بيني وبين المفكّر المغربي محمد عابد الجابري أكثرُ من تقارب فكري وتواصل شخصي سواء خلال حياته أو بعد رحيله في مثل هذا الأسبوع قبل عشر سنوات. وكلّما أتأمّل واقعنا في حقبة الغمامة الكورونية العالقة فوق رؤوسنا والجاثمة على صدورنا، وتردّي أوضاعنا السّياسية في ظلّ مؤامرات إقليمية في ليبيا واليمن وسوريا، وحراك شعبي مفتوح في الجزائر ولبنان والعراق، وتنامي أطماع “إمبراطورية” بتدبير خليجي يتقاطع مع استراتيجيات إسرائيلية وأمريكية، فضلا عن محاولات خنق النَّفَس الثّوري لانتفاضات شعبية تتوخّى التّنوير والتّجديد وبناء الديمقراطية منذ تسع سنوات، أجدني أعود بالتّفكير مليّا إلى أربعة أمور أساسية دافع عنها الجابري في مشروعه الفكري خلال أربعة عقود، لكنّ لايزال تحقيقُها يواجه التعثّرات ويرتهن بها مستقبل العرب بعد 2020، وهي العقلانية، والحداثة، والديمقراطية، والقطيعة المعرفية. فقد أوضح أنّ مشروعه “هادف”، وأنّه لم يمارس النّقد من أجل النّقد، بل “من أجل التحرّر مما هو ميّت ومتخّشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي. والهدف فسح المجال للحياة كي تستأنف فينا دورتها وتعيد فينا زرعها”، كما خطّ في كتابه “بنية العقل العربي”.
بعد عشر سنوات من رحيل الرّجل، تتباين المواقف بين سائر التّيارات المؤيّدة لفكره وأحلامه في تركيب عقل عربي يصنع الفعل الحضاري، أو المتحاملة عليه بشتى التأويلات بسبب خشيتها من النّقد والتغيير ورُهاب القطيعة ليس المعرفية فحسب، بل وأيضا القطيعة مع الوضع السياسي والاقتصادي القائم لتبقى دار لقمان على قدر تعثّر حفدة لقمان. لا زلنا عالقين في أكثر من عقدة منشار وحيارى أمام أكثر من متاهة، ولا زلنا “نفكّر في الحاضر والمستقبل بواسطة الماضي. فنحن نربط، صراحة أو ضمنا، بين الفلسفة والتاريخ. لكنّ أيّ تاريخ وأية فلسفة؟”، كما قال في كتابه “التراث والحداثة” الصادر منذ ثلاثة عقود.
الجابري جليسُ المرحلة:
يراودني شخصيا سؤالٌ ملحٌّ منذ 2011 حول نقطة الدخول العربي إلى القرن الجديد، ومدى انتمائنا إلى عصر الأمن الديمقراطي، قبل أن أوصلتنا جائحة كورونا إلى متاهة الأمن الإنساني. كان أملي وأمل بعض الأصدقاء كبيرا في عقد ندوة دولية حول تقييم أفكار الجابري في هذا الاتّجاه، وحصيلة تمحيصه في جدلية التراث والحداثة، وكيف يمكن أن تتمّ المصالحة بين العقلانية والتقليدانية وترميم الطّريق أمام التغيير والابتكار العربي فكريا وسياسيا وتنمويا، وهو القائل: “يشعر الواحد منّا نحن المثقّفون العرب أنّ التراثَ العربي بمضامينه ومشاكله الفكرية في وادٍ، والعصر الحاضر وحاجاته في وادٍ آخر”.
هذا الانفصام بين الذّات التي تحمل هموم المرحلة من ناحية وطبيعة البيئة الثقافية والسياسية التي انتهى إليها واقع الحال العربي من ناحية أخرى ليس من تأملات الجابري نفسه في مغزى تدرّج حياته بين قرن وآخر فحسب، بل وأيضا من حتمية التحوّل الاجتماعي المستمرّ ومن عمق الحِكَمِ المتأصّلة في التراث العربي الإسلامي أيضا، إذ قال علي بن أبي طالب “لا تقسروا أولادكم على أخلاقكم، فإنهم خُلقوا لزمن غير زمنكم.” من ميزات الجابري دعوتُه لمراعاة السّياق، قبل التبيئة، في تفكيك أيّ قضية أو تحليل أي مفهوم، ومن عباراته الشهيرة قوله “لا معنى للحديث عن أي شيء لا يرتبط بمرجعية، لا يستند إلى أصل”.
قبل أربع سنوات، لاحت في الأفق فكرة واعدة خلال لقاء ودّي جمعني بالصديقيْن عبد الله ساعف وعبد العزيز سارت في مقهى Google في حيّ أكدال في الرّباط في يوليو/ تموز 2016 حول مشروع ندوة عن فهم العالم لفكر الجابري وتأثير كتاباته في الشّرق والغرب. لكن يبدو أنّ هناك صلة روحانية غريبة بين ما تمرّ به الأمكنة من أقدار ومصير بعض الأفكار وتخليد قيمة هؤلاء الكبار. لم تبق من ذلك المقهى آثار سوى اسم ممحيّ ذابل على الجدار بعد إغلاق أبوابه. واليوم يمتدّ حكم قرقوش باستبداد الملكة كورونا إلى قطع الطريق على تنظيم أيّ ندوة أو حتى زيارة قبر الرّاحل العزيز. لقد أوصى الجابري خلال حياته بالتفكير في مؤسّسة فكرية لمتابعة تركته ونشر مخطوطاته شبه الجاهزة ومراسلاته مع عدد من المثقفين في أوروبا والشرق، وأن يتولّى تنسيقَها الأستاذ عبد الله ساعف ويكون الوصيّ على توجيه مسارها الفكري في المستقبل.
ويتذكر صديقه الوفيّ الآخر عبد القادر الحضري كيف كان الجابري “شديد الحرص على إرساء مؤسّسة تحمل اسمه، وهو لا يزال حيّا يرزق، وفي أوج عطاءاته الفكرية. يتولّى تأسيسَها والإشرافَ عليها مثقفُون ملتزمُون واكبوا مسيرته النّضالية والفكرية، وتمكّنوا من استيعاب المرامي والأبعاد التي استمرّ يناضل من أجلها: فكرا وممارسة”.
