ولدت في بيت فلاح نشيط، كانت بنته البكر، علمها الفلاحة بكل تفاصيلها منذ نعومة أظفارها، ولم تكن مسؤوليات الحرث والسقي والجني وإحضار العشب للأبقار، وحلبها، وإحضار الحطب من الغابة، لتعفيها من مسؤوليات أنوال، ومن مسؤوليات البيت عامة، فالكل يناديها لتخدمه من الجدين إلى الوالدين إلى إخوتها الصغار. كانت أيامها شاقة جدا، تستيقظ باكرا تملأ الجرار من العين، تحضر الحطب، تقدم العلف للمواشي، تحلب الأبقار، تعد الحساء الصباحي واللبن والقهوة وتقدمها مع التمر، تتفقد المنحلة والحقول ونوبة السقي وتحضر الحشيش، تعد الفطور تقدمه ثم تعود للحقل لتباشر السقي أو الحرث.. لا يخلو موسم من عناء من نوع مختلف، فموسم الحصاد والقطف ليس أهون من موسم الزرع والحرث والسقي، كبرت فازدادت جمالا ونورا، جمال أطلسي نقي، لم تعرف بشرتها المساحيق ولم يكن جمالها الطبيعي بحاجة لشيء أصلا، وإضافة لجمالها أوتيت قوة ربما من عملها الدؤوب، لم يكن أحد يجرؤ على سرقة نوبة الماء أو شيء من المحصول.
حسناء القوية الحكيمة، كانت مع قوتها لا تظلم أحدا بل تكرم وتساعد، أوتيت قوة الحجاج وذكاء وحكمة، كان والدها يستشيرها في كل صغيرة وكبيرة، كبر إخوتها الذكور مدللين وبقيت وحدها تحمل هم العائلة.
على الرغم من مكانتها ووقارها لم تكن سعيدة فكل أيامها كانت شقاء، تقدم ابن عمها لخطبتها فوافقت على الفور، كان تاجرا ثريا بالبيضاء وهو طيب خجول حامل لكتاب الله، انتقلت إلى بيته في القرية المجاورة، كان يغيب عنها لأسابيع ثم يعود ليجدها قد أعدت له مخزونا من السمن وزيت أركان وأملو والعسل.. وقد اعتنت بأهله وبمواشيه وأراضيه على أكمل وجه، أحبته لأنه كان رحيما بها أكثر من أهلها الذين ما زالوا يستدعونها بين الفينة والأخرى للحرث أو الحصاد أو غيره.. وحرصت على إرضائه في أهله فكانت أبر لهم من أبنائهم.
مرت سنة على زواجهما، أنجبت طفلة فزاد تفانيها ولم تطالبه قط بأن ترافقه للمدينة، كانت تحرص على طاعته. اقترب يوم العيد فاستعدت لعودة زوجها وأعدت أطايب المأكولات وزينت البيت ولبست أحسن حليها وثيابها، فكان أن اتصل ليخبرها أنه سيقضي العيد في الدار البيضاء بعذر العمل، لم تكن أسبابه مقنعة لها ونبرة صوته بدت لها مختلفة، تيقنت أنه لن يحبسه عن قضاء العيد في بيته إلا أمر جلل، قضت الليل كله تفكر: كيف تترك زوجها وحيدا في محنته؟ لعله مريض يخفي مرضه عنها لعله في مشكلة.
صلت الصبح وحزمت حقيبتها وحملت ابنتها وانطلقت للبيضاء التي سرقت منها زوجها يوم العيد.
نسيت الجوع رغم طول الطريق، وكم طالت عليها الطريق وضاقت بها الدنيا، فهذه أول مرة تسافر فيها.
وصلت إلى المحطة واستدلت على العنوان، فوجدته بمشقة فلم تكن تتكلم غير الأمازيغية.
وقفت أمام العمارة التي يسكنها زوجها، فلفت انتباهها كثرة الداخلين والخارجين والصخب والموسيقى، فأخذت تسب وتلعن أهل الحضر في نفسها الذين لا يراعون حق الجوار فزوجها مريض وجيرانه يطبلون.
