بسيادة المغرب على الصحراء، وكيف تعدّل الجزائر استراتيجيتها، أو تبني استراتيجية بديلة، لإدراة المرحلة في صراع مُزْمِنٍ يُثقل الكاهل بمزيد من التحدّيات بين مواصلة الدعم لجبهة البوليساريو، وتدبير الحرب الباردة المفتوحة إزاء المغرب منذ إغلاق الحدود عام 94، وسبل احتواء الخطط الإسرائيلية
بحكم التقارب الجديد بين تل أبيب والرباط، بالنظر إلى اعتبار الجزائر “إحدى دول المواجهة” على غرار سوريا ولبنان منذ مشاركتها في حربيْ 67 و73.
هي ثلاثة تحديات متوازية تتداخل في حسابات المسؤولين الجزائريين الذين يجدون في احتفالية تأكيد التأييد للقضية الفلسطينية ومركزية القدس في الوجدان الإسلامي والعروبي متنفّسا مؤقتا لإدارة الحيرة السياسية وغياب الرئيس تبون شافاه الله في خلوته الطبية. وقد قال الناطق باسم الحكومة عمار بلحيمر إن “محاولات بعض الأطراف اللعب على ورقة التهديدات الأمنية واقع تؤكّده آخر التطورات بالمنطقة التي تستهدف الجزائر بالذات.”
#أطراف_شبه_مباشرة_في_الصراع
هواجسُ المرحلة في قصر المرادية ومجلس الشعب تنمّ عن حقيقة أن الموقف بين الجرائر وجارتها المغرب لم يعد صراعا واحدا بين منصتين سياسيتين اثنتين أو بين طرفين مباشرين، وبينهما البوليساريو، بارتباطات دولية محدودة. لكن مواقف واشنطن وباريس وموسكو، وحتى الرياض وأبوظبي وأنقرة وغيرها، لم تعد مجرد أطراف غير مباشرة بالتصور التقليدي للصراع كما كان الحال خلال الأعوام الخمسة والأربعين الماضية، بل أصبحت أغلبها أطرافا شبه مباشرة semi-direct stakeholders في الصّراع، وتقترب في أهميتها من أهمية الأطراف المباشرة: الجزائر، والبوليساريو، والمغرب وموريتانيا. فالجغرافيا السياسية لا تستقرّ على حال في المغرب الكبير ومنطقة البحر المتوسط: هناك موقف واشنطن المؤيد للمغرب، وموقف موسكو المعارض، وموقف باريس الذي يتريّث في موازنة كفتيْ المصالح الفرنسية مع الجزائر والمغرب. وهناك أيضا موقف مدريد الذي لا يريد مساومة التوازي بين قضية الصحراء ووضع سبتة ومليلية الموجودتيْن شمالي المغرب جغرافيا، وشمال المغرب سياسيا، ثم موقف برلين التي تتزعم حركة تصحيح أخطاء الحقبة الترمبية في السياسة الدولية، ولا ننسى موقف أبو ظبي الذي يساهم بالاستثمارات والمليارات في تحفيز المنطقة لقبول ما يخدم الاستراتيجية الإماراتية من أيّ تحوّل في ميزان القوة والتحالفات الجديدة.
