لعل الرئيس الفرنسي “السياسي الشاب” -ومعنى الشاب هنا قليل الخبرة في مجال منصبه الذي انتخبه الفرنسيون له لا لإحياء زمن الحروب الصليبية وإنما لتنفيذ وعوده السياسية للفرنسيين ووعوده الاجتماعية لهم خاصة، لإخراجهم من براثن الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها أوروبا العجوز أجمعها، وترزح تحتها فرنسا بشكل خاص، نظرا لشساعة مساحتها وكثرة سكانها.
إيمانوييل ماكرون أو “مانو” كما يصر أن يسميه معارضوه وما أكثرهم، فشل فشلا ذريعا ليس في إنجاز وعوده لناخبيه فقط، بل تجلى فشله أيضا في عدم فهمه لما يتطلبه منه منصبه، وقد اصطدم بإرادة شعبه بشكل غير مسبوق في فرنسا بل وفي كل الدول الديموقراطية التي تنتخب حكامها بشكل شفاف دون تزوير وفبركة للنتائج، ليس لكونها نزيهة بل لكون ميكانيزمات الديموقراطية في مثل هذه البلدان مرت بمراحل تاريخية دموية وصلت بها إلى هذه الصيغة التي تعتبر أرقى ما وصلته الممارسة السياسية التداولية على علاتها.
إيمانوييل ماكرون هو أول رئيس فرنسي وصل إلى سدة الحكم من خلال حملة شعارات، فبرنامجه الشعبوي كما هي برامج الشعبويين الجدد فضفاضة وغير مبنية على أسس سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية واضحة، بل هي عبارة عن دغدغة لمشاعر البلد وأهل البلد الضاربة في التاريخ والممتطية صهوة أيام داحسها وغبرائها بلسان فرنسي مبين، وحشد مبين لنزعات عرقية ودينية وطائفية يراد من ورائها إحياء هوية معينة تعيد صياغة علاقاتها مع مكونها الداخلي ومحيطها الخارجي، سياسة نخبة هاوية سطحية غالبا ما تؤدي إلى أزمات إنسانية وكوارث كبيرة وحروب مدمرة خاسرة لجميع أطرافها.
إيمانوييل ماكرون هو أول رئيس منتخب في تاريخ فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية يطالب الشارع الفرنسي بإسقاطه، فقد كانت بادرة حركة السترات الصفراء بادرة خطيرة تحولت في ظرف قياسي من حركة مطلبية اجتماعية إلى حركة سياسية تطالب بإسقاط النظام على غرار الثوار العرب في ميادين تونس والقاهرة وطرابلس وصنعاء ودمشق والمنامة وغيرها، وكان أول رئيس فرنسي يُنزل الجيش بالحجم الذي رأيناه إلى الشوارع، لممارسة سادية حاكم ديكتاتوري من صنف حكام أمريكا اللاتينية في العقود السابقة أو كثير من الحكام العرب حاليا، رئيس شاب انفصل عن شباب بلاده ليجعل من نفسه إلها في قصر الإيليزيه يردد قول فرعون لملئه: إني أريكم ما أرى.
ما الذي يستطيع أن يقوم به إيمانوييل ماكرون وقد هدد الغرق ملكه وذهبت قنوات الأخبار بتهالك سلطانه؟ اللعب على الخطر الذي يهدد هوية فرنسا: الإسلام!
لن نختلف حول استعمال العنف في بلد مثل فرنسا أو غير فرنسا مهما كانت دوافعه، فوعي مسلمي الخارج قد ازداد ونما وأدرك أن معركة الإسلام في أوروبا يجب أن تدار بحكمة وثبات وصبر، وبالآليات التي سطرتها الديموقراطيات الأوروبية نفسها ومنها فرنسا لإدارة أي صراع، وباتباع الأساليب التي نهجتها أقليات دينية وعرقية أخرى قبل المسلمين في فرض ذاتها، معارك طويلة نعم، لكن نتائجها مضمونة وتأتي بأقل الخسائر الممكنة، وبغير تجريم المكون جملة وتفصيلا.