دارت بين المفكّر الرّاحل وصديقه الحضري عدة مناقشات أوّلية حول فكرة المؤسسة وطبيعة الأشخاص المتوخّى اختيارهم للتأسيس والإشراف، وتحديد الدور المنوط بها، وهو “العمل لتفعيل مشروعه الفكري/ السياسي أو السياسي/ الفكري كما كان يحلو له أن يقول: المشروع الذي ألزم نفسه بإنجازه انطلاقا من سنة 1966 عندما شرع في كتابة مقالات خصّصها للجواب عن سؤال: أية اشتراكية نريد؟ وأنجز منها مقالتين وتوقّف، ليتبين له أن الموضوع يتطلّب استعدادا أكبر. فعاهد نفسه وقتها بأن يعطي الجوابَ في صيغة رؤية علمية شاملة قطريا وقوميا”، كما يستعيد الأستاذ الحضري من يوميات تفاعله المستمرّ مع الجابري.
لكن من سوء الحظّ أنّ تعثّرت المؤسسة الأولى لمحمد عابد الجابري بعد سنوات قليلة من تأسيسها بين حساسيات وحسابات ضيّقة بين دائرتي العائلة والأصدقاء يبدو أنّها تخنق تركة مفكّر يستحقّ الامتداد في الزمان والمكان. وقد تنكّر لهم بعض رفاقه القدامى في “الاتحاد الاشتراكي” وهو من نظّر لمشروع “الكتلة التاريخية” في سياق مغربي على أنّها “تجسيم وفاق وطني” يفوق تصنيفات “يسار- يمين”، وليس “مجرّد جبهة بين أحزاب” خاضت مفاوضات مطوّلة مع الملك الحسن الثاني منتصف التسعينات. كما أنه وأحمد الحليمي تعاونا في بلورة “التقرير الأيديولوجي” عام 1975. عُرف الجابري بهدوئه المعهود ونبرته الخافتة وبتمسكه أيضا بأن “المعارضة ضرورية للملك، وأنّ الملك ضروري للمعارضة”، وهي معارضة تتحدر في رأيه من “الحركة الوطنية التي تجرّ معها كتاريخ مشترك بينها وبين الملك ذلك الحلف الذي قام بينهما منذ 1943، والقاضي بالتّعاون من أجل تحرير المغرب وبناء استقلاله، فهي معارضة شريك”.
تنكّر متواتر بين الاتحاديين الجدد فيما لا يزال يسأل الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي عن الإصدارات التي لم تظهر بعد من كتابات الجابري. وثمة أكثر من تنكّر وخذلان عندما يستكثر عليه بعض طلابه السابقين تلك المكانة الفكرية التي نالها في الخارج أكثر من الداخل أو يلوحون بشطحات نقدية لبعض الذين استكثروا عليه شهرته الفكرية في العالم ووفرة أطروحات الدكتوراه التي انكبّت على دراسة جوانب من مشروعه الفكري. في المقابل، ثمّة مواقف إنسانية وتاريخية كانت للجابري خلال حياته إزاء بعض المعارضين والمثقفين ومع بعض حفظة العروة الوثقى في صداقته ممن لم يسردوها بعد، وأتمنى ألاّ تظلّ حبيسة في صمت صدورهم. كانت أمنية الجابري كبيرة في تشييد مؤسسة فكرية يتم انتقاء من يتولاها “على مستوى وعي الشخص ونظافة مسلكه وصلابة مواقفه، خاصة بالنسبة للذين كانوا لا يزالون في الخنادق النضالية متمسكين بمواصلة المساعي. وكان يفضل أن يكونوا على مستوى من الاستقلالية أوفياء للقضايا لا للأشخاص”، كما يروي الأستاذ الحضري في أحدث تأملاته بعد عشر سنوات من وفاة الرّاحل.
لم تتوقّف ألمعية الجابري عند حدّ الكتب الأحد والثلاثين التي نشرها، بل كانت لديه مخطوطات أخرى ونقاشات مكتوبة من بعض مفكري العصر. ولا شكّ أنّ عدم نشر هذه العطاءات الفكرية وحرمان قرّائه وجمهور الباحثين من الإطّلاع على الأعمال الكاملة لمن اعتبره النّقاد ابن رشد القرن العشرين بمثابة جريمة فكرية وحضارية وضرب من ضروب الجاهلية التي تؤرّق الرّاحل في قبره. لا أوجّه لومي إلى أيّ شخص بذاته أو جهة بعينها، بقدر ما آمل أن تستنهض الذكرى الهمم من أجل الإفراج عن مخطوطات قد يقتلها الإهمال وتصيبها هجمة الحشرات والفطريات، فنكون جميعا قد هضمنا ذكرى رجل لم تستهوه المناصب ولا غنائم السياسة أو الكسب المادي، بقدر ما تمسّك بتحقيق ذاته في التدريس وبلورة الفكر والمساهمة في النبوغ المغربي.
في قاعة الندوات في مكتبة الكونغرس في واشنطن عام 1996، دار بيني وبين الجابري حوار مطوّل بعد أيام من مشاركته في ندوة نظّمتها جامعة ييل الأمريكية لمناقشة أطروحة صموئيل هنتنغتون بعد أشهر قليلة من صدور كتابه المثير للجدل “صدام الحضارات وإعادة تركيب النظام العالمي”. كان الجابري المدعوّ الوحيد من العالم العربي بين خمسة وعشرين من مثقّفي العالم. وكان له ردّ يدحض فكرة الصدام الذي اعتبره مفتعلا لدى هنتنغتون عند نهاية حقبة الحرب الباردة لصالح المعسكر الغربي الذي حاول إعادة تركيب نظام دولي بديل وقلب موازين القوة في العلاقات الدولية بعدائية جديدة.
