برز في السنوات الأخيرة حجم القوة التي باتت تمتلكها شركات تكنولوجيا المعلومات، وبالأخص منها شبكات التواصل الاجتماعي، في التأثير على الرأي العام، وتغذية توجهات المواطنين وربما تغيرها.
كانت التهم الأبرز التي كيلت لهذه المنصات هي مساهمتها في نشر خطاب الكراهية، وحملات التضليل، والأخبار الكاذبة، وزيادة حدة الاستقطاب.
غير أنه ومنذ “الأربعاء الأسود”، وهو اليوم الذي شهد الهجوم الذي قاده أتباع ترمب من متطرفي اليمين الأبيض على الكونجرس الأمريكي، برزت لهذه المنصات أدوار أخرى عكست حجم قوتها ونفوذها تمثل في الأساس بإغلاق حساب شخصيات رفيعة المستوى كالرئيس السابق ترمب الذي أوقفت تويتر حسابه بشكل دائم. لاحقا استمرت تويتر، وغيرها من المنصات، على هذا النهج حيث قيدت الوصول إلى حساب المرشد الأعلى علي خامنئي، على سبيل المثال، وبعض تغريدات وزير الداخلية التركي سليمان صويلو، ورئيس الحركة القومية التركية دولت بهتشلي. وبالرغم من اختلاف أسباب عمليات الحظر والتقييد هذه، إلا أنها تبقى مؤشراً على حجم القوة ومدى التأثير الذي باتت تضلع به هذه الشركات. وللمفارقة، فإن واحدة من أهم مصادر هذه القوة هو سياسة الاحتكار التي باتت ربما السمة الأبرز التي تسيطر على العقلية الاقتصادية لأساطين القطاع الرقمي.
القطاع الرقمي وعقلية الاحتكار:
تتجه شركات تكنولوجيا المعلومات العملاقة إلى مزيد من عمليات الاستحواذ على منافسيها الأصغر حجماً، وهو التوجه الذي من شأنه أن يقضي على التنافسية ويضر بالخصوصية الفردية.
في العالم التكنولوجي، وفي ما يتعلق بالنموذج الاقتصادي، يبرز مَعلَمَان رئيسيان يكادان يشكّلان جوهر نمو القطاع الرقمي: المعلم الأول يتعلق بالتعقب، وهو ما يعني السعي الحثيث للشركات التكنولوجية للاستحواذ، قدر الإمكان، على البيانات الشخصية للمستخدمين، وذلك لاستثمارها المالي إما من خلال بيعها لطرف ثالث، أو من خلال الإعلانات الموجهة.
أما المعلم الثاني فيتعلق بالاستحواذ، إذ تسعى الشركات العملاقة دائماً للاستحواذ على المشاريع الصغيرة الناشئة Starts-up، وذلك لمنع تشكُّل منافسة حقيقية وجادة لها داخل السوق. فنلاحظ على سبيل المثال كيف استحوذت شركة فيسبوك على التطبيق الأشهر للمحادثة واتساب، وتطبيق الصور إنستغرام. في حين تسعى شركة تويتر للاستحواذ على الشركة الناشئة club house التي تتبنى الرسائل الصوتية في نموذج يحاكي Chat rooms سابقاً.
وفي السابق قامت عملاق البيع الإلكتروني شركة أمازون بإطلاق نسختها العربية Amazon.ae في الإمارات العربية المتحدة مستبدلة بذلك شركة البيع الإلكتروني عربية المنشأ Souq.com. وأتت هذه الخطوة في سياق مساعي شركة أمازون لتوسيع عملياتها في العالم العربي بعد استحواذها على Souq.com في عام 2017 بمبلغ 580 مليون دولار.
كما استحوذت شركة “أوبر” للنقل التشاركي على شركة “كريم” التي تم إطلاقها في دبي عام 2012 بمبلغ ضخم وصل إلى 3.1 مليار دولار. وبذلك يكون قطاع النقل التشاركي العالمي قد أصبح في قبضة شركة واحدة، وهو الأمر الذي يرى فيه كثير من الخبراء ضربة موجعة لمبدأ التنافسية الذي يعد ضرورياً للنموّ في جميع الاقتصادات، بما فيها الاقتصادات الناشئة، خصوصاً في ظل اقتصاد عالمي بدأ يدخل مرحلة جديدة من الكساد، زاد من حدتها جائحة فيروس كورونا.
