اختُرع التحنيط قديماً بغرض الحفاظ على الجثة البشرية أو غيرها بغرض تأجيل التحلل لأطول فترة ممكنة. وتجري عملية المعالجة الكيميائية لجسم الإنسان الميت لتقليل وجود الكائنات الدقيقة ونموها، ولإعاقة التحلل العضوي. وقام التحنيط لدى حضارات معينة على اعتقادات مرتبطة بما هو ديني، يعتبر التحنيط فيها ضرورة لتعرُّف الروح على الجسد بعد الوفاة الأولى.
أساطير التحنيط:
تُعرف مصر بأنها أرض المكنوزات في مجال التحنيط، فالاكتشافات المرتبطة بتوابيت المومياوات والجثث المحنطة لا تزال تبرز كأخبار رئيسية بخاصة حين اكتشاف مقابر تحتوي على عدد كبير منها. ويعرف الدكتور إيهاب الخطيب،الباحث الأثري والمفتش بوزارةالآثار المصرية التحنيط بأنه “عملية تجري فيها معالجة الجسم المتوفى ببعض المواد للحفاظ عليه من التفكك والتحلل حتى يظل سليماً كما هو”. والدافع وراء إجراء التحنيط حسب المتحدث يرجع إلى اعتقاد “المصري القديم فى البعث والخلود بعد الموت إلى الأبد”.
وأطلق الفراعنة على عملية التحنيط اسم (وتى)، وتعنى حسب الباحث الأثري بوزارة الآثار المصرية “التكفين الذى كان يجري عن طريق لف جثة المتوفى بلفائف من الكتان لحفظه، طبقاً للبرديات المصرية القديمة”، موضحاً أن “عملية التحنيط بدأت منذ الأسرة الثالثة واستمرت إلى ما بعد دخول المسيحية إلى مصر”.
وتذكر الأساطير المرتبطة بموضوع التحنيط أن المصريين القدامى مارسوا التحنيط لاعتقادهم بأن الأرواح ستعود إلى الاتحاد مجدداً مع أجساد الموتى ليحيا الإنسان حياة جديدة مشابهة للحياة التي قضاها على الأرض قبل موته، وليتحقق ذلك كان لا بد من حفظ الجسد حتى لا يتعفن، لأنه في حال تعفن الجسد وفنائه تظل الروح تبحث عن جسد لم يعد له وجود.
مراحل التحنيط:
وفي شرحه لمراحل عملية التحنيط يقول المتخصص إيهاب الخطيب إنها كانت تجري عن طريق “أولاً غسل الجثة بمحلول معقم، ثم تدليك الأطراف للتخفيف من تصلب المفاصل وتيبس العضلات، ويبدأ المحنط تصفية الدماء الموجودة فى الجسم من خلال الأوردة الدموية ويستبدل الدم بمواد كيميائية. وبعد تحنيط الشرايين ينتقل للتجاويف الداخلية فيبدأ تجفيف التجويف الصدري من السوائل الموجودة بعمل ثقب فيه يجري حقنه بمواد كيميائية”.
بعد ذلك ينتقل المحنط إلى باقي أجزاء الجثة التي يجب إفراغها كلياً، ويحدث ذلك “بعمل شق فى الجزء الأسفل من البطن وعن طريق أداة جراحية حادة تستخرج أحشاء الجثة بالكامل وتحقن بمواد كيميائية، ثم يعاد خياطة الشق ليصبح الجسم محنطاً بالكامل. وبعد ذلك توضع بعض مواد التجميل على الجثة ويغسل الشعر ويصفف حسب سلالة المتوفى والأسرة التى ينتمى إليها، ثم تلبس الجثة بملابس مناسبة وتوضع فى تابوت خاص بها”.
لكل طبقة طريقة خاصة:
لم تحنط كل جثت المصريين القدامى بالطريقة نفسها، فقد كانت الطريقة تختلف باختلاف الطبقة الاجتماعية التي ينحدر منها المتوفى.
وحسب الخطيب فإن التحنيط عند قدماء المصريين قد عرف عدة أشكال، إذ “وُجد نموذج التحنيط الكامل، الذي يطبق المحنط فيه خطوات التحنيط كاملة بلا نقصان، مع استيراد مواد التحنيط عالية الجودة من لبنان وسوريا واليونان”، وهو ما يجعل تكلفته غالية جداً لا يستطيع دفعها إلا القلة القليلة.
