حاوره عبد السلام الشامخ
في كتابه “مقدمة عن توتر القرآن”، الصّادر عام 2017، يحاولُ الكاتب والمفكر المصري جمال عمر، في قراءة تجمعُ بين الفلسفة والدين والصوفية والفقه والحفْر المعرفي في التاريخ، أنْ يسلّط الضوء على علاقة المفكرين المسلمين بالمصحف الكريم عبر القرون الماضية، وكيف تعاملوا مع هذا التوتر في المصحف، متسلحاً بمناهجَ علمية رصينة تنهلُ من قراءة تاريخية نقدية للتراث الإسلامي.
وينطلقُ الكاتب والروائي المصري الذي هاجرَ إلى أمريكا من قراءات تاريخية سابقة للقرآن، سواء كانت من عندِ مفكرين مسلمين أو غربيين، مقراً بأن “هذه الجهود بيّنتْ أننا كثقافة نحتاج إلى رصد كيف تعاملنا مع المصحف عبر القرون الماضية، ليس من خلال الطريق التقليدية بأن آتي بعدد من كتب التفسير التي وصلتنا، ثم أقوم بتصنيفها وكتابة تقرير خارجي عن كل تفسير كما فعل الشيخ الذهبي أو مولانا هادي معرفة، من تصنيف تفسير بالرأي وآخر بالرواية، وتفاسير حسب المذهب الفقهي، وحسب المذهب العقيدي، وفي العصر الحديث تفسير اجتماعي وتفسير موضوعات، وتفسير لغوي وبلاغي”.
ويحاولُ جمال عمر في مؤلفه أن “يرصد الهم الفكري وراء اتجاه التفسير وإجراءاته”، مشيراً إلى أنَّ “الرصد التاريخي لهذا العمل يحتاج إلى مجهود ضخم ومؤسسات وفِرق بحث ودراسة”، وزاد: “آثرت أن أكتب مقدمة، مجرد مقدمة”.
الجزء الأول:
تستهلُّ كتابكَ الموسوم بـ”مقدمة عن توتر القرآن” بأنَّ “القرآن ككلام جذبَ العقولَ والقلوب نحوه، عبر العصور”، وتطرح سؤالاً حارقاً، “هل يعتبرُ القرآن كلامُ الله؟”..
هناكَ لبس أحيانا يقع فيه الكثير من الناس، فبالطبع عند المسلمين القرآن كله كلام الله، لكن هذا الكلام الإلهي كله لله فقط؟ بمعنى حين يرتل قارئ القرآن من سورة يوسف “إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيتُ أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين”، بالطبع هذا كلام الله يذكرُ لنا كلام يوسف، فالقرآن به الصوت الإلهي وبه صوت يوسف أيضا. وحين تمد السؤال على استقامته فتسأل هل كان يوسف عليه السلام يتكلم العربية؟ بالطبع أي متدين مسلم مهما كان متزمتا سيقول “لا”.. إذا فالكلام المذكور على لسان يوسف في القرآن هو أيضا ترجمة لكلام يوسف من لغته إلى العربية.
وحين تسألُ أليس الكلام المنسوب إلى يوسف ذاته هو تعبير يوسف وتصويره لرؤية منامية رآها؟ فهذا التعبير لطبيعة الرؤى المنامية هو مجرد محاولة للتعبير عن الرؤيا وصياغتها في صور لفظية، أي هي الأخرى ترجمة من صور منامية يراها النائم بمخيلته، فيترجمها بالألفاظ لصور تعبيرية، فكأنك تنقل من منظومة علامات إلى منظومة علامات أخرى، إذا نحن أمام عمليات ترجمة طوال الوقت، والأهم نحن أمام عمليات إعادة صياغة وتركيب طوال الوقت، ليعود الأمر إلى السؤال الذي بدأت به، هل يُعتبر القرآن كلام الله فقط؟. ولاحظ أني قلت القرآن ولم أقل المصحف.