ولكن لماذا تُعتبر عمليات الاستحواذ مضرة؟
في الحقيقية، لا تُعتبر عمليات الاستحواذ هذه جديدة في عالم الشركات عموماً، غير أنها باتت مؤخراً تأخذ أبعاداً غير مسبوقة عندما تتعلق بشركات تكنولوجيا المعلومات العملاقة مثل فيسبوك وغوغل وأمازون ومايكروسوفت، إذ تؤثّر بشكل مباشر في حياتنا وتعاملاتنا اليومية، خصوصاً في مجالين اثنين: التنافسية السوقية، والخصوصية الفردية.
إن عمليات الاستحواذ، وبالتالي الاحتكار، تقود إلى تركُّز شديد وغير مسبوق لرأس المال من جانب، وللمعرفة من جانب آخر. على سبيل المثال، لنا أن نتخيل القوة النابعة من أن شركة Google التي تأتي ممَّا يقرب من 3.5 مليون عملية بحث يوميّاً على محرّكها، وهو ما يعني ضمناً تريليونات من المعلومات التي تجمعها شركة Google عن المستخدمين يوميا في ظلّ غياب شبه تامّ لأي منافس حقيقي لها. ماذا لو قررت شركة Google، لأي اعتبار، وقف خدماتها في البلد الذي تسكن فيه؟ في هذه الحالة سنجد أنفسنا في حرج شديد، خصوصاً ونحن نعتمد على منتجات شركة غوغل بشكل يومي في تعاملاتنا كافة، من البريد الإلكتروني Gmail إلى يوتيوب، إلى Google drive، إلى الإنترنت السحابي، وهلم جرا.
ومؤخراً شعر العالم بالهلع جراء إعلان فيسبوك المفاجئ لسياساتها الجديدة في ما يتعلق بالخصوصية على تطبيقها واتساب، الأمر الذي دفع الكثير إلى البحث عن البدائل، وهو الأمر الذي وضعهم في حرج كبير بسبب اعتمادهم الكبير على هذا التطبيق لسنوات طويلة، وكثافة انتشاره، وحجم اعتياده. إن استحواذ فيسبوك على واتساب جعل هذا الأخير عرضة لسياسات فيسبوك المتعلقة بالخصوصية والمثيرة للجدل، ومن هنا وجد الملايين من المستخدمين أنفسهم أمام خيار الانصياع لهذه التعديلات التي ستجعل بياناتهم عرضه للاستغلال، أو الحرمان من التطبيق. وعلى الرغم من أن فيسبوك تراجعت عن هذه الخطوة بسبب حالة الاعتراض العالمية التي صاحبتها، فإن هذا المثال يبقى دليلاً على المضارّ الجانبية للاستحواذ والاحتكار التي تسود القطاع الرقمي.
وقد جاء التحذير من هذا الاستحواذ الاحتكاري المتنامي في القطاع الرقمي على لسان واحد من أبرز أبناء هذا القطاع هو كريس هيوز، الذي يُعَدّ أحد أبرز مؤسسي شركة فيسبوك، وزميل مارك زوكربيرغ، وشريكه في ذات الغرفة أيام الدراسة الجامعية.
ففي مقال مطوَّل له نشرته صحيفة نيويورك تايمز يوم الخمس 9 مايو/أيار 2019، وجّه هيوز انتقاداً حادّاً إلى شركة فيسبوك التي باتت توجُّهاتها الاحتكارية لا تخفى على أحد، خصوصاً بعد استحواذها على تطبيقَي واتساب وإنستغرام. وطالب هيوز بشكل صريح بضرورة تفكيك فيسبوك من أجل خلق مساحة أوسع من المنافسة، وتحصين الخصوصية بشكل أكثر فاعلية.
لم يتهم هيوز زميله السابق زوكربيرغ بالنية السيئة، ولكنه أكّد أن القوة التي جمعها موقع فيسبوك غير مسبوقة، فمنصة فيسبوك لديها اليوم أكثر من 2.5 مليار مشترك حول العالم، في حين أن لتطبيق الرسائل الفورية واتساب ما يزيد على مليارَي مستخدم منتشرين في أكثر من 180 دولة، أما تطبيق إنستغرام فيبلغ عدد مستخدميه نحو مليار مستخدم ويزيد.