بين موسكو وواشنطن ومجلس الأمن في نيويورك، تتحرّك دبلوماسية الجزائر والمغرب من أجل التحصين السياسي قبل العسكري بصفقات أسلحة مرتقبة. وتدور الحسابات الاستراتيجية لدى الطرفين في دوائر جديدة وبين معادلات متوازية: هل يمكن للجزائر تركيب الدائرة داخل المربّع عند التّرويج لثنائية “القضية الصحراوية” و”القضية الفلسطينية” كخطاب معياري مستمدّ من تأييد الرّئيس الراحل هواري بومدين لحركات التحرّر الوطني وعضوية الجزائر في حركة عدم الانحياز في السبعينات؟ في المقابل، هل يسهل على الرباط أن تحسم الجدل القائم بين “التطبيع” الإسرائيلي و”الاعتراف” الأمريكي، والأمل في الحصول مستقبلا على أفضل ما جاء في القرار الدولي الأخير 2548 الذي أصدره المجلس في 30 أكتوبر الماضي؟
يمكن اختزال الموقف الجزائري الراهن في محوريْن متوازييْن: أوّلهما، التلويح بشبح “المؤامرات الخارجية”، أو كما صرح رئيس الوزراء عبد العزيز جراد قبل أسبوعين، بأنّ “الجزائر مستهدفة بالذات”، وأنه يتمّ ترتيب “عمليات أجنبية”، ووجود “إرادة حقيقية” لضرب الجزائر. وبالأمس، يذكّر الناطق باسم الحكومة بلحيمر بموقف الرئيس تبون بأن “الجزائر لن تهرول نحو التطبيع ولن تباركه، والجزائر كانت وستظل جاهزة لكل الاحتمالات”، وأنّ هذه الخطة تعكس “موقف الشعب الجزائري كافة.” ثانيا، التّلويح ببعض مقولات المثالية السياسية بالثبات على التأييد لكل من “القضية الصحراوية” و”القضية الفلسطينية” بشكل متواز، وكأنّهما وجهان لعملة السياسة الجزائرية الحالية.
قبل أسبوع، حثّت مديريات الأوقاف والشؤون الدينية في عدة ولايات جزائرية خطباء الجمعة، عبر بلاغات رسمية، على تسخير خطبهم “لتنوير الرأي العام بما يحدث في الأراضي المحتلة فلسطين والصحراء الغربية.” وقد تناولتُ وقتها ما أسميته بالتحوّل إلى هندسة ثقافية صلبة تزيد في سوداوية الانطباعات والتشبع ب”المقدّس الجديد”، وبما قد يرقى إلى جهاد النفس من أجل “فلسطين المحتلة” ومن أجل “الصحراء المحتلة”. هو خروج عن الهندسة الثقافية الناعمة التي تقوم عادة على التصعيد الإعلامي خلال فترات تأزم الموقف، وتقليل الجرعة خلال فترات الانفراج النسبي.
خلال اليومين الماضيين، تمّ الترويج لتسجيلات الرئيس الراحل هوراي بومدين في ذكرى وفاته الثانية والأربعين وهو يقول إنّ “المعركة هي معركتنا كلّنا، ليست معركة الفلسطينين وحدهم”، وأيضا تعهّد الرئيس تبون حديثا بضرورة “قيام الدولة المستقلة في حدود 67 وعاصمتها القدس الشريف.” وتعزّز المشهد أيضا بالصوت والصورة للخطاب الحماسي الذي ألقاه الراحل ياسر عرفات في مؤتمر إعلان قيام دولة فلسطين يوم 15 نوفمبر 1988. وقال رئيس مجلس الشعب الجزاري سليمان شنين إن “القضية الصحرواية هي قضية استعمار، بسبب غياب أيّ رابطة تاريخية أو قانونية بين الشّعب الصحراوي والاحتلال المغربي.”
وساهمت هذه المقدمات في مشهد الدراما السياسية بتخصيص التلفزيون الجزائري “يوما إعلاميا مفتوحا للقضية الصحراوية” تحت شعار “الصحراء الغربية: قضية شعب”. وعلى مرّ ساعات البث الحي، تأججت مشاعر عدد من الجزائريين، واجتهد البعض في نسج ما تخيّلوه “عروة وثقى” بين إلتزام الجزائر ب”القضية الصحراوية” و”القضية الفلسطيينية” بمزيج من الشعارات الوطنية، والقومية، والتاريخية، والبطولية، ليشعر الجزائريون أنهم يقفون فوق هضبة معنوية أو أخلاقية أعلى من هضبة المغاربة!