من صدف التاريخ أيضا أن أتقاسم مع الجابري الاهتمام الأكاديمي بتركة عبد الرحمن بن خلدون الذي أعدّ عنه أطروحته في الفلسفة في جامعة محمد الخامس حول موضوع “فكر ابن خلدون العصبية والدولة”. على الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي، اهتممتُ بدراسة لماذا تنشطر المجموعات البشرية إلى مجموعات فرعية طائفية أو عرقية أو لغوية تتمسك بهويات بديلة عن الهوية الوطنية، وتنزع نحو الاقتتال الأيديولوجي إنْ لم يصل حدّ الصّراع المسلّح. وبعد تحميص شتّى النظريات والمفاهيم في السوسيولوجيا الغربية عند تالكوت بارسنز، ويورغ زيمل، وآلن تورين، وماكس فيبر، وإيميل دوركهايم، وغيرهم، توصّلت أبحاثي إلى أن أفضل ما يقدّم نسقا ديناميا أو متحركّا بين البنية والفرد والمجموعة ويساعد على تفكيك أسباب توحّد أو تفتّت الذريات والقبائل والمماليك في الماضي وانقسامات المجتمعات المعاصرة وتنامي قوة الحركات الاجتماعية وسقوط الأنظمة السياسية في الحاضر كان ضمن الرصيد المعرفي لابن خلدون، فركّزت أطروحتي على دراسة العصبية باعتبارها قوّة التضامن المتحوّل قديما وحديثا في مرحل التغيير السياسي والاجتماعي.
أظلّ وفيّا لضرورة تعريف السوسيولوجيا السياسية وعلم فض الصراعات لدى الغرب، خاصة في الولايات المتحدة، على تركة ابن خلدون الذي لم تترجم مقدمته إلى الإنجليزية إلاّ عام 1957 بفضل أستاذ الأدب العربي واللغات القديمة في جامعة ييل فرانز روزنتال Franz Rosenthal في كتاب نشرته دار نشر جامعة برينستون. وصدرت ترجمة أخرى مختصرة عام 2014 بعنوان “المقدمة: مقدمة إلى التاريخ”. وحتى اليوم، يحتار الباحثون الغربيون في الترجمة الدقيقة لمفهوم العصبية بعد أن نحتوا لها أربعة وعشرين مرادفا محتملا منهاgroup feeling, esprit de corps, clan spirit, clannism, communitarism, fellow feeling, group spirit, group solidarity, agnatic solidarity, groupdom, we-ness, relation by sameness, social cohesion, social connectedness, social capital, or trust.
تظل كتابات الجابري عن ابن خلدون مهمّة في اعتبار العصبية والدولة وعلاقة الجدلية القائمة بينهما مفتاحا إلى فهم تحوّلات التاريخ الإسلامي، وتجسد نبوغ ابن خلدون في تحليل تشكّل العمران البشري وحركية التاريخ. وأجدني أنطلق من حيث انتهى الجابري، إذ لا أعتبر مفهوم العصبية تركيبة إسلامية أو عربية فحسب، بل يختزل أيضا آليات التحوّل الاجتماعي وخاصة وظيفة التضامن، أو التلاحم كما يسميه الجابري، في أكثر من مظاهرة، وأكثر من حراك، وأكثر من ثورة في الشرق وفي الغرب. وقد تفيد العصبية أيضا في دراسة سباق القوى العظمى، ولن يغيب ابن خلدون عن ذهني إذا انغمستُ في تحليل تفكك الاتحاد الأوروبي بعد البريكست، وأزمة كورونا أو التنافس الاستراتيجي بين الصين والولايات المتحدة بتنامي عصبية اجتماعية، وحتى تكنولوجية، صينية لتجاوز الحقبة الأمريكية في زعامة العالم، أو كما أشار فريد زكرياء إلى قرن ما بعد أمريكي Post-American century.
العقلانية في قبضة اللاشعور السياسي:
تشكّل الرّباعية الشهيرة للجابري “تكوين العقل العربي” (1982)، و”بنية العقل العربي” (1986)، و”العقل السياسي العربي” (1990)، و”العقل الأخلاقي العربي (2001)، أشهر مؤلفاته الأحد والثلاثين، ولم تحظ أغلبها بالتمحيص والفهم الدقيق بين الغربيين وحتى بين بني لغته في أغلب الحالات. وكما قال أحد النقاد إنها “المشروع الفكري الأكثر شمولية لتحليل العقل العربي ونقده”. تمت قراءة الجابري على نطاق واسع عربيا، وفرنكفونيا إلى حدّ معين، ولم تكتشفه الدراسات الأنجلوسكسونية إلا في أواخر حياته، إذ لم تظهر أوّل ترجمة إنجليزية لمؤلّفه “تكوين العقل العربي” إلاّ في نوفمبر 2009 أي بعد سبعة وعشرين عاما من صدور النسخة العربية.
بعد رحيل الجابري في الثالث من مايو/آيار 2010، نشرتُ مقالة قصيرة في “مواجهات” Confrontations بعنوان ‘Muslims’, ‘Islamists’, and ‘Islamics’: The Dilemma of ‘Sacred’ Interpretation وقد تكون التّرجمة الأقرب إلى الدّقة: “المسلمون، والإسلامَويون، والإسلاميون: معضلة التأويل المقدس”، قدّم لها زميلي في جامعة جورج ميسن الدكتور سولن سيمينز بالقول “من خلال الطرح الدقيق لمحمد الشرقاوي، نرى الجابري مفكّرا مترّيثا ومتطلّعا إلى المستقبل بعد أن أدرك الأخطار الكامنة التي تأتي مع تحديث الإسلام. لكنّه حاول شقّ الطريق نحو مستقبل متماسك. هناك بالتأكيد الكثير مما يستدعي مناقشته في تحليل الشرقاوي واستخدامه عبارات مثيرة مثل “السلفيين ذوي الميول الليبرالية” و”نقد علمي للعقل العربي من خلال نبذ الفهم التقليداني للتراث”، ممّا يجعل القارئ يتوق لمعرفة تفاصيل هذه الشّخصية المثيرة للاهتمام التي يقدّمها لنا اليوم.”