تقول إنَّ النص لا بد أن يكون له مركز للدلالة، وبؤرة للمعنى، لكي يكون رسالة، هل هذا وارد في المصحف؟
لو أرسلت لك هذه العبارة: “سلوب إن صحو بارك اليوم منطقة”، هل هذا نص أو هذه رسالة باللغة العربية؟ قد تكون رسالة حسب شفرة وكود آخر يستخدم حروف العربية. لو عرفنا منظومات العلامات لهذه الشفرة وذلك الكود نستطيع أن نفهم معنى. وقد تكون رسالة رمزية لكننا لا نستطيع أن نفك رموزها أيضا بمجرد التعامل مع حروفها وكلماتها على أنها حروف وكلمات عربية.
لكن هذه العلامات غير دالة لأننا لا نجد لها مركز دلالة ولا بؤرة معنى. نفس هذه الكلمات السابقة لو أرسلتها لك بهذه الطريقة “إن اليوم صحو في منطقة بارك سلوب” هل لها معنى وتمثل رسالة؟ أتصور أن لها معنى وقد تكون رسالة. فيصبحُ السؤال ما الفرق بين الترتيب السابق وهذا الترتيب، رغم أنها نفس الكلمات بكاملها؟ الفرق بين الإثنين قد يكون أن لها مركز دلالة وبؤرة معنى، ما جعلها نصا ويجعلها رسالة.
وهنا يأتي الشق الثاني من سؤال هل المصحف رسالة؟ أو بالتعبير الأدق في حوارنا هنا هل المصحف نص؟ وسأجيب عن السؤال عبر سؤال، هل وردت مرويات تراثية عن أسلافنا عن أن النبي عليه السلام خرج من الغار بنص مكتوب؟ أم تروي الروايات أنه خرج وقال كلاما منطوقا ردده؟ وهذا الكلام المنطوق على مدار اثنين وعشرين عاما وخمسة أشهر تم تحويله إلى نصوص مكتوبة وتم جمع بعضها إلى بعض في وحدات أُسميت سورا، وفيما بعد جمعت بين دفتين بترتيب معين، والجمع بهذا الترتيب أسميناه مصحف.
ويصبح السؤال هل هذا المصحف كتاب؟ فالنبي عليه السلام تحدث بوحدات خطابية لها سياقات مختلفة على مدار كل هذه السنوات، وجمع وحدة خطابية لها سياق بجوار وحدة أخرى لها سياق آخر، بل يفصلهما زمن. أكيد هذا الترتيب وذلك التغيير غير في المعنى، وسيعطي معنى آخر الآن بعد جمعهما مع بعض لو تعاملنا بهذا الترتيب الذي هو ترتيب المصحف الحالي، عن المعنى من هذه الوحدات لو رتبناها حسب ترتيب نزولها. ومن هنا تصبح الرسالة المُستخرجة من ترتيب النزول ربما ستختلف مع الرسائل من ترتيب التلاوة في المصحف، أو تتفق، الله أعلم.
في مؤلفك تحاولُ الإجابة عن سؤال ما إذا كان الكلام صفة أبدية قديمة قدم ذات الله؟ أم هي صفة فعل بعد خلق الله للعالم مرتبطة بوجود الزمان والمكان؟
تطرحُ أسئلة وكأنها أمور بسيطة، وهي أسئلة لها قرون يتم تداولها ولا نهاية لقرار لها، فهي أسئلة نحاول بقدر الإمكان أن تحيط عقولنا ببعض منها.
