اكتنزت رواية (سرير الألم) للكاتبة العربية المغربية زهرة عز(1)، بمضامين فكرية واجتماعية عديدة، يُعاضد موقف الإنسان وحقه في حياة كريمة ووجود عزيز وفاعل في البناء الحضاري والانساني، في مقارعة الثالوث الكارثي (الفقر، الفساد السياسي، الفكر الظلامي التكفيري الإرهابي).
وسرير الألم ، رواية العوالم المتداخلة والمتناسلة، المرتبطة بشبكة عنكبوتية من السرد في مستوياته المتعددة والروي بطبقات ومستويات سردية متنوعة، لا تخلو من الإمتاع..
نتوهم كثيرا إذا قلنا أنها تتناول شريحة واحدة المرأة مثلاً، إنه وهم كبير، فالرواية تتجاوز كثيرا هذا الاعتقاد في الدفاع عن المرأة، المرأة مكون من مكونات المنظومة الاجتماعية التي تناولتها الرواية من خلال عملية تشريح قاسية وتحليل مختبري مضنٍ لإعماق الترسبات الاجتماعية، عبر منظومة الإدارة الهشة، وقد أدت هشاشتها إلى بؤس اجتماعي مؤسف وتطرف ديني مدمر..
الكاتبة لا تتوانى عن انتقاد الحدث السلبي المجتمعي والذي أدى إلى خلل كارثي عظيم في البنية التربوية، ترى أن واجبها تأشير ذلك.
لقد كانت الرواية الكلاسيكية انتقادية بما تحتويه من نقد للآفات الاجتماعية (2)، والمضاف في الروايات التي تلج هذا المسار هو أنها تشرح وتحلل وتؤشر تلك الإشارات التي تحول المفهوم من الانتقادي المجرد إلى النقد البناء، ليس للهيكل العام بل لأفعال الشخوص، وفضلاً عن اعتماد التحليل الاجتماعي، فإنها استمدت أحداثها من واقع معاش وتاريخ عالق في الوجدان الجمعي.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال وضع هذه الرواية في خانة ما سُميَّ بالرواية النسوية على الرغم من أن بطلتها امرأة وكاتبتها كذلك، ولكن لا يمكن عدها نسوية كون أحداثها يتقاسمها الرجال والمجتمع بشكل عام، فما كانت غاية الرواية إبراز بطولة المرأة وكفاحها، بل تجاوز ذلك إلى صناعة الملحمة الاجتماعية، بشكل لا يتقاطع مع الرؤية للرواية الحديثة، وأقصد أنه لا يمس الخصوصية والذات اللتين صنعتهما..
يكون الواقع المعاش مناخا وبيئة مرتكزا أساسيا في بناء القصة القصيرة، فمهمة هذا النهج تغدو مهمة تشخيصية، تشريحية لجثامين شهداء الحياة، الفقراء، وإن كان الفقر لا زمان ولا مكان له كما هو الحال مع التطرف والإرهاب..
وحيثما يوجد الفقر يوجد الإهمال ويستشري انتهاك الإنسانية، وهو علامة -أي الفقر- لانعدام العدالة، فكل من الدين والقانون الوضعي لا يبيحان فقدان العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة، الرزق دينيا..
كل ذلك لا تصرح به تصريحا تقريريا احتجاجيا وإنما تهبط إلى أرض الواقع، تصوره وتصفه من خلال نماذجه ورموزه والذاكرة..
العنف والكراهية وماكنة التسذيج:
ويتميز موقف المثقف العربي من خلال أنموذجه المغربي بصدد الرؤية الظلامية التي اكتسحت العالم العربي والإسلامي في نهايات القرن الماضي وفي عقديه الأخيرين بالذات.
وتقر الكاتبة: زهرة عز في المعضلة والكابوس الجاثم على صدر حلم الإنسان في الانطلاق نحو حياة يتواشج فعله مع إنسانيته وذاته. فهي تصرح انسجاما مع ذلك، وكأنها تصرخ صرختها المدوية المحتجة والمستنكرة في أن: (زمننا زمن الفوضى والجهل بامتياز، أصبح القبح فيه يطغى على مساحات السلام والمحبة، وضاع المشترك بيننا. رفع المتطرفون شعار الكراهية في وجه كل من يخالفونهم الرأي والفكر، وكل من يبحث عن جوهر الإنسان والكرامة والحرية) الرواية : ص 174.
تندرج تلك الكلمات تحت رؤية الكاتبة للعنف والتكفير وناتجهما المرير الإرهاب المبرمج، تنتجه ماكنة ضخمة للتسذيج ومصادرة عقليات البسطاء، إما لبساطتهم وجهلهم وحرمانهم من التعليم، أو للفقر والبؤس الذي شمل واقعهم، وفي كلتا الحالتين تتسيد الرؤية الظلامية الكارثية المستندة إلى فكر إسلامي متطرف، أو في الحقيقة أتباعه المتأخرون جعلوه أكثر تطرفا وبعداً عن الحياة، بل مسخ الحياة وجعلها كابوسا مفرط الرعب أملاً في دنيا أخرى فيها ما لذ وطاب، وكأن هذا المنظور الإلغائي للعيش الآمن هو المبدأ المتاخم للحياة..
