أعلنت وزارة الدفاع الجزائرية، يوم أمس الجمعة، عن إجراء تدريبات عسكرية جوية بحاسي بحبح التابعة لولاية الجلفة في شمال البلاد، وهي التدريبات التي لا تلفت الانتباه بسبب توقيتها المتزامن مع التوتر الدبلوماسي المتصاعد حاليا بين الجزائر والمغرب فقط، بل أيضا لعنونتها من طرف القائمين عليها بـ”الضربة الوقائية في عمق إقليم العدو”.
وتأتي هذه العبارة لتحيي مرة أخرى أسئلة مؤرقة حول مدى رغبة جنرالات الجزائر في إيقاد جذوة الحرب مرة أخرى مع جيرانهم الغربيين، في ظل تصعيد تصريحاتهم التي تلمح بشكل واضح إلى أن “العدو” ليس سوى المغرب، بما في ذلك تصريحات رئيس الأركان ونائب وزير الدفاع، السعيد شنقريحة، وهو أحد الحاملين التقليديين لعقدة “حكرونا” التي تعود إلى سنة 1963 والتي لا زالت المحرك الرئيس للعقيدة العدائية للجيش الجزائري تجاه المملكة.
مناورات تطرق باب الجيران :
ويأتي الإعلان عن التدريبات الجوية الجزائرية، التي قادها اللواء محمود لعرابة، قائد القوات الجوية، بعد يومين فقط من تصفية سلاح الجو المغربي لقائد درك جبهة “البوليساريو” الانفصالية عبد طائرة مسيرة قتالية “درون” عندما كان يحاول القيام بعملية بالقرب من الجدار العازل بمنطقة “تويزكي” التابعة لإقليم “أسا الزاك”، كما يأتي بعد شهر واحد من المناورات العسكرية البرية والبحرية الضخمة التي خاضتها القوات المغربية والأمريكية بشكل مشترك في السواحل الأطلسية الجنوبية للمغرب، والتي أطلق عليها اسم “مصافحة البرق”.
وبدا تأثير هذه العملية حاضرا من خلال بيان وزارة الدفاع الجزائرية التي أصرت على إبراز “كفاءة” و”قدرات” قواتها الجوية، إذ جاء في البلاغ “شارك في هذا التمرين الجوي مختلف أنواع الطائرات والحوامات، تتقدمها طائرات الاستطلاع والطائرات المقاتلة التي نفذت رميات حقيقية على أهداف جوية وأخرى برية تم تدميرها بدقة عالية”، وتابع “كما شهد التمرين أيضا عملية إبرار مفرزة من المغاوير المظليين، بواسطة المروحيات تحت تغطية جوية للطائرات المقاتلة، وعملية التزويد بالوقود جوا”، وأضاف “وتواصل التمرين في المرحلة الليلية، حيث نفذت الطائرات المقاتلة مهامها بكل احترافية وإصابة الأهداف بدقة عالية”.
وهذه التدريبات ليست الأولى من نوعها الموجهة بشكل ضمني نحو المغرب، ففي 18 يناير الماضي، وبعد شهرين من التدخل الميداني للقوات المسلحة الملكية في الكركرات التي انتهت بطرد أنصار جبهة “البوليساريو” وإحكام السيطرة على المنطقة العازلة المؤدية إلى شبه جزيرة الكويرة، وبالتالي إغلاق المنفذ الوحيد الممكن لها نحو المحيط الأطلسي، بث التلفزيون الجزائري مشاهد للمناورات البرية والجوية الواسعة التي نُفذت بولاية تندوف على الحدود مع المغرب، وهي المناورات التي أشرف عليها شنقريحة بنفسه مصرحا أن “كافة المخططات المعادية والمناورات الخسيسة سيكون مصيرها الفشل اليوم وغدا”.
شنقريحة.. الراغب في الحرب :
ويبرز اسم شنقريحة كأهم محرك للعداء ضد المغرب، فقبل أن يعين في منصب قائد الجيش الجزائري في 23 دجنبر 2019 بعد وفاة سلفه أحمد قايد صالح، كان اسمه معروفا لدى المغاربة بوصفه الشخص الذي حرض “البوليساريو” مباشرة على خوض حرب ضدهم، ففي مارس من سنة 2016، وعندما كان قائدا للقوات البرية ظهر تسجيل له وهو يدعو ميليشيات الجبهة في تندوف على “خوض الكفاح ضد المحتل المغربي” الذي “يغتصب أراضيهم دون وجه حق” على حد تعبيره.