أوردتُ في مقالتي أنّ رحيل الجابري كان بمثابة وداع للعقل وفلسفة الأديان بعد أن كان قوّة دفع نحو تبنّي تفكير مجدِّد معاصر. وخلال مشروعه الفكري التي امتدّ أربعين عاما منذ كتاباته الأولى عام 1970، ظلّ الجابري ناقدا يقظا أمام هيمنة التراث، ومناضلا من أجل إحلال العقلانية الممتدّة في مسار تاريخي يتدفّق بنَفَسِ الأرسطية قديما، والرّشدية في القرن الثاني عشر، مرورا بالكانطية في القرن الثامن عشر، والنّظرية النقدية التي ازدهرت بفعل انتشار مدرسة فرانكفورت منذ قرابة قرن.
عند بدء مشروع التّرجمة الإنجليزية لمؤلفيْه “تكوين العقل العربي” و”بنية العقل العربي” عام 2009 ونشرهما في الولايات المتحدة، أوضح الجابري أنّ دلالة “العقل” لديه تنبني على مفهوم reason (أو die Vernuft بالألمانية) الذي بدأ يستخدمه كانط عام 1781، وأنّه المصطلح العربي المقصود للعقل. كما اعتمد الجابري أيضًا تمييز الفيلسوف الفرنسي أندريه لالاند André Lalande (1867-1964) بين وجود العقل المُكَوِّن أو “السبب التأسيسي” ووجود العقل المُكَوَّن السائد في تطوير مفهوم “العقل المستقيل”.
كان الجابري يردّد مقولته الشهيرة إنّ “العقل العربي بحاجة إلى إعادة الابتكار”. واستوعب مخاطر الماضوية والتقوقع داخل الحقب المتألقة في المخيال العربي. والمقصود بالمخيال هنا مرجعية الصّور والتمثلات والرموز والروايات التي تحفظها وتخزنها الذاكرة الجماعية، مما يرسي قاعدة توافق تشجع على عملية تأويل تسعى لإسقاط تمثلات الماضي “المُزهر” في اعتقاد كثيرين على الحاضر المكفهرّ. وهنا يتقارب المخيال مع الواقع، أو كما يقول عالم النفس الاجتماعي جاك لاكان Jacques Lacan، “يبدأ المرء مع المخيال، ثم يضطرّ لمضغ قصّة رمزية … وينتهي بوضع ذلك الواقعي الشّهير أمامك”.
كتب الجابري في “بنية العقل العربي” عن تمييز البيانيين بين “العقل الموهوب” و”العقل المكسوب”، حسب عبارة ابن وهب. وأوضح أن “العقل عندهم ليس جوهرا، ولا جزءا من النفس ولا قوّة من قواها، بل هو عبارة عن غريزة تغتذي بما يكتسبه الإنسان من تجارب وخبرات وما تنقله إليه الأخبار من معارف ومعلومات وما يدرس من آداب وما يقوم به من نظر وتدبر واعتبار. وإذا نحن نظرنا إلى هذا النوع من التصوّر للعقل من منظور معاصر، وجدنا أنفسنا أمام تصور يقترب إلى التصوّر العلمي أكثر من أيّ تصوّر قديم آخر. ومع ذلك، فإن المظهر “اللاميتافيزيقي” الذي نجده في التصوّر البياني للعقل يجب ألا يخفي عن حقيقة أساسية وهي أنّ هذا التصوّر قائم على التّقليل من أهمّية العقل كقوّة وسلطة”.
في المقابل، كان الجابري واعيا بمدى تخندق العرب ذهنيا ونفسيا في المخيال المركّب والمفروض على واقعية الماضي تحت طائل ما يصطلح عليه بــ”اللاشعور السياسي”. فهو يقول إنّ “العرب يعيشون ماضيهم قبل حاضرهم، ويعيشون في ذاكرة الماضي أكثر من غرسهم لتطلّعات بناء مستقبلهم وتقدّم أجيالهم، لقد تصارعت الأفكار العربية في مرحلة تاريخية صعبة، تبلورت في خضمها تناقضات خلفتها أحداث تاريخية مهمة ومصيرية، ساهم في صنعها التاريخ العربي الإسلامي، والعامل الأوروبي (الاستعمار والتحديث)، واللذين شكلا الدور الحقيقي في خلق التأثيرات الفكرية والسياسية المحتدمة لدى العرب منذ مطلع القرن العشرين”.
وعلى غرار الكرم العربي، أغدق هذا المخيال العربي في تبجيل شخصيات وبطولات وأحداث وأصناف معاناة وقصص مجد منتقاة. وزاد في التقديس القومي والهُوِيَاتِي، والدّيني أحيانا، للصّرح الذي “يسكنه عدد كبير من رموز الماضي مثل امرئ القيس، وحاتم الطائي، وعمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وهارون الرشيد، وألف ليلة وليلة، وصلاح الدين، والأولياء الصالحين، وأبي زيد الهلالي، وجمال عبد الناصر، إضافة إلى رموز الحاضر مثل المارد العربي والغد المنشود”، كما يقول أحد النقاد.
مع غلبة هذا المنحى التقديسي وتدّني جرأة النقد، عاد عموم المغاربة مثلا إلى شعبوية تراثية احتاط منها الجابري، وإلى الإيمان في القوة الغيبية، وطلب “البَرَكَة” عند زيارة الأضرحة، وتواتر تقديم الهبات الملكية إلى الزوايا سنويا قبل انطلاق مواسم الذكر والخشوع، وأيضا حلقات “الحضرة” و”الجذبة” و”التعركيبة” وغيرها من طقوس ما فوق الطبيعة. ويجد هذا المدّ غير العقلاني قوّة الدفع أيضا بفضل سياسة “الأمن الروحي” التي هندسها وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق الذي يعتدّ حاليا بالارتفاع في تلك المزارات إلى 5038 ضريح و1496 زاوية.