ولقد إنتاج هذا الفكر الظلامي قوة كابحة لأصوات الفكر النير المحب للحياة وغير المفرط في العقائد السامية، من أجل إخماد جذوة الحياة الصانعة للحب والتعايش:
(كان هناك دخان كبير يحجب الرؤيا، وأصوات خشنة ترتفع، وتصرخ هنا وهناك:
أنت زنديق، أنت كافر، أنت علماني، أنت ملحد، أنت فاسق، أنت سفيه، وتوالت الاتهامات، تنفخ في طبل أجوف. وجوه الزبانية قاتمة، من لون راياتهم، وعقولهم وقلوبهم، عبوسها أخاف الورد حتى هرب العطر منه، واختفت زقزقة العصافير في السماء.) الرواية ص 171.
الكاتبة زهرة عز، هنا تحشد المصطلحات التي يستعملها التكفيريون ضد الناس والمجتمع الذي يقاومهم، ونستشف تلك المقاومة المعلن عنها من خلال ما يكيله هولاء للمتنورين.
هذا العداء للمجتمع الآمن ورموزه المتحررة المثقفة التي تنشد الحياة الحرة الكريمة والمنتظمة بسلوك الاعتياد مواكبة مع البشر في كل أرجاء المعمورة، لم يأت من فراغ وإنما خلفه حسابات سياسية كالحة في مساراتها تزيد من جانبها استنزاف المجتمع بإفقاره وحرمانه وزيادة الهوة بينه وبين الحياة؛ فيما يتعملق الظلاميون في تفسير الحياة الدنيا كونها امتحانا وجحيما بديله الآخرة التي فيها كل شيء..
الرواية (سرير الألم) تفضح المعادلة الكارثية: سياسي يفسد ويدمر كل شيء من أجل مصالح تضر بالوطن مما يزيد من الحرمان والفساد الخلقي الانحرافي، وانتشار كل ما يعيق طهارة وعفة الإنسان سواء المرأة أو الرجل.. هذا الإفساد يمنح الفرصة للظلاميين في اختراق المجتمع بـ (ثقافة الموت، وصناعة الكراهية هي السائدة، فقط لحسابات سياسية لا غير، ولأطماع دنيوية..).
أصبح الحديث عن جهنم والعقاب والقتل جَهْرا، والظلاميون احتكروا الجنة وأعلنوا أنفسهم وصايا على الناس، بل اليد التي تبطش بهم في الدنيا تقربا وزلفى. كل من خالفهم الرأي أو بحث عن أسباب التخلف وطالب بعدالة اجتماعية، صنفوه في خانة: زنديق؛ كافر، وأصدروا حكمهم بوجوب محاربته. وقد يقتل بطعنة غادرة أو رصاصة طائشة أو يعلق بحبل مشنقة، وقد يدفعون بأحد الظلاميين لتفجير نفسه، وحصد أكبر عدد من سنابل الفكر. يبيعونه وهم الحور العين وهن يترقبن صعوده إلى السماء.) الرواية ص 174.
بسوداوية فكر هولاء التفكيريين تغيب رحمة الله ويحضر شديد العقاب بناره وزبانيته، يغيب الفردوس الإلهي الذي يتوصل له الإنسان حينما يمارس طقوسه مباشرة باعتباره شأنا خاصا، شأنا عقليا بحضور وازدهار الفكر.
وفي نظرة متمعنة في رؤية الكاتبة وتحليلها للحال تعزو ذلك الاستشراء الظلامي في المجتمع إلى غياب العقل وتمكن التقليد الأعمى بديلاً للإيمان، وبذا سقطت الأمة في فخ الظلام.
وتقول في تحديد دقيق للمعضلة: (للأسف، تفجر الذهب الأسود، النفط، وكان سلاحا لاغتيال العقل وإحياء التقليد من جديد، فعاد ابن تيمية، يفتي من قبره بقتل العقول وكل من يهدد راحة المترفين). الرواية ص 176.
في مقابل الفكر الظلامي تبرز شخصية ابن رشد التنويرية، وابن رشد في الرواية المعادل الموضوعي للفكر التنويري الثقافي الحديث، وصورة للمثقف العربي في المغرب الرافض، بل والثائر بطريقة حضارية ليس فيها دم ولا حرق ولا تبكيت.
تتضح هذه الرؤية بشكل جلي في الرواية:
(نظر يوسف بعيون كريمة الدامعة وقال لها بحنان:
ــ أتفهمين الآن لِمَ أسست مؤسسة التنوير؟
يجب أن تستمر في فضحها للأفكار الظلامية، ليس لنا خلاص سوى العقل، فالدعوات التي استهدفت تكفير العلماء والمفكرين في الماضي والحاضر، وتكبيل الحريات الفكرية لم تتغير، هدفها الحقيقي هو تكريس الجهل والتخلف، حتى تظل الشعوب بأيدي رجال الدين والحكام.)، الرواية ص 178.
الكاتبة زهرة عز في روايتها سرير الألم . أعطت وجهات نظرها في موجات العنف ومن خلال شخوص روايتها تضع الحلول والبدائل..
ابن رشد يمثل الفكر العربي التنويري القديم في محاربة الظلام، وقد دفع الثمن بإحراق كتبه ومضايقته حد محاربته، يمثاله في العصر الحاضر الشاب يوسف المهتم بالفلسفة المتعلق حبا بفلسفة ابن رشد وتوقه لإحياء هذا الفكر التنويري بكتاب، وهذه الفكرة المفعمة بالتطلع إلى الغد الذي يمحو الظلم.
هوامش:
- سرير الألم / زهرة عز – روافد للنشر والتوزيع. 2017 ط أولى، القاهرة.
- جيمس جويس، جون كروس ت عبد الوهاب الوكيل، دار المأمون، بغداد، سنة 1987 .