ولا تكمن خطورة الاستحواذ الاحتكاري في مثال فيسبوك في التنافسية السوقية، بل في الخطر الذي تشكّله على خصوصية المستخدمين، وقناعاتهم الشخصية، والأفكار التي باتوا يحملونها، وذلك لدور هذه المنصات الكبير في تشكيل وإعادة تشكيل الرأي العامّ من خلال منصات عابرة للحدود ولا تخضع للقوانين والأعراف المحلية.
والمثال الواضح الذي تم فيه استخدام منصات التواصل الاجتماعي خصوصاً فيسبوك في التلاعب بتوجهات الرأي العام كان الانتخابات الأمريكية عام 2016 التي جاءت بالرئيس السابق دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، هذا فضلاً عن دور هذه المنصات في نشر خطاب الكراهية والتحريض على الآخر. فمن نافلة القول التذكير بأن تطبيق واتساب -على سبيل المثال- قد استُخدم على نطاق واسع في الانتهاكات الإنسانية الفظيعة التي طالت أقلية الروهينغيا المسلمة على يد السلطات في ميانمار، كما أن خاصة البث المباشر استُعملت بطريقة فجة في أحداث الاعتداء على المساجد التي وقعت في نيوزيلندا وراح ضحيتها العشرات من المصلين الآمنين على يد أحد غلاة المتطرفين البيض.
إن التوجهات الاحتكارية لدى فيسبوك لا تُنبِئ بخير، فعلى خلاف الوعود التي قطعها زوكربيرغ من قبل لمؤسِّسَي شركة إنستغرام كيفن سيستروم ومايك كريغر والمتعلقة بالاستقلالية، يبدو أن السلطة المتأتية من اتباع سياسة الإدماج كانت أكثر إغراءً، وهو ما دفع سيستروم وكريغر لاحقاً إلى تقديم استقالتيهما والخروج من الشركة، فضلاً عن اعتراضهما المتكرر على سياسة الخصوصية التي تُخضِع بيانات المستخدمين للاستغلال الدائم رغبة في تعظيم رأس المال.
ويحاول زوكربيرغ التعاطي مع الأضرار التي لحقت بشركته مؤخراً جرَّاء الفضائح المتتالية التي مُنيت بها فيسبوك، إذ يخشى أن يتطور الأمر إلى أن يصل إلى حالة يفقد معها المستخدمون ثقتهم بالشركة، ولكن بسبب استراتيجية الاستحواذ الاحتكاري فإن هؤلاء المستخدمين ما زالوا غير قادرين على إيجاد البديل، وهي الورقة التي يراهن عليها زوكربيرغ حتى الوقت الراهن.
هذا على الرغم من تصاعد المطالبات بضرورة إخضاع الشركات التكنولوجية لقانون محاربة الاحتكار. وقد خضع زوكربيرغ وغيره من مديري هذه الشركات لمساءلات أمام اللجان المختصة في الكونغرس الأمريكي على مدار السنوات الأخير السابقة، وهو ما يعني أن المشرعين باتوا أكثر إدراكاً لمخاطر الاحتكار وللنفوذ المتأتي منه لصالح هذه الشركات. لا يمكن التنبؤ بالمدى الذي سيذهب إليه المشرعون في الولايات المتحدة أو غيرها من الدول في وضع حد لهذه الاستراتيجية، ولكن بالأخير، بات هناك وعي شعبي ورسمي على حد سواء بهذه المشكلة وبضرورة التعاطي معها بجدية.
يرى خبراء أن فلسفة “السوق تحكم نفسها بنفسها” لم تعُد تتوافق مع الواقع الرأسمالي الحالي. إن السوق في هذا الوقت خصوصاً في قطاع تكنولوجيا المعلومات تحتاج إلى تدخُّل المشرعين من أجل سَنّ قوانين تعمل على إبقاء التنافسية السوقية فعالة، جنباً إلى جنب مع إبقاء خصوصية المستخدمين آمنة وذات أولوية قصوى.