الأساليب الشعرية العربية اختلفت وتشعبت في هذا العصر، في الحداثة والمعاصرة كثيرا، عما كانت عليه في العصور السابقة: العصر الجاهلي والإسلامي وما بعدهما، حيث أوضحنا أن الأساليب الشعرية في كل عصر من العصور، وما زاد فيها أو نقص، وكانت متوازية مع القصيدة العربية إلا في هذا العصر، فقد عظمتها التحولات العلمية والثقافية والأدبية، وشعبتها إلى أساليب كثيرة. وإذا كانت هذه التحولات كثيرة في قصيدة العمود الشعري، أو في القصيدة العربية القديمة في أسلوبها ومعانيها، فإنها في قصيدة النثر الشعري فاقت كثرة أسلوبية، وتعقدت المعايير، بحيث يصعب تحجيمها، أو الهيمنة النقدية على كل أساليبها المختلفة، أو قل أن لكل شاعر أسلوبا خاصا به ولكل كاتب، وأصبح من الصعب إيجاد قاسم مشترك بين كل هذه الأساليب المتعاركة في مدينة الشعر وطرقاتها ومتاهاتها المختلفة .
إن الأساليب الشعرية المعاصرة والحديثة، والتي تتمثل في الشعر الحر، أو قصيدة النثر، مهما كثرت زواياها، واختلفت طرقها ومحتواها، فإنها تتمثل في مجموعتين أسلوبيتين، هما الأساليب التعبيرية، والأساليب التجريدية.
فالأسلوب التعبيريّ يتمثل بالنمط الذي تنتجه أشكال اللغة الأدبية، أسلوبا ملونا بتلوين من المعايشة غير المباشرة أو المعهودة، حيث تقدم نوعاً من الحقائق المبتكرة بتحريف يسير للغة المعبرة، وتفعيل معقول لآليات التوازي والاستعارة والترميز، بشكل يؤدي إلى الكشف عن التجربة في مستوياتها العديدة، والتي قد تصل إلى أبعاد رؤيويّة، لكنها تظل تعبيرية الحقيقة المكنونة.
أما الأساليب التجريدية فتعتمد على زيادة معدلات الانحراف، وتغليب الإيحاء والرمز على التصريح، فتعطي القصيدة إشارات مركزة يتعيّن على المتلقي إكمالُها وتنميتها من الداخل، وقد أشار فضل إلى فارق جوهري بين التعبيرية والتجريدية يتمثل في إشارة الأولى إلى التجربة السابقة على عملية الكتابة نفسها سواء أكانت حقيقية أم تخيلية، واختفاء هذه الإشارة في الثانية بناء على غيبة هذه التجربة.
ويندرج تحت التعبيرية أربعة أساليب، هي :
1- الأسلوب الحسي وهو الذي تزيد فيه الإيقاعية والنحويّة، في حين تقل درجة الكثافة والتشتت والتجريد. فمن الأسلوب الحسي نلاحظ أن شعر نزار قباني أفضل نموذج للشعر الحسي؛ إذ يقول :
دعيني أصبّ لك الشّاي،
أنت خرافيّة الحسن هذا الصّباح،
وصوتك نقشٌ جميلٌ على ثوب مرّاكشيه
وعقدك يلعب كالطّفل تحت المرايا..
ويرتشف الماء من شفة المزهريّه
دعيني أصبّ لك الشّاي، هل قلت إنّي أحبّك؟
هل قلت إنّي سعيدٌ لأنّك جئت..
وأنّ حضورك يسعد مثل حضور القصيده
ومثل حضور المراكب، والذّكريات البعيده..