#هل_الوطنية_تساوي_القومية؟
يستثمر الموقف الجزائري الراهن في منطقة رمادية بين فضائل الروح الوطنية وخطايا الروح القومية. وينطوي الخلط بينهما على تقارب مغلوط في المفاهيم، لكن بينهما تنافرٌ شاسعٌ، وإنْ كان خفيا، وإن كانت البشرية لم تحسم بعد خياراتها في الفصل بين الروافد الوطنية والقومية التي تضخّ الوقود في تراجيديا الخير والشر في كل زمان ومكان. ويمكن تبسيط تعريف “الوطنية” بأنه حبّ الوطن أو الحبّ المتفاني والدعم والدفاع عن الوطن. وارتبط مفهوم الولاء الوطني بمن هو عضو في حركة مقاومة أو مناضل من أجل الحرية. ولم ينتشر استخدام لفط “الوطنية” Patriotism، ذي الأصل الإغريقيpatriṓtēs ، بمعنى “مواطن أو عضو في النّسب”، إلّا في القرن السابع عشر في ضوء فلسفة معاهدة ويستفاليا عام 1648 التي أنهت حروب الأعوام الثلاثين وأرست منظومة الدولة-الأمة. فقد تحدث عالم الاجتماع السياسي بنديكت أندرسون عن الأمم باعتبارها “قابلة للانضمام في الوقت المناسب” لأنها تقوم عبر وساطة اللغة وليس بالدم بالضرورة.”
يقول جورج كاتب أستاذ علم السياسة في جامعة برنتسون، في مؤلفه باللغة الانجليزية بعنوان Patriotism and Other Mistakes “الوطنية وأخطاء أخرى”، إنّ الوطنية هي الاستعداد للموت أو القتل دفاعا عمّا هو تجريدي. وليس هناك شيء في الوطنية يمكن أن يراه المرء أو يشعر به كما يشعر بوجود شخص آخر أمامه. إذن، الوطنية هي الجاهزية للموت أو قتل الآخر من أجل تجريد من نسج الخيال.” غير أن المؤلِّف يميز بين الوطنية والمبدأ، ويقول إنّ هناك “تقابلا حادا بين الاستعداد للموت أو القتل من أجل ما هو تجريدي والاستعداد للقيام بنفس الأمرين في سبيل مبدأ معين.” أما موريزيو فيرولي، المتخصص في دراسة فكر ميكيافيلي، فلا يعتبر الوطنية دفاعا عن مبدأ عادي، بل عن مبدأ أخلاقي.
في المقابل، يقوم مفهوم القومية nationalism على نزعة نرجسية جماعية تتشبّع بنوع من الوطنية المفرطة والعدوانية. هي سياسة أو عقيدة تأكيد مصالح يؤمن المرء من خلاها بأن مصالح دولته منفصلة عن مصالح الدول الأخرى أو المصالح المشتركة لجميع الأمم. فقد احترس الأديب الفرنسي فولتير من القومية لأن “الشّرط الإنساني هو أن ينشد المرء عظمة الوطن الأم، وأن يتمنى الشرّ لجيرانه”. بعبارة أخرى، تمثّل القومية فكرة سامّة لأنها شعورٌ بالتفوق على الآخرين وعِداءٌ تجاه الأمم الأخرى، وهي أشدّ قوّة في تحريك المواقف نحو الصراعات والحروب. كانت القومية هي العامل الأساسي الذي أدخل أوروبا لعدّة قرون في صراعات ممّا أدّى إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية. ودمجت الأنظمة الفاشية حماسة القومية مع مفاهيم التفوق. وفي مثل هذه السياقات، يتغلّب منطقُ القومية على منطق الوطنية، ويصبح “الوطنيون” أولئك الذين يتفقون مع خطاب المرحلة ماداموا يتماهون مع الذات القومية، والخطاب القومي، إلى حدّ أنّ اللّغة المتداولة تصبح محكومة بألفاظ تمثل مفاتيح التصنيف لمن “معنا” ومن “ضدّنا”، ومن لا يكرّرون الخطاب ذاته يجدون أنفسهم مصنّفين في مربع “الخونة”.
وللأسف، كلّما ارتفع منسوب التشبّت بما هو قومي بقاعدة “إذا زاد الشيء عن حدّه، انقلب إلى ضدّه”، فإنه يذيب مكارم الوطنية في رذائل القومية التي تعتدّ بأنّها هي الأقوى والأشرس في معركة الخطاب قبل معركة الميدان. وتُولّد القومية نزعة الغرور بين أفراد المجموعة البشرية بفعل ما تمحنهم من ثقة زائفة وطاقة مسيئة. كما أنّ القومية تنفخ في الذات الجماعية بالشعور بالتفوق والنيل من معنويات الآخرين وتنمّ عن تحقيرهم، مثلا بنعوث يتداولها بعض الجزائريين عن المغاربة بأنهم “محتلّون” و”عياشة” و”مذلولون” وغيرها من الوصمات السلبية المتخيلة.
