الإيقاع النغمي في قصيدة النثر ــ د. فالح الحجية الكيلاني

0
1165

الإيقاع هو تلك النغمة المنبعثة من خلال تناغم الأحرف مع بعضها أثناء النطق أو من خلال أي صوت يحدث جراء فعل أو عمل معين، سواء أكان هذا الصوت طبيعيا كصوت هدير الماء أو تغريد بلبل، أو صناعيا كإلقاء قصيدة شعرية أو خطبة أو فرقعة انفجار وما إليها .
فالإيقاع هو حالة تنظيمية للتنبيهات الواقعة بين سكونين أو حالتين؛ هما سكون البدء أو سكون الابتداء، و سكون النهاية عندما ينتهي الفعل.. والشعر ما هو إلا فعل فاعل وهو الشاعر . إذاً فهو متكون من نغم وإيقاع من خلال تناغم الأحرف، التي يستخدمها الشاعر في نظمه، ويعتمد هذا التناغم على ومقدرة الشاعر وإمكانيته اللغوية والفنية على إيجاد ايقاعية نغمية بين حرف وآخر، من خلال مخارج الحروف من الحلق وبنائها بناء تثبيتيا في إيقاعية فاعلة ومؤثرة في نفس المتلقي، واختيار هذا الحرف أو ذاك، بحيث يكوّن نغمة ذات صدى في نفسية المتلقي أو السامع. ومن هنا تظهر موهبة ومقدرة الشاعر على إيجاد هذا النوع من الإيقاع أو ذاك، تبعا لما يستوطن في حسه من إيقاعات، وإمكانيته في تحريكها نحو الأسمى.
فالإيقاع إذاً هو حركة الكلام في النطق أو الكتابة، حيث يكون على أشده في القصيدة الشعرية، سواءً في قصيدة النثر أو القصيدة العمودية أو قصيدة التفعيلة.
إننا عندما نمثل الكتابة الشعرية بالرقص الفني على أنغام قطعة موسيقية إذا ما قارناه بالكتابة النثرية من حيث رصد الحركة في كلتي الحالتين مثلا، لكنهما متغايران نتيجة للفرق الموجود بينهما، فالإيقاع المتكون أو النغم الموسيقي لقصيدة العمود الشعري هو الإدراك المنبعث من سماع الأذن الموسيقية المتأتية من النظام الصوتي للحروف، والمنتظم في حالة تعارف عليها الشاعر من خلال إيجاد الشاعر الإيقاع الأفضل في حركة الحرف الواحد مع مثيله الحرف الآخر لينشئ نغما معينا، وهو ما تعارف عليه بالبحور الشعرية وهي البحور التي تم وضعها أو بحثها أو دراستها من قبل الخليل بن أحمد الفراهيدي – حيث أنها كانت موجودة قبله شفاها – مع القافية التي يجب الالتزام بها من قبل الشاعر، و التي تضيف إلى البحور إيقاعا صوتيّاً إضافيا، وتناغما شعريا تتاثر به الأذن السامعة فتطرب لها النفس الإنسانية تبعا لمقدرتها وإمكانيتها على الفهم والتأثر. وهو أيضا إيقاعات استنتاجية أوجدها الفراهيدي في القصائد الشعرية التي قالها الشعراء قبله.
أن الإيقاعات الصوتية السمعية جاءت كضرورة من الضرورات الشعرية آنذاك، و تم التركيز فيها على الإيقاع السمعي وذلك لسهولة الإدراك السمعي للإيقاع، إذ أن الإيقاع السمعي لا يحتاج إلى عمليات فكرية كبيرة، فهو يدخل في أذن ونفس المتلقي أو السامع بيسر وسهولة تبعا لقدرته على السماع والإدراك الشعري. أو ربما يأتي هذا الإيقاع من خلال التغيرات أو الانكسارات الصوتية الكثيرة في حالة من التوتر التي تحملها القصيدة، ومن خلال الصياغة اللغوية والصور البلاغية والبيانية والجماليات المتواجدة في القصيدة الشعرية، أو ربما يأتي من خلال تنضيد البيت الشعري كتابة إلى شطرين متساويين في الوزن والقافية أو في أحدهما.
وفي قصيدة التفعيلة لا نرى خلافا في كل ما جاء في قصيدة العمود الشعري من حيث الوزن، حيث أن هذه القصيدة – الشعرالحر- نابعة من مضاربة في عدد من البحور الشعرية الفراهيدية وهي سبعة بحور أو ثمانية، ونسميها بالبحور الصافية لصفاء تفعيلتها، فهي تأتي على وزن الكامل: ( متفاعلن ــ متفاعلن ــ متفاعلن)، أو على وزن الهزج: ( مفاعيلن ــ مفاعيلن ــ مفاعيلن ) وهكذا، أي تتكون من تفعيلة واحدة قابلة للتكرار مع سماحية أوسع في العلل الوزنية المعروفة لتأتي بمساحة أوسع من قصيدة العمود، أو بمعنى آخر إن قصيدة العمود أكثر التزاما بالبحر الشعري من قصيدة الشعر الحر. ومع هذا فإن بحور شعر العمودي ستة عشر بحرا، بينما في الشعر الحر ثمانية أو سبعة إذا استثنينا منها متدارك الأخفش.