لكننا لن نختلف أيضا في غباء تاكتيك “مانو” الانتخابي السابق لميقاته المعلوم ولا نقول استراتيجيته لأنه يبدو أن لا استراتيجية له، فهو يخبط خبط عشواء لا غير. قبل أيام يطل علينا من برجه الضبابي ليتحدث عن الإسلام ويصفه بأنه يعيش أزمة، لا يتحدث عن ممارسات مسلمي فرنسا التي ربما وجد فيها ما يتناقض مع مبادئ علمانيته المهترئة لا، بل ويقفز على ذلك بعدما جمع كل مسلمي وإسلاميي فرنسا في سلة بيضه ليكسرها باستنتاجات واهية تغطية على فشل دولته في القضايا التي تهم الفرنسيين أكثر، ليوجه خطابه للدين الإسلامي الحنيف ككل، فالإسلام في نظره “المانوني” في أزمة في كل القارات وعلى صعيد كل الحضارات، ولو أنه عاد إلى إحصائيات التدين الموضوعية لعرف أن الإسلام هو أول الديانات اعتناقا في العالم وأن أشد الديانات انحسارا هي المسيحية ديانته، وإقبال الغربيين على الإسلام بما فيهم الفرنسيين -مواطنوه ذاتهم- وأقصد ذوي العيون الخضر والشعور الشراء تحديدا وليس فقط “المورو كحل الراس”. هؤلاء المعتنقون الجدد للإسلام معظمهم ينتمون إلى نخب علمية وسياسية واجتماعية متميزة جدا بحيث لا يمكنه -وأقصد مانو- أن يلصق بهم تهم الانتماء لداعش أو الإرهاب الإسلامي مثلما فعل مفتي الأزهر شوقي علام. وخير دليل قضية الفرنسية وهي الناشطة الإنسانية على مستوى عالمي مرموق، المحررة أخيرا من الرهن في مالي صوفي بترونين أو مريم كما سمت نفسها وقد اعتنقت الاسلام خلال أيام حجزها. دين يعيش أزمة لكنه يدخل قلوب العالمين بلا استئذان حتى وهم في الأسر، ليس عبر متلازمة ستوكهولهم وإنما عن طريق احتكاكها بمسلمين رغم أنهم لم يكونوا النموذج الذي يجب أن يحتذى به، فقد كانوا مختطِفين وبالتالي مجرمين، لكن الله ينصر دينه ولو على يد فاسق وظالم ومرتكب كبيرة. الفرنسية المسلمة التي أعرض عنها “مانو” في حفل استقبال رسمي بعدما أعلمته بإسلامها وقد كان يربط الإسلام ربما فقط بالعرب وذوي العمامات السود في إيران والقبعات في تركيا عدوه اللدود، وكأنها تقول له أنت الذي تعيش في أزمة، الإسلام بألف خير. مما جعل مانو في ورطة حقيقية، فقد خانه تعبيره وفضحته قسمات وجهه أمام مكون أساسي من شعبه، وأمام نسبة مهمة من ناخبيه المحتملين، شعبه الذي خرج في واضحة النهار يطالبه بترك الإسلام والمسلمين وشأنهم، والانكباب على القضايا الحقيقية التي تهم الفرنسيين كافة.
وماذا تلا ذلك يا للغرابة؟ عملية قطع رأس معلم على يد “مسلم” من أصول شيشانية، فحين يقترف الجرم فرنسي فهو فرنسي وكفى، لا فرنسي مسيحي ولا فرنسي علماني ولا هم يحزنون، أما حين يقترفها مسلم أو من يحسب على الإسلام فتُلصف به “علامة الماركة المسجلة: مسلم إرهابي”. عملية قطع رأس بإخراج هوليودي محكم والتقاط للمشهد من كل الزوايا، وبالتالي فليتنفس مانو الصعداء، هاهو “مسلم” ينقذ مشروعه بكل سذاجة.
ندين عملية قطع الرأس ولا نجد لها تبريرا أبدا، وأقول للشباب المسلم في أوروبا أنتم تتنفسون هوية إسلامية عمرها من عمر آدم عليه السلام، وتستمدون حبكم واستمراركم من نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنتم وجه حضارة إسلامية ما زالت أحجارها شامخة في وجه معاول تعرية الزمن، فلا تهزكم رسوم قبيحة ولا مجلات إيبدو رديئة ولا استفزازات أساتذة اختصروا حرية التعبير عن الرأي في السخرية من الأنبياء والاستهزاء بالديانات والقيم، يكفيكم فخرا أن تنافحوا عن دينكم بعلم وبلغة العصر، بالحجة والدعوة بالتي هي أحسن حتى يعود آباء لهب الفرنسيين إلى جحورهم، ومن يدري لعله يكون منهم سيف من سيوف الله كخالد بن الوليد الذي حارب الإسلام لسنين وأثخن قتلا في المسلمين، لكن حين لمس قلبه النور، ما كان منه إلا أن صار حامله.
وختاما لن نقف كثيرا عند تصفية مرتكب الجريمة، فقد تمت تصفية كل من قام بعمل وُصف بــ “الإرهاب الإسلامي” في أوروبا ومواقع أخرى، ومن يحفر قليلا في قاع مقرات مخابرات دولية ما سيدرك لا محالة اللعبة القذرة التي تحاك ضد الإسلام والمسلمين في أوروبا وأمريكا والعالم أسره، يكفي أن نبحث عن المستفيد من مثل هذه الجرائم، والمستفيد هنا هو الشعبوية ومانو تحديدا، فماذا كان يمكن أن ننتظر بعد حديث مانو عن الإسلام؟ وهذا السؤال يقودنا إلى سؤال أعمق: هل أصبح إيمانوييل ماكرون منظّر داعش في فرنسا ومُفتيها، ورئيس جناحه العسكري منفذ جرائمها البشعة؟!