قد تكون ميولًا تلقائيةً في هذه المرحلة بتوظيف “القضية الصحراوية” والقضية الفلسطينية” في هندسة القومية الجزائرية الجديدة، وقد تحفظ للمسؤولين في قصر المرادية ماء الوجه إزاء الصحراويين والأطراف التي تساند البوليساريو. لكنها قد تحفّز المغاربة على تحويل وطنيتهم إلى قومية موازية، وتزيد في عبيثة الصّمود في المنصّات السياسية، والجميع يتوجسون من احتمال أن تنفلت الأصابع من ملامسة الزناد إلى الضغط عليه في أي لحظة في ظلّ أجواء عدم اليقين والأرق السياسي في العواصم المعنية.
في دراسة تحليلية بعنوان ” باسم الأمّة: تأمّلات في القومية والوطنية”، يقول عالم الاجتماع السياسي روجر بروبيكر “ليست الوطنية والقومية أمريْن ذوي طبيعتين ثابتتين. إنهما لغات سياسية مرنة للغاية، وطرق لتركيب الحجج السياسية من خلال مناشدة دلالات الوطن، والدولة، والأمة. لهذه المصطلحات دلالات وأصداء مختلفة نوعًا ما، وبالتالي فإن اللغات السياسية للوطنية والقومية ليست متداخلة تمامًا. لكنها تتشابك إلى حدّ كبير، ويمكن إنجاز مجموعة متنوعة هائلة من الأعمال بكلتي اللّغتين.”
قد نتساهل مع خطاب القومية، ونغالط أنفسنا بأنّها من قبيل القيم الوطنية سواء بين الجزائريين أو المغاربة أو الصحروايين في تندوف وفي العيون. وقد نعوّل على أن التّصعيد القومي والاستقواء بأيّ من الدول العظمى باتجاه الجزائر شرقا نحو الكرملين واتجاه المغرب غربا نحو البيت الأبيض بقراءات التحصين العسكري على الحدود وصفقات أسلحة أخرى. وقد نقرأ الكثير في تأييد الدولتين العظمتين حتى إشعار آخر، ولن تفلح أي قومية في التغلب أو محو القومية المقابلة في المحصلة النهائية. وإذا اعتمدنا التحليل التاريخي الدقيق، يبدو أن القضية الصحراوية خلال العقود الخمسة الماضية عانت انفصام الروح الوطنية الصحراوية الأصلية، التي نادت بالتمرد على الاحتلال الإسباني بين 1972 و1975، إلى قومية صحراوية “غربية” وقومية صحراوية “مغربية”. وتجسّد معركة مغالا وغيرها مقولة جورج كاتب بشأن الاستعداد للموت والقتل عندما تتضخّم الوطنية العدائية فتغدو قومية سامّة.
تبلور الوعي الوطني الأوّلي بتحرير الصحراء خلال عامي 1972 و1973 بين مجموعة من شباب الصحراء، ومنهم الوالي مصطفى السيد وهو في سنّ الرابعة والعشرين وحديث التخرج من جامعة محمد الخامس، بضرورة إنهاء الوجود الإسباني بشعار “الصحرا تصبح حرّة، واسبانيا تخرج برّا”، في ظلّ انتعاش فكرة تأسيس جيش تحرير جديد على غرار ما فعله آباؤهم وأجدادهم لإنهاء الاستعمار مثل الانتفاضة الشعبية التي تزعّمها محمد سيد ابراهيم البصيري، قائد حركة تحرير الساقية الحمراء وواد الذهب، في مدينة العيون ضدّ الإسبان في 17 يونيو عام 1970. ومن الوجوه الثورية التي انطلقت من المغرب لإنهاء السيطرة الإسبانية في الشمال والجنوب أيضا بنحمّو المسفيوي أوائل 1956. فتشبع الشباب الصحراوي بالسيرة الذاتية للبشير الفكيكي الملقب بإدوارد موحى الذي أسس في المغرب “حركة مقاومة الرجال الزرق” قبل انتقاله إلى الجزائر عام 1973.