أما النموذج الثانى الخاص بالطبقة المتوسطة “ففيه تستخرج الأحشاء ويجفف الجسم من السوائل، وتختلف هذه الطريقة عن سابقتها فى عدم الاهتمام بالحفاظ على أعضاء الجسم الداخلية، ويستخدم المحنط مواد محلية بديلة مثل زيت الخروع”. أما طريقة تحنيط جثث الفقراء “فكانت تقتصر على تجفيف الجسد ودهنه بالدهون ولفه بلفائف، وكانت تعتمد مواد التحنيط على الراتنجية وشمع النحل والملح ونبات العرعر والحناء والزيوت الصنوبرية”.
واعتمد المصريون القدماء ثلاث طرق للتحنيط، “الأولى اعتمدت على وضع الأجساد فى الأجواء الباردة، والثانية كانت تتطلب حقن مواد مطهرة فى الأوعية الدموية فتنتشر في الجسم”، حسب مفتش الآثار المصري. أما الطريقة الثالثة فكانت تقوم على “تجفيف الجسم تماماً من السوائل والبعد به عن الرطوبة، وبعد إتمام عملية التجفيف هذه كان يجري إخلاء تام لكل خلايا الجسم وأجهزته”.
وكان الكهنة ينفذون عملية التحنيط داخل المعابد المصرية القديمة عبر طريقتين: “الأولى باستخدام الحرارة حتى يتبخر الماء من الجسم، ولكنهم وجدوا أن هذه الطريقة صعبة التطبيق فاتبعوا طريقة أخرى تقوم على استخدام المواد الكيميائية التي تمتص الماء مثل ملح النطرون والجير والحناء، هذا إلى جانب استخدام الكتان فى لف جثث الموتى، الذي تبين وضع مواد كيميائية عليه ليكون معزولاً من أجل حماية جثة المتوفى ومقاومة البكتريا”، كما يقول الخطيب. إلا أن الدراسات أوضحت أن هذه الطريقة “لم تكن متقنة مثلما كانت طريقة تحنيط جثث ملوك الفراعنة وأصحاب المناصب العليا المهمة”.
للتحنيط متاحف بمصر:
يوجد في مصر متحفان للتحنيط، الأول بالقرية الفرعونية بالجيزة والآخر بمدينة الأقصر على كورنيش النيل شمال معبد الأقصر. ويهدف هذا المتحف حسب مفتش الآثار الخطيب إلى إبراز تقنيات فن التحنيط الفرعوني القديم التى طبقها قدماء المصريين على العديد من المخلوقات سواء كانت آدمية أو حيوانية أو نباتية، وقد افتتح هذا المتحف عام 1997.
في هذه الفترة أدرك خبراء الآثار المصريين ضرورة تخصيص متحف يرصد أسرار عملية التحنيط التي ميزت الحضارة المصرية القديمة. ويعرض المتحفان أسرار التحنيط القديمة وطرقه وأساليبه وآلاته والمواد المستعملة لذلك، التي وجدت في الأماكن السرية التي عثر عليها حيث كان يمارس المصريون القدامى عملية تحنيط موتاهم.
حضارات عرفت بالتحنيط:
وحسب الخطيب فإن “فكرة الحفاظ على الأجساد بعد الموت حظيت باهتمام كبير منذ فترة بعيدة. ومن المعروف أن المصريين القدماء هم أشهر من استخدم أسلوب التحنيط لحفظ الجثث وبخاصة جثث ملوك الفراعنة، والدليل على ذلك العثور على مومياوات الملوك والملكات الفراعنة”.
وتوجد حضارات عرفت أيضاً بممارستها التحنيط، مثل الصينيين واليونانيين وقدماء اليمنيين الذين اعتمدوا طرقاً للحفاظ على جثث الشخصيات المقدسة لديهم، وقد استخدموا فى ذلك مواد مختلفة”.ويستمر العلماء في مصر بالتنقيب عن آثار تعود إلى العصور القديمة بخاصة منها المومياوات المحنطة التي اكتشف منها سنة 2020 أكثر من 150 جثة محنطة.