يقول السيد التوفيق الذي يقضي حاجته من “الأمن الروحي” من الجذبة وفق طقوس الزاوية البودشيشية، إنّ أعداد الأضرحة والزوايا “دليل على تأطير روحي جيد للمغاربة وتمسّكهم بالقيم الإسلامية والأولياء الصالحين.” غير أنّ الباحثة الأمريكية آن ماري وينسكوت Anne Marie Wainscott تلاحظ في كتابها الجديد “التطويع البيروقراطي للإسلام: المغرب والحرب على الإرهاب” Bureaucratizing Islam: Morocco and the War on Terror كيف ازداد التحوّل في علاقات القوة ضمن الدولة المركزية، وكيف أن التطويع البيروقراطي للدين يمثل تبيئة النخب الدينية للسلطة السياسية بأسلوب أكثر رسمية وأكثر مأسسة من أي وقت سابق.”
بين المغرب وبقية المجتمعات العربية والإسلامية، تعثّرٌ مماثلٌ في السير على طريق العقلانية. فتتأجج الصراعات بشتّى أحجامها وحدّة تصعيدها من صراعات بين الدول وصراعات وحروب أهلية داخل الدول تمتدّ من المغرب إلى إندونيسيا، في دائرة صراع ضخم meta conflict مفتوح منذ نهايات القرن العشرين بين أقليات إسلاموية وأغلبيات مسلمة حول أفضل مسار للحكم والفصل بين خياريْ النقل والعقل. من منظور مواز، تتذبذب المجتمعات الغربية في تحديد الفوارق بين الملايين من المسلمين الأوروبيين والأمريكيين المسلمين عبر تسميات متعددة منها “معتدلون”، أو “متشدّدون”، أو “متطرّفون”، أو “إرهابيون”.
تكمن المفارقة في أنّ النهج السلفي ذاته، الذي ساد خطاب حركة النهضة العربية في بداية القرن العشرين، عاد بعد قرن من الزمان كقوة استبعاد وتشدّد واستقطاب، فضلا عن التفسيرات المتباعدة في فحواها للنصوص الدينية. ويخلص الجابري إلى أنّ هذا التّطرف يُبرّر ذاته من خلال التفاوتات الاقتصادية وتعثّر الديمقراطية وأمور أخرى. ويجادل أيضا بأنّ العقل العربي فشل في تحقيق “ثورته العلمية” لأنه استوعب أنظمة التّفسير الديني.
تتّسع الفجوة بين الإسلامويين، من خلال الاعتداد بأنفسهم أنهم أولياء التقليد في محاولة لتركيب خط مستقيم بين الحاضر وعهد النبي محمد (ص)، والإسلاميين كمستوردين للنموذج الغربي للتحديث مع اختلافات مختلفة إزاء البقية من مجموع المسلمين. لقد قرّروا المشاركة في التنافس عبر صناديق الاقتراع في العقدين الأخيرين على أساس مبدأ “النقاء” السياسي، وحاولت النخب الإسلاموية خلق شعور بالجماعة والتكتل الجديد حول فكرة الأمة “الحصرية”، مع تطوير سرديات موازية حول “الأخلاق” و”العدل” والعلاقة “العضوية” بين المسجد والدولة في مقابل الآخرين الموصوفين بأنهم مسلمون “أقل تفانيا”. وتحول النضال من ترويج ثقافة إسلاموية قومية مناهضة للاستعمار من قبل الإخوان المسلمين في مصر منذ عام 1928 والتجمعات الموالية لهم في جميع أنحاء الشرق الأوسط وجنوب آسيا، إلى تنافس على الهوية السياسية للمسلمين.
تبعا لهذا التحوّل، تبدو فكرة فرويد حول نرجسية الاختلافات الطّفيفة نشطة على قدم وساق باعتبارها بحثا عن تحديد الهوية الذّاتية لدى سائر المسلمين من جميع التيّارات. والآن في بداية القرن الحادي والعشرين، يصلّي معظم المسلمين إما في مساجد سنية أو شيعية، ويرسلون أطفالهم إلى مدارس مختلفة، ويدفنون موتاهم في مقابر حصرية، بل ويصومون ويحتفلون بأعيادهم الدينية وفق أجندات زمنية تحكمه السياسية أكثر من ضوابط الوقت ورؤية الهلال وبقية المؤشرات الفلكية. يتجلى غياب العقل أيضا عند تأمل اتجاهات الانشطار والانقسام في سياسات الهوية المجزأة الحصرية والماضوية والتي تنطوي في أحسن الأحوال على تمييز نفسي ضد أولئك الذين تم تصنيفهم بشكل مختلف.
ونتيجة لذلك، حاولت عدة دول ذات التوجه السّني احتواء ما تعتبره “خطرا” شيعيا سعى إلى استقطاب فئات معينة في المناطق السنية النائية مثل المغرب واليمن وباكستان. وينطوي هذا الصراع الضخم بين الاتجاهين الإسلاموي والإسلامي أيضا على ديناميات الهويات البنيوية “الوطنية” الفاشلة في 57 دولة إسلامية، ويفتح المجال لعامل جماعي بتعاظم “نحن” الجمعية التي يمكنها أن تفعل شيئا ما باسم إسلام حقيقي وأحادي. ولكن، هل تختزل هذه الثنائية المبسطة لـ “الإسلامويين” مقابل “الإسلاميين” ديناميات الصراع؟
جادل الجابري بأن جمود الاختلاف بين الجانبين قد صاغ موقفاً ثالثاً من دعاة الحلول الوسط أو التوفيقيين. فظهر موقف انتقائي للموافقة بينهما، “ولكن حتى الانتقائيون اختلفوا فيما بينهم فمنهم السلفي ذو الميول الليبرالي، والليبرالي ذو الميول السلفية، ومنهم الماركسي الأممي، والماركسي العربي، والقومي الليبرالي، والاشتراكي القومي، والسلفي العروبي، والعروبي العلماني ذو الميول السلفية، والعلماني العروبي ذو الميول الليبرالية، أو الماركسية إلى غير ذلك من التركيبات “المزجية” المعقدة.” باختصار، يشمل هذا الصّراع الضخم فشل التنوير في العالم الإسلامي، فضلاً عن تعثر مساعي التحديث للمؤسسات الإسلامية. ويبقى السؤال كيف يمكن التوفيق بين هذا الصراع؟
احتمالات التوصل إلى أرضية مشتركة لا تزال مجدية. فقد رسم الجابري خارطة طريق لكيفية تجاوز الاستقطاب الحالي للعقل العربي بين الحداثة المستوردة التي تتجاهل التقاليد العربية والأصولية التي تعيد بناء الحاضر في صورة ماض مثالي. فلم يشهر سيف القطيعة مع التراث أو إقصائه من المعادلة العقلانية، بقدر ما كان واعيا بالحاجة لمنهجية “الوصل معه من أجل الفصل”. ولم يعتبر “الانتظام في التراث” تراجعا أو فشلا في جدلية القديم والحديث، ولا “استسلاما لنظامه”. بل اعتد بضرورة “الوصل قبل الفصل” على طريق تجاوز الكليات أو المطلقات التراثية. وكما كتب في “مواقف” عام 2004 “نحن قوم لم يتجاوزوا آباءهم بعد على الصعيد الثقافي”.