انطلقت هذه الحركة المطالبة بتحرير الصحراء بزعامة الوالي بروح وطنية مغربية. وكاد سِفْرُ التّكوين لجبهة البوليساريو، كحركة سياسية واجتماعية، أن يكون مغربيا وبارتداء جلابية فوق الدرّاعة بشكل منسجم لو أحسنت الأجهزة المركزية وقيادات الأحزاب في الرباط الإنصات وحسن التدبير لمن كان يحملُ همَّ استقلال الصحراء آنذاك. كان الوالي مصطفى يتبنّى في البداية فكرة أن تكون البوليساريو مغربيَة النشأة ومغربيَة المقاصد: تحرير الصحراء بموازاة التحرير المتدرج للمغرب من الاستعمارين الفرنسي والإسباني عام 1956، وطرفاية عام 1959 وسيدي إفني عام 1969. كان الوالي وبقية مؤسّسي الجبهة “أوّل من تعلموا في المدارس والجامعات المغربية في مجتمع كان يضمّ رعاة إبل وغنم وأهل بادية، ومن تعلّم في أفضل الحالات كان يحفظ القرآن”، وفق ذكريات المحجوب السالك من أيام مراهقته وكيف تحمّس هو الآخر للعمل الثوري وهو في سنّ الخامسة عشرة. لكنّ الوالي مصطفى شعر بخيبة أمل ستلازمه حتى وفاته بعدما قال له عبد الرحيم بوعبيد وعلي يعته “رُوحو أدْرَارِي، خلّيو السياسة لمّاليها”، وحثّه علال الفاسي على وصية مُحبطة “روحو كافحوا، وحنا نتفاوضوا بإسمكم”، وفق شهادة المحجوب السالك أحد مؤسسي البوليساريو. لحظة تأمل أخرى في المابعديات توضّح أن ديناميات الصراع وتحوّلات المنطقة لقرابة خمسين عاما كانت ستتغيّر لو تمّ عقد المؤتمر التأسيسي للبوليساريو في العاشر من مايو 1973 في الرباط، وليس في الزاگ، أو في الزويرات!
لم تستوعب الرباط وقتها الطموحات الوطنية لدى هؤلاء الشباب الثائرين على إسبانيا، لتغدو أحلامهم مشروعا سياسيا جاهزا في يد العقيد القذافي لنشر أفكاره “الجماهيرية” وفرصة مواتية لتعميق بؤرة ثورية في المنطقة بتمويل أربعين مليون دولار، بعد الجولة التي قام بها بن عمه الجنرال الكشاط في منطقة الصحراء وتعاطفه مع من كان يعتبرهم من نفس السلالة. فأصبحت الصلة الشخصية بين القدافي والوالي متينة، ولم يعد يكترث أعضاء البوليساريو بنداء الوحدة في اجتماع في طرابلس ترأّسه حبيب الله، في غياب الوالي مصطفى، مع وفد من المعارضة المغربية. فتداخلت التحرّكات الميدانية والبحث عن حلفاء إقليميين للبوليساريو أيضا مع تنافس الزعامات الشخصية عندما استقطبهم الرئيس بومدين، وتعهّد بتسليحهم وتدريب مقاتليهم من أجل تسوية حسابات قديمة مع الملك الحسن الثاني منذ حرب الرمال عام 1963، وحاول ترجيح الكفة الجزائرية في ميزان التنافس مع المغرب في قيادة المغرب الكبير. ويذكر ستيفان زون وجيكوب مندي في كتابهما “الصحراء الغربية: الحرب والقومية وتسوية الصراعات أنّ “النّظام الجزائري الذي كان يهيمن عليه الجيش يعتبر البوليساريو عربة شرعية مواتية لقلب الوضع القائم بعد نجاح الحسن الثاني في ضم الصحراء الغربية أو مراقبة تحرّكات المغرب على أقل تقدير.”