2- الأسلوب الحيوي الذي ينمي الإيقاع الداخلي، ويعمد إلى كسر يسير في درجة النحوية، ويتوافر فيه مستوى جيد التنويع من دون أن يقع بالتشتت، ويتمثل في شعر بدر شاكرالسياب؛ ومن شعره :
مازلت أضرب، مترب القدمين أشعث
في الدروب تحت الشموس الأجنبية
مـتخافق الأطمار
أبسط بالسؤال يدا نديه
صفراء من ذل وحمى
ذل شحاذ غريب بين العيون الأجنبية
بين احتقار، وانتهار، وازورار.. أو خطيه
والموت أهون من خطيه
من ذلك الإشفاق تعصره العيون الأجنبية
قطرات ماء.. معدنية
3- الأسلوب الدرامي الذي يعتمد على تعدد الأصوات والمستويات اللغويّة، ويحقق درجة من الكثافة والتشتت، من دون أن يخرج عن الإطار التعبيري. فيتمثل في شعر صلاح عبد الصبور الشاعر المصري، ومن شعره هذه السطور :
معذبي ، أيها الحبيب
أليس لي في المجلس السنّي حبوة التربيع
فإنني مطيع وخادم سميع
فإن أذنت إنني النديم في الأسحار
حكايتي غرائب لم يحوها كتاب
طبائعي رقيقة كالخمر في الأكواب
فإن لطفت هل إليّ رنوةُ الحنان
فإنني أدل الهوى على الأخدان
أليس لي بقلبك العميق من مكان
وقد كسرت في هواك طينة الأنسان
وليس ثمّ من رجوع .
4- الأسلوب الرؤيوي الذي تتوارى فيه التجربة الحسيّة، مما يؤدي إلى امتداد الرموز في تجليات عديدة ويفتر الإيقاع الخارجي، ولا تنهض فيه أصوات مضادة، ويحقق مزيداً من الكثافة والتشتت مع التناقص البين لدرجة النحويّة. وأفضل شعر يتمثل فيه هذا الأسلوب شعر عبد الوهاب البياتي؛ يقول :
أيتها الأشجار القطبية
يا صوت نبي يبكي
يا رعداً في الزمن الأرضيِّ المتفجر حبّا يا نار الإبداع
لماذا رحل الملك الأسطوريُّ الحطاب ليترك هذي
الغابات طعامًا للنار؟
لماذا ترك الشعراء خنادقهم؟
ولماذا سيف الدولة ولَّى الأدبار؟
الروم أمامي كانوا وسوى الروم ورائي
وأنا كنت أميل على سيفي منتحراً تحت الثلج
وقبل أفول النجمِ القطبيِّ وراء الأبراج.
أما إذا أردنا أن نعرف كل هذه الأساليب مجتمعة بواحد، فخير مثال شعر محمود درويش كنموذج للتحولات التي تتسع لكل هذه الأساليب التعبيريّة، فقد بدأ من الأسلوب الحسي الذي خرج فيه من تأثير نزار قباني فيه لأنه يعتبره معلمه الأول، ومثل على ذلك قصيدة( بطاقة هوية )، حيث إعادة الصفاء الإنساني الشامل، ويتمتع بحساسية شديدة الوقع من حيث تمسكه بجذوره العميقة بعروبته، وتعينه على حيث تتميز ببنية بالغة التحديد في التنظيم المقطعي تمثل الواقع الحسي الملموس، حيث تتحول أنماط الشعرية في هذه القصيدة إلى وقائع ذوات قوام فعلي وقانوني، وتشتمل على كثافة وجودية محددة يمس العصب الوطني بفلسطينيته، والقومي في عروبته، وربما في دقائق أموره العائلية مقابل تهويد الأرض العربية في فلسطين، وتهويد إنسانها الجديد، أو المستقبل في الأقل من خلال طمس الهوية العربية في فلسطين، وتأتي تحقيقا يتسم بالكفاءة والفعالية والخصوصية لأسلوبية رائعة مثالية تقتضي نقل الحدس الشعري بجمالية وواقعية مبينة، يحمل طابع الصياغة الأنيق، وهو من أنقى ميزات شعرية المقاومة والصمود.