أوضح الجابري كيف أن العقل العربي يفتقر إلى منظور تاريخي وموضوعي كافٍ، ولا يمكن تجديده إلاّ من خلال “استجواب جدّي للقديم ومن خلال نقد عالمي ومتعمق”. وبدلاً من استيعاب التقليد أو محاولة استيعاب التحديث الغربي، يقترح الجابري نقدا علميا للعقل العربي من خلال نبذ الفهم التقليداني للتقاليد. ومن خلال دراسة مناهضته لأطروحة ضد معضلة سوء تفسير النصوص الدينية، يمكن للمرء أن يتنبأ بآفاق “الثورة العلمية” التي طال انتظارها في العقل العربي.
نحت الجابري لنفسه ولبيئته العربية مفهوما يقوم على أنّ “النظام المعرفي هو جملة من المفاهيم والمبادئ والإجراءات تعطي للمعرفة في فترة تاريخية ما بنيتها اللاشعورية.” وهذا مثال على استقلالية الجابري وانفتاحه على فكرة التفاعل مع المدارس الفكرية الغربية وتبيئة بعض المفاهيم المنتقاة بدقّة وتريّث من خارج التاريخ المعرفي العربي. فقد درس روافد الثقافة العربية الإسلامية ضمن ثلاث قطاعات معرفية، هي البيان والعرفان والبرهان. وكما يقول أحد طلابه عبد الإله بلقزيز، “كل قطاع يتميز بالفعل المعرفي الذي يؤسسه، فالبيان يفيد الظهور والإظهار، ومهمته وضع قوانين لتفسير القرآن بالاعتماد على اللغة والنحو والبلاغة والكلام، والعرفان يفيد الكشف والعيان، وهدفه استغلال الإسلام وتوظيف اللغة للترويج لعقائد قبل إسلامية معتمدا على الاعتقادات الغنوصية، والبرهان يفيد الاستدلال المنطقي، ويهدف إلى تبيئة الفلسفة اليونانية، معتمدا على مجموع المعارف المنقولة والمترجمة من مصدرها اليوناني”.
غير أنّ دعوة الجابري للعقلانية كحافز للتّغيير تثير نقاشا واسعا بين المؤيّدين والمعارضين وتخشى منها الدوائر الرسمية. فقد رحل عنّا قبل سبعة أشهر من اندلاع المظاهرات في تونس ضمن “ثورة الياسمين”، ثم تدفق الموجة باتجاه مصر وليبيا واليمن وسوريا، فيما اهتزّت لمظاهراتها أركان أنظمة عربية أخرى. أهمّ ما استرعى انتباهي وقتها هو خطاب الحرية والكرامة ومركزيتهما في شعارات المتظاهرين في سائر تلك الدول.
مطلب الحرية في حد ذاته تجسيد لتحكيم العقل في فهم مرحلة سياسية وبنيات اقتصادية غير منصفة ولا تتوافق مع قيم المرحلة في بداية قرن جديد. خروج المتظاهرين الشباب إلى الشوارع، وأغلبهم من خريجي الجامعات، لحظة عقلانية عربية بامتياز، وأنّ “من المفارقات المثيرة أن تتفوّق أصوات الشباب المحتجين على الأحزاب القديمة ومجموعات المعارضة التقليدية، إسلاموية أم اشتراكية أو غيرها، في المطالبة بالمساءلة السياسية والمسؤولية الأخلاقية لأي حكومة تأتي في المستقبل. لقد ابتعدوا عن الأطر الإيديولوجية لدى كل من الدولة ومجموعات المعارضة التقليدية، وأظهروا إمكانات تنويرهم الذاتي مما أكّد وجود جيل جديد ذي نضج سياسي وعملي أو براغماتي”، كما أوردت في مقدمة كتابي الصادر باللغة الإنجليزية “ما هو التنوير: قطيعة أم استمرارية في أعقاب الانتفاضات العربية عام 2011”.
لم يسعف العمرُ الجابري ليرى بنفسه جيلا ينفض عنه جثمة اللاّعقلانية ويسحب عنه رداء التّقليد، وهو القائل “الحداثة هي قبل كل شيء العقلانية والديمقراطية.” فبين 2011 و2012، انتشرت موجة الانتفاضات الشعبية ورواج النموذج العربي عالميا في المطالبة بالتغيير، ونسج عليه المتظاهرون في 982 مدينة في العالم من لوس أنجليس إلى نيويورك إلى مدريد إلى هونغ كونغ.
غير أنّ هناك من يعتقد أنّ “كل المشاريع العقلية الكبرى التي عُرف بها المغرب والعالم العربي باءت بالفشل: ابتداء من العقلانية الإيمانية لمحمد عزيز الحبابي، إلى العقلانية التراثية لمحمد الجابري، والعقلانية الكونية لعبد الله العروي، فإلى العقلانية المركبة من العقلانية الإسلامية والعقلانية الحداثية والعقلانية ما بعد الحداثية لمحمد أركون إلخ،” كما يقول محمد المصباحي في محاضرة ألقاها في الدّار البيضاء حول موضوع “مطلب العقلانية في الفكر المغربي” في أواخر مارس 2013.