قد يطول التحليل بين التاريخ والسياسة وتغذية الصراعات بمحفزات قومية. لكن عندما أدير وجهي نحو المستقبل، تنتابني الخشية من مآل توظيف الخطاب القومي سواء من قبل الجزائر أو المغرب ضمن أدوات إدارة تداعيات الوضع الراهن بموازاة تصريح الناطق باسم الحكومة الجزائرية عن “جاهزية الجيش الوطني الشعبي لمواجهة كل الاحتمالات وقدرته العالية على وأد كل المناورات في مهدها.”
وبمنطق منهجية الإنذار المبكر في تحليل الصراعات، قد تصبح الجارتان الجزائر والمغرب، من حيث لا يدري مهندسو القومية الجديدة، بمثابة قوة دفع نحو سياسات العداء وإقصاء الآخر، ونحو إنتاج علاقات ما هو أسوء مما كان في حقبة الحرب الباردة، واستعادة منطق سياسات القطبين. ستكون خطوةً القفز إلى الوراء، وليس الأمام، ضد حركية التاريخ، وقد تحررت واشنطن وموسكو من عقدة الحرب الباردة التقليدية والجليد السياسي القديم.
تحت هاجس “المؤامرات الخارجية” والحذر من تحالفات المغرب الحالية، قد تعتقد الجزائر أن من مصلحتها المضي قدما في التّرويج لخطاب القومية الجديدة، وتحفيز الوجدان الجماعي لدى الجزائريين بنسج مفتعل بين تعاطفهم مع القضية الفلسطينية وموقفهم من القضية الصحراوية كأفضل استراتيجية ممكنة في المرحلة الراهنة. لكن ينبغي التفكير أيضا في المضاعفات المحتملة على المدى البعيد. سيزداد تعقيد الأوضاع الميدانية في المنطقة، وسيطول انتظار الأمم المتحدة على أمل أن يتوافق الأطراف المباشرون، ونصف المباشرين، وغير المباشرين في الصّراع على حلّ سياسي وفق التوصيات المتكرّرة في تقارير مجلس الأمن وحث أمناء الأمم المتحدة على التفاوض.
وقد تصحو المنطقة المغاربية فجر عام 2065 عندما تحلّ الذكرى التسعون لنشوب صراع الصحراء بعسر مستدام في ولادة الحلّ، لكن بمكاسب غائبة وخسارات حاضرة اشرأبت إليها الأعناق وصدحت بها الحناجر لعقود طويلة خلال حرب باردة مستدامة بين الجزائر والمغرب، أو وفق مقولة الرّاحل محمد الباهي “اذهبْ وربّك فقاتلا”. ويستمرّ تشبع الأطراف بضرورة “الفوز عسكريا ودبلوماسيا”، كغاية منشودة لخطابيْ القوميتين المتوازيتين في صراع تخندق فيه الجميع نفسيا ومعنويا وسياسيا إلى أن غدا عقيدة وجوديةً، وفصلا جديدا في موسوعة “صدام الواقعيات السياسية” التي لم تُكتب بعد، بل وأيضا أداة لقياس نجاعة أو وهن دبلوماسية كل طرف من الأطراف الثلاثة ومكانتهم على مسرح العلاقات الدولية.
إذا تمسكت الجزائر بخيار القومية الجديدة، فإنها ستسد الباب وتضيّع المفتاح من يدها إزاء ثلاثة خيارات استراتيجية ستحتاجها في المستقبل بحكم أن الجغرافيا السياسية لا تؤمن بالجمود أو الثبات على وضع معين: تسوية قضية الصحراء، وترميم العلاقة مع المغرب، وبناء مغرب عربي كضروة حتمية في المحصلة النهائية. ليس هذا من قبيل الرومانسية السياسية أو الوعظ المثالي، ولكن طبيعة الصراعات واستنفاد سبل الواقعية السياسية تتغير وتستدعي التفكير في معادلات بديلة لصنع السلام كضرورة استراتيجية.
سؤالي إلى الجزائريين والمغاربة وكل المغاربيين بمن فيهم الشتات المغاربي في العالم: هل أنتم “وطنيون” أم “قوميون”؟