إذ يقول فيها :
سجل أنا عربي
ورقم بطاقتي خمسون ألف
وأطفالي ثمانية
وتاسعهم سيأتي بعد صيف
فهل تغضب
وينتقل إلى الأسلوب الذي اجتمعت فيه الحيوية والدرامية، كما هو الحال في قصيدته ( كتابة على ضوء بندقية )، وينتهى إلى أسلوب الرؤيا الشعرية الذي تمثله قصيدته (أرى ما أريد )، ويقول فيها :
أنا العاشق السيء الحظ. قلت كلاما كثيراً
وسهلا عن القمح حين يفرِّخ فينا السنونو.
وقلت نبيذ النعاس الذي لم تقله العيون
ووزعت قلبي على الطير حتى تحط وحتى تطيرا
وقلت كلاما لألعب. قلت كلاما كثيرا
عن الحب كي لا أحب، وأحمي الذي سيكون
من اليأس بين يدي
وربما تكون التجريدية تقتصر على أسلوبين فقط يتداخلان فيما بينهما هما:
الأول :التجريد الكوني الذي تتضاءل فيه درجات الإيقاع والنحويَّة إلى حدٍّ كبير، مع التزايد المدهش لدرجتي الكثافة والتشتت، ومحاولة استيعاب التجربة الوجودية الكونيّة باستخدام بعض التقنيات السيريالية والصوفيّة الدنيويّة.
الثاني : التجريد الإشراقي الذي ربما يقع على خط الاتجاه السابق معترضا إياه في سلم الدرجات الشعرية، مع التباس أوضح بالنظرة الشعرية والنزوع الصوفي الميتافيزيقي، والامتزاج بمعالم ورؤى وجودية تختلط فيها الأصوات المشتركة والرؤى الحالمة المبهمة، مع نزوع روحي بارز يعمد إلى التشتت في التراث الفلسفي بدلا من الضياع في التراث العالمي ..
ولعل الإسراف في الحداثة والمعاصرة بشكلها الشعوري الحالي، هذا الشعور الذي تحمل موادّه دلالات عميقة موروثة، قد يميل الشاعر إلى تشكيلها من جديد، فإن وجودها الظاهر في هذا التشكيل الجديد يحيل إلى موروثها بوصفه غائباً يحضر لدى المتلقي لمجرد وجوده في النص، فيشعر أو يحس بعداً أيديولوجياً، وان أهم الملامح الأسلوبيّة في شعر هذا الاسلوب كضياع القناع، والأسلوب الصوفي في شعرالصوفيين .لاحظ قول الشاعرة ختام حمودة تقول في صوفياتها :
فــارَ الْـحَـنينُ وَ وَجْــهُ الـنُّورِ مِـشْكاتي
وَاسْتَحْكَمَ الحُبُّ في قَلْـبي وَفـي ذاتِـي
قَــــدْ كـــانَ ظِــلّـكَ هَـبَّـاتٍ تُـبـارِكُـني
تَـــــرُدُّ عَـــنّــي مَــزامـيـرَ الــضَّــلالاتِ
وَقَــفْــتُ سَــيْـحَــًا بِــأَبْــوابٍ مُـغَـلَّـقَةٍ
حَـتَّـى اسْـتَـهَلَّتْ مَـغـاليقُ الْـمَـتاهاتِ
أنَّـى تَـأَمَّـلْـتَ تَــأْتِ الــرُّوحَ مُـعْـشِبَةً
فـــي كُــلِّ زاوِيَــةٍ ضَـمَّـتْ مـسـافاتي
فَـأنْـتَ وَحْــدُكَ عِـنْـدي حـينَ تَـغْمُرني
كَــأســاتُ عِــشْـقٍ وَ أوْرادٌ بِـخَـلْـواتي
وعلى الرغم من إيراد هذا التعريف للأسلوب التجريدي لم يرد تمثيل صريح له، وهذا ما يجعل تصنيف الأساليب الشعريّة التجريديّة معلقاً في الهواء، فالناقد يطرح فرضيّة جديدة لم تأخذ حقها من التطبيق فيما يتعلق بالشعر التجريدي الإشراقي. هذا ما لاحظناه في شعر قصيدة النثر أو الشعر الحر، بعد أن حل عقاله وهب قائما يتخطى كيف يشاء ويتلمس الأمور كيف ما أحب الشاعر وأراد.