صعدت الدرج وسألت عن الشقة فوجدت الباب مفتوحا، دخلت ووقفت ذاهلة وسط الجموع، بحثت عنه بعيونها ونبضات قلبها تتسارع، فرأته جالسا وبجانبه عروس، ترددت للحظة ثم انطلقت بقوة نحوه وهو لم يلحظ وجودها بعد، كان منشغلا بالحديث إلى عروسه، قبل أن يتلقى صفعة أدمى لها وجهه، نظر إليها غاضبا ولم يزد على: أنت طالق طالق طالق. نظرت إليه نظرة قالت فيها كل شيء، تراجعت خطوات وهي تحاول التماسك كي لا تسقط رضيعتها، فاضت دموعها ألقت عليه نظرة أخيرة، ضمت طفلتها بقوة ثم أسلمت أمرها لله وعادت أدراجها. مطلقة ليلة العيد.
عادت إلى القرية كسيرة جريحة ،شعور بالظلم والقهر يمتزج بالصدمة والحزن ،خوف من المستقبل من نظرة الناس من احتقار الأهل،فقد صارت مطلقة،أيْ عاراً ،فالمطلقة فاشلة ووصمة عار على القبيلة،بكت في الطريق بسخاء ،لأنها قررت ألا برى أحد في القرية دمعتها ولا يسمع أحد شكاتها،فمادام علي قد غدر فكل الناس يغدرون.
رجعت حسناء لعادتها القديمة،رجعت للشقاء اليومي في بيت أبيها ،لكن هذه المرة ذليلة ،متفضلا عليها،لا تفوت مناسبة للنبش في جرحها، “الهجالة” هكذا صار الآخرون ينعتونها،أفرغت طاقة غضبها في العمل،ورضيت بقدرها وهي على يقين أن الله سيفرج كربتها.
انقضت عدتها،وبدأت تفكر في الزواج من جديد ،وفعلا تزوجت من أحد أبناء الحضر،وفي زحام معاناتها نسيت ابنتها،انتقلت لبيت زوجها الجديد وخلفتها عند جديها.
كان زوجها طيبا لكنه كان بخيلا،وأقبح خصلة في الزوج البخل، صبرت لأيام على تضييقه في النفقة على البيت ،ثم ربطت علاقات مع جاراتها فكانت تخدمهن تغسل ملابس هذه وتنظف بيت تلك وتحمل القفة عن أخرى وهكذا….مقابل دريهمات أو طعام أو كسوة،صارت حسناء ابنة الفلاح الكبير خادمة في البيوت ،لكن ظلم الغرباء أهون من ظلم ذوي القربى فصبرت لأنه قدرها.
حملت وأنجبت فلم يتغير للحسن حال،بخله لم يعرف الجاحظ مثله،فينافس فيه،توقفت عن العمل فقطعت عنها مساعدات الجارات ،استأذنت زوجها أن تذهب لبيت والدها لأيام لعلها تنال من عطفه القليل الذي يكفيها،لكن بعد يومين من وصولها للقرية توصلت برسالة تخبرها أنها طالق.نسيت أوجاع النفاس فعادت للحسن لتعرف السبب،ماذا اقترفت لم طلقها؟ولم يكن هنالك سبب سوى أن للحسن خصلة أخرى غير البخل تجهلها بينما يعرفها كل سكان المدينة،فلحسن الطيب هذا كان مزواجا،يتزوج كل عام ويطلق،له أبناء في كل مكان،وقد حان دورها وانتهت صلاحيتها عنده، فالإنجاب بالنسبة له دعوة للتجديد،ندبت حسناء حظها،ولان لحسن لم يكن يحب كثرة الجدال أرجعها (لدورة استدراكية جديدة ) عاشت معه سنة أخرى ثم كان ما توقعته طلاقا لا رجعة فيه،عادت من جديد للقرية “هجالة للمرة الثالثة”،هجالة وأم لثلاثة أبناء،فكثرت الأقاويل وحيكت القصص حولها،فجمال المرأة يستعمل ضدها في مثل هذه الظروف.
كانت عودتها هذه المرة مزعجة أكثر لأهلها فلم تعد قوية بما يكفي للعمل،ووجود ثلاثة أطفال حمل ثقيل ،فقرر والدها أن يزوجها من جديد لكن هذه المرة سيختار لها زوجا “مضمونا” كما سماه،وفعلا زوجها من احد أثرياء المدينة ،بل كان أستاذا باحثا،كان اكبر منها بعشرين سنة ،لكنه كان وسيما جميل الكلمات،سحرها من أول يوم زارهم فيه بلباقته ورقي تعامله ،فتزوجته وانتقلت للعيش ببيته الكبير بالمدينة،وفي غمرة فرحتها بحقائب الهدايا وعذوبة الكلمات نسيت أطفالها الثلاث وغادرت وخلفتهم وراءها لتعيش قصة جديدة لاهثة خلف سراب السعادة .