الشعر؛ كما نعلم؛ يُعتبر أخلص صورة لتجسُّد الأدب، فهو ينقذنا من هشاشة التاريخ ومن اعتباطيته، لأن زاوية النظر التي تتخذها تدفعنا إلى اختيار بعض الوقائع البارزة وإزاحة غيرها. وهذه الهشاشة تتزايد كلما اقتربنا من الحاضر، لأن” حكم الزمن” لا يقدم لنا عونا. أما بالنسبة للمستقبل فمن البديهي أن الأمر لا يتعلق أبدا بالتاريخ، ولكن بالتخييل، وبالنبوءة وبالحدس، وهذا هو ما يفعله الشعر، عن طريق جدلية الإحلال والإزاحة التي يستشرف بها ما هو أرقى، وما هو أنسب للذات والزمان والمكان والوجود.
1- جدلية الإحلال والإزاحة:
فكل نص شعري هو بالضرورة التاريخية ظهور جديد في عالم مليء بالنصوص الشعرية والنثرية، يتبادل معها الإحلال والإزاحة في جدليات فاعلة لنسج عباءة المستقبل. ولذلك لا يتم فهم أبعاده وتشابكاته وترميزاته إلا من خلال إدخاله في شبكة من النصوص أعم وأعقد، لأنها هي التي تكون جوهره، وتشي بحدوسه، وتفتح آفاقه غير المحدودة، وتدلل على ثرائه وغناه.
2- نحو علم نص شعري جديد:
ومن هنا لا نستغرب سعي المنظومات النقدية الحديثة المهتمة بالشعر إلى تأسيس علم نص شعري جديد، ينظر إلى النص الشعري من داخله وخارجه معا، ويبرهن على ذاتيته بمضمونيته، وعلى علاقات تناصه بانسجامه والتحامه.
وعلم النص الشعري الحديث هذا تدخُل فيه فروع معرفية عديدة ومختلفة؛ منها: اللسانيات، السيميولوجيا، المنطق الحديث، سوسيولوجيا المعرفة، سيكولوجية المعرفة، الذكاء الاصطناعي، هندسة المعرفة، فكرة الجماليات. وذلك كله من أجل الإحاطة بالنص واستجلاء عوالمه، والوقوف على ينابيعه ومصادره الخفية، والإصغاء إلى حواره مع نصوص أخرى ارتبط معها بعلاقات ثقافية أو روحية أو تاريخية أو جمالية.