ويوم 15 نونبر 2020، بعد يومين فقط من عملية “الكركرات”، بثت القنوات الجزائرية خطابا لشنقريحة أمام الجنود قال فيه “أعول على كل واحد وهو في منصبه، من الجندي البسيط إلى ما أعلى.. (لديكم) مهمة شريفة، الدفاع عن حدودنا ضد الإرهاب، ضد المهربين، وضد حتى عدو كلاسيكي، لأن الجزائر هي أقوى دولة في المنطقة”، وهو الخطاب الذي حمل إشارات ضمنية واضحة للمغرب، ستتضح أكثر في دجنبر الماضي عندما نشرت مجلة الجيش افتتاحية جاء فيها “الوضع الإقليمي المتردي على طول شريط حدودنا وقيام بعض الأطراف مؤخرا بتهديد أمن المنطقة يعنينا”.
وبالرجوع لتاريخ شنقريحة العسكري، يتضح سبب هذا العداء الراسخ للمغرب، فالرجل بدأ حياته العسكرية بهزيمة قاسية أمام جيش جيرانه الغربيين، إذ عندما كان عمره 18 ربيعا فقط، وقبل حتى تخرجه من الأكاديمية العسكرية لهيئة الأركان السوفياتية في فوروشيلوف، شارك في حرب الرمال سنة 1963، وحينها كان جنديا في سلاح المشاة وهي الحرب التي انتهت بهزيمة قاسية للجزائر انتهت بصرخة جعلت العديد من قادة الجيش يسعون لجولة جديدة من القتال لعلها تنتهي بإعادة الاعتبار لقواتهم.
“حكرونا”.. صرخة هزيمة بَنَت عقيدة :
وكانت تلك الحرب قد أدت إلى توغل الجيش المغربي داخل ولاية تندوف، قبل أن تنتهي بتوقيع اتفاق باماكو القاضي بوقف إطلاق النار، إثر وساطة منظمة الوحدة الإفريقية وجامعة الدول العربية، لكنها خلفت جرحا غائرا في كبرياء القادة الجزائريين بعد الصرخة الشهيرة لرئيس البلاد حينها، أحمد بنبلة، “حكرونا المغاربة حكرونا”، في إشارة منه إلى أن جيشه لم يكن متأهبا بعد لمواجهة عسكرية مع قوات نظامية مهيكلة ومدربة، وهو الأمر الذي سيتحول إلى رغبة في “الانتقام” عمرها 48 عاما.
وأضحت هذه العبارات المحرك الأساسي للصراع خلال السنوات الموالية، وتحديدا في عهد الرئيس هواري بومدين الذي كان وزيرا للدفاع في 1963، والذي سينقلب على بنبلة بعدها بسنتين وسيجد في ضم المغرب لأراضي الصحراء سنة 1975 بعد خروج القوات الإسبانية منها فرصة لرد الاعتبار بحرب مباشرة، لكنه سيصدم بنصيحة الشاذلي بن جديد التي أوردها في مذكراته، حيث أخبره أن الجيش الجزائري “يفتقد الامكانيات، ويفتقد إلى التنظيم، وإننا موضوعيا غير جاهزين لتموين الوحدات بعيدا عن قواعدها في حالة حرب”، وهو ما أحبط بومدين الذي عقب قائلا “ما عنديش الرجال”.
وكانت هذه “العقيدة” محركا لهزيمة جزائرية أخرى سنة 1976 في معركة “أمغالا” الأولى، حين انتصرت قوات الكولونيل أحمد الدليمي على القوات الجزائرية الداعمة لمسلحي “البوليساريو” في معركة استمرت لـ36 ساعة فقط، لكنها أفضت لسقوط 200 جندي جزائري قتيلا وأسر العشرات الذين جرى عرضهم بعد ذلك أمام عدسات الكاميرات بأمر من الملك الراحل الحسن الثاني لإثبات ضلوع جيرانه الشرقيين في هذه الحرب.
ولم يكتب للجزائر منذ ذلك الوقت أن تدخل في حرب مباشرة مع المغرب لكسر عقدة “حكرونا” التي قال عنها الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة “هي صفحة أريد أن أطويها لكنني لن أنساها”، غير أن تصريحات عسكرييها، وعلى رأسهم قائد الجيش الحالي السعيد شنقريحة، تُصور قيام هذه الحرب، التي قال عنها الرئيس التونسي الأسبق، المنصف المرزوقي، إنها “ستكون طاحنة ولن يخرج منها أحد سالما”، وكأنه أمر ممكن في أي لحظة.
________________
المصدر : https://www.assahifa.com/