سؤال “هل الكلام صفة قديمة قدم الذات الإلهية أو أنه مُحدث بعد خلق الله للعالم؟” واجه القدماء وله أبعاد كثيرة. من الصعب الإحاطة به هنا، لكن في إشارات: تصور أن الله مُتكلم قبل وجود العالم عارضه بعض القدماء، وخصوصا المعتزلة، فتصورهم عن الله منزه عن نقص ولأفعاله حكمة، ولكي يتكلم لا بد من وجود مُتكلِم إليه، حتى تكون للكلام حكمة؛ فكلام الله إلى غير مُخاطَب هو في نظر المعتزلة نقص، ينزهون الله عنه.. لذلك جعلوا في منظومتهم الفكرية أن الكلام فعل من الله، والأفعال مرتبطة بخلق العالم، فيصبح الكلام هنا يتم في زمان ومكان.
خصوم المعتزلة قالوا إن الله وصف نفسه بأنه متكلم وجعلوها من صفات الذات الإلهية وقديمة قدم الذات.. فحين يكلمنا الله عن “تبت يدا أبي لهب وتب” فهذا كلام الله منذ الأبد وليس نتاج التاريخ والزمن في علاقة بأبي لهب في الحجاز في القرن السابع الميلادي.. وهو بعلم الله المُسبق. والأشاعرة أمسكوا العصا من المنتصف، فقالوا إن الكلام قديم قدم الذات ككلام نفسي، لكن تجليه في ألفاظ هو مخلوق. وبالطبع التصورات الأشعرية هي التي سادت وهي التي أصبحت صحيح الدين، وهي الوسطية التي إذا أعدت النظر فيها فأنت “تطعن في المعلوم من الدين بالضرورة”، رغم أنها كانت تصورات بشرية وكانت مجرد إجابة ضمن إجابات أخرى. لكن عموما فإن “قِدم كلام الله أم كونه مخلوقا” كان سؤال القدماء، وربما يكون سؤالنا نحن في التعامل مع قضايا عصرنا كما أشار نصر أبوزيد عام ألفين علينا أن نسأل ماذا نعني حين نقول “كلام الله”؟ وهذا حديث آخر.
هل القرآن قديم قدم الذات الإلهية هو الآخر؟
نصف الإجابة على سؤالك هذا هي في إجابة سؤالك السابق، فالأمر نفسه حدث مع التصور حول القرآن كونه كلام لله، فالمعتزلة قالوا إنه مخلوق لأنه فعل في الزمن، وخصومهم قالوا إنه قديم قدم الذات الإلهية ومكتوب في اللوح المحفوظ. والأشاعرة قالوا بقدِمه ككلام نفسي ولكنه مخلوق كألفاظ منطوقة أو كنصوص مكتوبة.
لكن كان الإشكال كبيرا بين المسلمين الأوائل في جدالهم مع اللاهوت المسيحي الذي كانت له ستة قرون، ففي إطار هذا الجدل كان المجادل المسيحي الذي يدافع عن ديانته أمام الدين الجديد الغازي فيقول بتناقض المسلمين كيف يقولون عن القرآن إنه قديم لكونه كلام الله، في حين يقولون إن المسيح مخلوق مع أن القرآن يقول عنه “كلمة الله ألقاها إلى مريم”. من هنا نفهم اختيار المعتزلة لتصورهم عن خلق القرآن، لتستقيم مبادئهم الفكرية المؤسسة على العدل، فيصبح القرآن مخلوقا والمسيح مخلوقا، رغم مصدريتهما الإلهية.
وتصور قدِم القرآن مفهوم تواجهه مشكلات كثيرة، في حنايا الخطابات القرآنية المختلفة؛ فماذا سيفعل هؤلاء في “يسألونك عن الأنفال قل”، أو “لقد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها”، وكل الأسئلة التي وردت في القرآن، وتصويره لكلام المشركين ورؤى أهل الكتاب والنبي وعلاقاته مع زوجاته، وعلاقاته مع المسلمين الأوائل…الخ. في النهاية هي كلها تصورات نحن نبنيها على قراءتنا لأدلة مُدركة عندنا، وليس منا من له وسيلة لقول فصل، فلن ندخل في علم الله، لكننا نستدل عليه عبر ما هو مشهود لنا، وحسب قدراتنا الإنسانية في المعرفة.