فالإيقاع الشعري الموجود في هذه موجود في تلك، إلا أنها اختلفت عنها بالقافية، والتزام حرف الروي وهو الحرف الأخير من عجز البيت، أو هو القافية بعينها فتأتي في العمود متناغمة متناسقة، بينما في قصيدة التفعيلة مختلفة باختلاف نهايتها في السطر الشعر وتكرار التفعيلة وحسب مزاجية الشاعر.
أما في قصيدة النثر فتمثل الحرية المطلقة للشاعر في انتقاء الكلمات أو العبارات المتجانسة لقصيدته. وهنا تصطدم حالة الانتظام الموجود في قصيدة العمود أو قصيدة الشعر الحر بالإيقاع الموجود في قصيدة النثر، والذي لربما يصل إلى حالة الانعدام عند كون الشاعر لا يجيد مفردات اللغة او التنسيق الحرفي والنغمي فيها. فكانت قصيدة النثر قد حطمت كل قوانين الشعر من وزن وقافية وبحر بحيث ما يجري في قصيدة النثر يعد هدما لأسس وقواعد قصيدة العمود أو هكذا .
والإيقاع في قصيدة النثر قد يعتمد على البنية الصوتية للحروف كما في قصيدة الوزن، لكن ليس بترتيبية الخليل أو الأوزان العروضية، إنما من خلال منابع خاصة بها، من أهمها مثلا التكرار المقطعي في ترتيبة صوتية معينة ضمن المقطع الشعري الواحد أو التكرار اللفظي لبعض الكلمات، تلك التي يرغب الشاعر إعطاءها الأهمية في الإظهار وغيرها من الأساليب التي ربما قد يتبعها بعض شعراء الحداثة لاستحداث نوع من روحية غنائية جديدة وتمثل إيقاعية معينة، وهي بحد ذاتها غير ضرورية لبناء قصيدة النثر. وعليه فالإيقاع الظاهر لا يأخذ الأهمية هنا كما في شعر العمود أو قصيدة التفعيلة.
الطبيعة البشرية وجدت منذ الأزل، و هي في حراك مستمر مع الفضاء الخارجي وسلطته الواسعة عليه، لذا فقد ابتدع الإنسان صيغا كثيرة للتخلص من تلك الحالة أو السلطة، من خلال إيجاده سبلا جديدة يطمح إليها الانسان، وهذه تختلف من إنسان لآخر، ومن بلد لآخر تبعا للتطور العام، وقد نسمي هذا الانفلات من هذه الروابط الكثيرة بالحرية، فهي أشبه بالحلم الكبير الذي ما زال الإنسان يبحث له عن معنى حقيقي، لذا نجدها في صفحات التاريخ تمثل الحلم الذي يراود الإنسان في إطار التخلص من سلطة الطبيعة المدركة على أنها تلك الجاذبية التي تربطه بتلك السلطة الطبيعية ..
والإنسان منذ أن خلق في دأب مستمر لإبراز ما عنده من نوازع وأفكار وأمور، ويعتبر الأدب أحد أهم الوسائل. لذا فإن قصيدة النثر هي آخر ما توصل إليها الفكر الإبداعي والعربي، خاصة من خلال التمازج الثقافي مع المجتمعات الأخرى، وكأسلوب يحمل في طياته نتاجاً فكريّاً بشريّاً من خلال استناده إلى التقنيات الفنية، ويتبلور من خلال مساحة الحرية المتاحة لها، والتي تمتلكها هذه القصيدة، بالقياس إلى ما تمتلكه قصيدة العمود الشعري أو قصيدة الشعر الحر، فكان لا بد لها أن تبرز هذا التناقض وتوحده من خلال وحدة القصيدة في صورها الشعرية، ومن خلال صياغتها اللغوية.
لذا فالإيقاع فيها مطلقا تام الحرية في اختيار الشاعر ما يريد، حتى أن بعض الشعراء – وهذا ما لا أقره – اعتمد أسلوب الإبهام والتناقض في إيجاد نوعية شعرية رمزية غير مفهومة عند المتلقي، وإن سالت عنها قيل: ( المعنى في قلب الشاعر ). فهي إذن تتكافأ مع رمزية القصيدة العمودية من حيث النزعات الشعرية والاختلاجات النفسية، إلا أنها أوسع حرية في انتقاء الأسلوب، وقد تضيع أو تفقد قيمتها الشعرية بين الإيضاح والإبهام والغموض الواسع، وربما كأنها مستجدية للإيقاع الشعري استجداء، بخلاف قصيدة العمود التي يظهر فيها الإيقاع الشعري شامخا، وهذا يعتمد على الشاعر نفسه في الأغلب.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here