ثمّة أكثر من نقطة لا أتوافق في الرأي بشأنها مع الأستاذ المصباحي كقوله إن مطلب العقلانية في المغرب “ارتبط بمطلب إصلاح العقل توطئة لإصلاح السياسة. إذ لم يكن يهمّ الفلاسفة والمفكرين المغاربة البحث عن “ماهية” العقل، عن “العقل في ذاته”، وإنّما عن “أيّ” العقول أصلح للقيام بالتغيير المنشود في الدولة. بعبارة أخرى، ما كان يعنيهم هو كيف يمكن القيام بالإصلاح الأصغر، إصلاح العقل، حتى يغدو مؤهّلا للقيام بالإصلاح الأكبر، إصلاح الدولة، المدخل الرسمي للانخراط في فضاءات الحداثة.” أقول باختصار لن يمكن إصلاح العقل ولا ترميمه، فإمّا أن يكون هناك عقل جماعي أو لا يكون. والعقل ليس غاية في حدّ ذاته بل هو أداة للتفكير في المشاكل والتحديات ونسق تصحيحي في تدبير شؤون الحياة العامة وتقويم لشتى المسلّمات والمعتقدات والأعراف من أجل توجيه التحول الاجتماعي. وإذا كان من الممكن أن “تكون الكائنات العقلانية غاية في حدّ ذاتها، فهذا ليس لأنّ لديهم عقلا بل لأنّ لديهم حرية. العقل هو مجرّد وسيلة”، كما كتب كانط عام 1784.
مما يستدعي فهم العقل على أنّه حركية للتغيير وقوم للتقريض والتقويم حاجةُ المجتمعات العربية لما يولّد رؤى جديدة ومنطلقات مغايرة في هذه الحقبة المتقلّبة بعد أن طال تحكمّ القبيلة والغنيمة والعقيدة كمحدّدات للعقل السياسي التقليدي العربي. هي حركية تتوالد ذهنيا وتنعكس في الواقع من خلال المسعى لتجاوز بقايا القبيلة وبناء مؤسسات المجتمع المدني كبعد أوّل، وضرورة دخول باب الحداثة الاقتصادية من أجل اقتصاد عربي عصري كبعد ثان، وتحويل العقيدة إلى مجرد رأي يقبل مبدأ الاختلاف كبعد ثالث.
سؤال الحداثة:
قد يكون سؤال “كيف نتعامل مع التراث” سؤالا متعدّد الأبعاد، لكنه يثير سؤالا آخر موازيا: “كيف نتعامل مع عصرنا؟”. هما وجهان لعملة صعبة في تعامل العرب مع المرحلة المعاصرة من التطور البشري العالمي. يقول الجابري إنّ لكلا السؤاليْن بعدا فكريا وآخر عمليا. فهو من جهة يطرح مسألة الانخراط الواعي النقدي في الفكر العالمي المعاصر، وهو من جهة أخرى يطرح الشروط العملية التي يقتضيها الانخراط في الحضارة المعاصرة من إقامة مؤسّسات ديمقراطية واعتماد تنمية مستقلة وغرس للعلم والتكنولوجيا.” وكما يذكر الجابري في مقدمة “التراث والحداثة” إنّ سؤال “الحداثة” سؤال متعدّد الأبعاد، سؤال موجّه إلى التراث بجميع مجالاته، وسؤال موجّه إلى الحداثة نفسها بكلّ معطياتها وطموحاتها.. إنّه سؤال جيل بل أجيال.. سؤال متجدّد بتجدّد الحياة”.
في المقابل، تنطوي إشكالية “الأصالة والمعاصرة”، كما يسمّيها الجابري، في الفكر العربي الحديث والمعاصر على عبثية ما حاوله مفكّرو النهضة للتوفيق بين الماضي والمستقبل: “الماضي العربي الإسلامي الذي يقرؤون صورته النموذجية في التراث، والمستقبل العربي الذي يقرؤون صورته النموذجية علوم الغرب وتقنياته ومؤسّساته” كما يقول في كتابه. ولا تزال متاهتنا مع مسلسل ما سميّ “الربيع العربي” منذ قرابة عشر سنوات، وحتى تأمّلاتنا حاليا في كنف الكهف الكوروني المفتوح زمنيا والرمادي في تعاظم الشعور الفردي والجماعي بالقنط والانحباس النفسي، تجسّد انفصام الهويات وتباين التمثلات الذهنية للواقع العربي عام 2020.
لا يزال الوعي العربي بدوره انفصامي الشخصية بين “الوعي المؤسّس على “الاغتراب” الرّافض للتراث، نتيجة الاستلاب الحضاري الذي رسّخه الغرب المتقدّم -والمستعمر- في مجتمعنا، والوعي المؤسّس على “الاغتراب” الذي يقرأ في التراث العربي والإسلامي كل إيجابيات الحضارة الغربية الحديثة من علوم وتقنيات ومؤسسات سياسية واجتماعية.” ويدعو الجابري أيضا للاحتراس من التسرّع أو الهرولة نحو محاولة الحسم بين الخيارين. ويحذر من أنّ “الذين يلغون التراث، هكذا بجرة قلم أو بشطحة فكرية، واهمون لأن التراث لم يكن أن يتم إلا بتحقيقه، والذين يطالبون بتحقيق التراث، هكذا بجرّة قلم أو بوعظة حسنة واهمون أيضا، لا، تحقيق التراث لا يتم إلا بإلغائه”.
بانتظار القطيعة المعرفية:
في زمن الحجر الصحي، أصبحنا بمثابة أهل كهف ينقصهم كلبهم في قبضة الجائحة الكورونية الممتدة في المكان والزمان، يتعثر الطب وعلم الأوبئة في تحديد أصل الفيروس وطرق انتقال العدوى، ناهيك عن تحديد لقاح فعّال مناسب. وقد تشكل اللحظة المرتقبة لخروجنا من الكهف الكوروني متاهة معرفية وبنيوية وحضارية لم يشهدها التاريخ البشري من قبل. لم يقدم الطب وعلم الأوبئة أجوبة شافية عن طبيعة تركيب الفيروس، ولا السّبل الكفيلة بمنع العدوى وهل تتمّ بفعل الاقتراب بين الأجساد أم بفعل أمور غريبة تنتقل في الهواء، ناهيك عن الحديث عن تصميم لقاح أو علاج فعال في المستقبل المنظور. تساوت الدول الفقيرة والدول العظمى في معاناة تبعات الجائحة، وكيف ستعود البشرية إلى تنظيم علاقاتها الاجتماعية وتفاعلها الحميمي والحركة في المجال العام، في الشارع والحافلة، في المكتب وقاعة التدريس في المدارس والجامعات، وكيف ستَبني المجتمعات استراتيجيتها في مجال الصحة العامة وسياسات التنمية وتوفير مخزونات الكمامات وأسرّة العناية المركزة في المستشفيات، وسبل الإقلاع الاقتصادي من جديد.
حقبة كورونا تكشف سلبيات إضافية في عدم القدرة على الاستشراف بالتحديات المختلفة ومنها جمود الحركة في العالم تقريبا بسبب الجائحة. لكن من محاسنها أنّ تؤكد أن العرب والمسلمين جزء من هذه البشرية. حقبة كورونا وتعثرات ما بعد انتفاضات 2011، وتعثر مشروع النهضة العربية قبل أكثر من قرن وغيرها من اللحظات المفصلية في التاريخ تحثنا مجدّدا على عدم الاعتداد بالاستثناء العربي أو الإسلامي. وقد أكد الجابري أن “التاريخ الإسلامي لا يشكل حالة شاذة في التاريخ البشري، بل هو جزء منه. “ويضرب مثالا على ضرورة فهمه على أساس أنه ترابط التاريخ العربي/ الإسلامي مع التاريخ العالمي كالفلسفة الصحيحة التي “تستقى من التاريخ نفسه، لا من خارجه. مثلما أن الفيزياء الصحيحة تستقى من الطبيعة نفسها لا من خارجها”.
هي مرحلة جديدة تستدعي مسح الطاولة وتركيب السياسات العامة وهندسة واقع ما بعد كورونا جملة وتفصيلا، أو البدء على صفحة بيضاء أو الحاجة لنظرية tabula rasa وإعادة النظر في السجال المفتوح بين فرضية الطبيعة ونظرية التأقلم nature versus nurture. هكذا تظهر الحاجة مجددا لمفهوم القطيعة المعرفية أو الإبستمولوجية التي نادى بها الجابري ليس في تفكيك الماضي فحسب، بل وأيضا في تركيب المستقبل بثوابت علمية جديدة. لا نحتاج لأن تكون قطيعة إبستمولوجية عربية فحسب، بل عالمية أيضا بعد أن أخفق العلم الغربي في كشف خبايا الوباء، وفشلت الولايات المتحدة وبقية المنظومات الصناعية الرئيسية في توفير كمامات وأسرّة ولقاحات وإيقاف مدّ الوفيات المتواترة في ولايات نيويورك ونيوجيرزي وغيرهما.
يعتد الجابري بأهمية الإبستيمولوجيا ليس كمدخل لتركيب معرفة جديدة فحسب، بل وأيضا كبعد استراتيجي وحضاري في وجود الذات العربية والإسلامية إزاء ذوات أخرى تفوقّت في مجالات مختلفة من تطور العلوم والتكنلوجيا وإعادة تفكيك الماضي برؤى نقدية تخرج من قبضة السلطوية والماضوية. فهو يقول إنّ الاستفادة المرتقبة من الإبستيمولوجيا المعاصرة في التعامل مع تراثنا تعاملا نقديا كبيرة جدا “لأننا نكتسب من خلالها روحا نقدية أولا، وثانيا نكتسب خبرة من خلال الممارسة النقدية للعلم ولتاريخ العلم، نتسلح بمفاهيم، بأدوات عمل، نستطيع توظيفها في تراثنا توظيفا واعيا. طبعا مع احترام المجال الذي نوظفها فيه، وعدم تحميل المفاهيم ما لا تحتمله، الشيء الذي تمنعنا منه الإبستيمولوجيا نفسها، من حيث نقد المفاهيم، ولهذا النوع من التوظيف للمفاهيم”.
نستحضر الجابري، ومن خلفه ݣاستون باشلار اللاهث خلف علم حقيقي ولويس ألتوسير المتحمس لها في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وميشيل فوكو المتمرد على البنيوية وتجليات القوة في منحاها الثقافي والاجتماعي، وليس السياسي فحسب. فالجابري وغيره من هؤلاء الداعين للمراجعة النقدية الصارمة هم رجال المرحلة، وطبيعة التحديات الماثلة عند بوابة كهف كورونا تكشف كنه تحمّسهم للقطيعة المعرفية، وتظل دعوتهم متجددة لتلك القطيعة مادام أن عصر ما بعد كورونا لن يكون كما كان وضع العالم قبل تفشي الجائحة.
تأملات الكهف الكوروني تنطوي على لحظة مفصلية عالمية بهوية مشتركة: جابرية، وباشلارية، وألتوسيرية، وفوكويية متكاملة في التفكيك وإعادة التركيب لسائر المنظومات في عالم مجهول حاليا ستلده كورونا على أنقاض منظومة متهالكة أنهكتها العدوى ونسفها الوباء. بين الجابري وفوكو تعاون في توظيف مفهوم النظام المعرفي في تحليل الثقافة الغربية، وهذا مسلك يظل حبيس ما خلّفه الجابري من مخطوطات ومراسلات، أتمنى أن تشهد النور قريبا.
وأنا أقف عند بوابة الكهف الكوروني وأستشرف خبايا المرحلة المقبلة، أستعيد إلى الذاكرة فحوى خلاصة مهمة في المشروع النقدي لدى الجابري عندما قال: “نعم لا بدّ من سلاح النقد، ولكن لا بدّ، في نفس الوقت، من نقد السلاح. سلاح النقد تمدّنا به الفلسفة، أما نقد السلاح فيمدّنا به التاريخ. لا بدّ من الفلسفة والتاريخ معا لفهم الإشكالية المطروحة وتجاوزها”.