النقــد بين اليوم والأمس ــ ذ. السعيد عبد العاطي مبارك

0
524

  قال قائل لخلف : إذا سمعت أنا بالشعر واستحسنته فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك !
فقال له خلف : إذا أخذت أنت درهماً فاستحسنته فقال لك الصراف أنه رديء ! هل ينفعك استحسانك له ؟

عندما نتأمل كلمة ” النقد ” التي تسع كافة المجالات والتخصصات في عصر العولمة .. وأرى لا بد من التعليل في الحكم لإبراز الوجهين في عملية الإبداع الفني، لا مجرد رصد وجهات نظر دون دليل قوي موضوعي منهجي علمي بعيدا عن إلصاق المذاهب والمدارس المستحدثة دون دليل واقعي يخاطب الحالة برمتها.
نمسك بهذا المصطلح النقدي من منظور أدبي، ومن ثم نسترجع معا معنى الفعل ( نقد )، أي يتناول الموضوعات بالدرس والتحليل.
وجاء في القاموس :
نقَد الشّيءَ : بيَّن حسنَه ورديئه ، أظهر عيوبه ومحاسنه.
نَقَدَ الدَّرَاهِمَ : مَيَّزَهَا ، نَظَرَ فِيهَا لِيَعْرِفَ جَيِّدَهَا مِنْ رَدِيئِهَا.
ومن الناحية النقدية الأدبية نلحظ ما فسره لنا خلف الأحمر :
قال قائل لخلف : إذا سمعت أنا بالشعر واستحسنته فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك !
فقال له خلف : إذا أخذت أنت درهماً فاستحسنته فقال لك الصراف أنه رديء ! هل ينفعك استحسانك له ؟
فقال : ما ينتهي إلى واحد يجمع عليه كما لا يجتمع على أشجع الناس وأخطب الناس، وأجمل الناس !
قال جورجي زيدان عن النقد في مجلة الهلال: أن الانتقاد يعني إبراز جوانب الاستحسان والنقص على السواء، وأن كلمة (انتقاد) ليست تعني إحصاء العيوب وحدها، ونريد من باب (الانتقاد والتقريض) كلا الجانبين.
وقد منا الله عز وجل علينا باللغة العربية وجعلها لسانا لنا، وشرفها بنزول القرآن الكريم، والأبجدية استوعبت الأسماء والمسميات كلها، وحوت تجارب الإنسان حتى مع المخترعات الحديثة اليوم .
وتنقسم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف، والكلام يهمنا هنا مع ظلال ” الأدب العربي “، بكل فنونه وأغراضه قديما وحديثا، وظهر الشعر بأنواعه، والأجناس الأخرى من قصة ومسرحية ومقال وخطابة … إلخ.
بأقسام جديدة تتمشى مع حركة الحياة وتطور اللغة والأدب، بروح الجمال التي لها دلالات مستفيضة مشرقة، فهي نتاج عقل ووجدان الإنسان على هذا الكوكب !.
وظهرت القصة والرواية والأقصوصة وقصة الومضة … والشعر فصحى وعامي وزجل وموال وموشح وقوما وكان كان ودوبيت …
وغنائي وملحمي وغزلي ومقاومة …
كلاسيكي ورومانسي وواقعي، ثم تطور من الوزن الخليلي الأرجوزة إلى الحر التفعيلة ثم إلى المنثور… وهلم جرا.
فلا نستطيع أن نسجن تجربة كل إنسان له روافده، وكل قديم كان جديدا يومه. فعلى الناقد ألا يعيش في عباءة واحدة، بل يقف على مسافة واحدة بين أجناس الأدب، وأشكال الإبداع ينظر فيه بحيادية وموضوعية، لا يغفل القديم، ولا التغريب والحضارات والثقافات تأخذ وتعطي .
لكن على كل مبدع وفنان يعشق الفنون الجميلة أن يستظل بما يروق ويجد فيه نفسه، وللمتلقي الذوق العام، والناقد بعلمية ومنهجية يبرز جوانبه العريضة حتى لا يتخلف الركب، فالألوان موجودة …
و كما يقول العقاد :
لولا تعدد الأذواق لبارت الســـــــلع !! .
فنحن نريد كلمة نقد عادلة محفزة، تضع الأمور في نصابها، فلا يهاجم صاحب اتجاه بعينه لونا آخر وتحدث معارك خارج العمل نفسه اتجاهات ومذاهب، فكم تم ذبح شاعر وأديب قديما لكن ذهب النقد المفتري عليه وخلد التراث العمل فقط .
فهذه واحدة نستطرد هنا من باب التذكرة .
فنحن لا نحتكر و لا نحتقر رأيا، بل من باب الأمان العلمية نطرح كل الزوايا وعلى الجميل أن يتناول من المائدة ويصل إلى النتائج  والفائدة في أسلوب حضاري، بعيدا عن العبثية والخصومة، فليتخصص في نوع ما ويترك ساحة الإبداع لأنها أصبحت سماء مفتوحة وسيلا جارفا لا يصغ لأحد !!.
والخلاصة : لقد قام النقد عند العرب على المنهجية والموضوعية في حياد من خلال الدربة والدراية، مع فهم وإدراك وتجرد من الميول والاتجاهات، كالقاضي الذي يحكم على قضية بعينها مستوفية الشروط والأركان، منصفا عادلا حريصا على النتائج .
لكن الناقد الأدبي تحركه المشاعر الجميلة نحو الصورة الفنية للعمل الفني الإبداعي بكافة ظلاله، وعدم إغفال البيئة المحيطة والجو النفسي، وعوامل أخري مساعدة .
فالناقد كاشف لروعة العمل الفني، يقدمه في إطار مفردات وصور وخيال، يقربه ويجسده للمتلقي المتذوق في يسر وسهولة، نقلا أمينا لا يذبح صاحبه، ولا يجامله، بل يتحرى الصدق داخل عملية التأثير والتأثر، حيث يطوف بنا عبر الثقافة والتراث وقضايا المجتمع اليومية التي تتصدر وجه الحياة في توازن بين القديم والحديث. دون إغراق في الرمزية والغموض، والمذاهب الغربية الغريبة، فيحدث صدام عند التغريب والتحديث دون وعي للعلاقات التي تواكب موكب الحياة في واقعية، تنهض بالقيم الجمالية في تباين لدلالات تأملية وفلسفية، تعكس رؤية تتصدر المشهد والمواقف التي يتفاعل معها ويترجم داخله في تواصل .
فالمخزون الحضاري والثقافي والفكري يظهر عند الكاتب المعبر عن مشاعره في قصيدة أو قصة أو مسرحية أو مقال إبداعي تنويري تتجلى فيه روعة النثر التي لا تقل عن روح الشعر بعيدا عن الوزن والقافية .
فعلى الناقد دور أساسي في إبراز هذا العمل، وتقديم المقومات الفنية الخالصة، تجسيدا معنويا وماديا في خطوط البيان البلاغي واللغة التي تستوعب تجربته الخاصة والخالصة معا .
وبعيدا عن الجدل والخصومات والتعصب لا بد من توضيح وتحليل الرؤى، والإمساك بالنقاط الجيدة والأخرى التي فيها قصور، وذلك بتقديم السبب في رسم منهجي موضوعي مقنع، بعيدا عن التعقيد وإدخال عملية الإبداع في متاهات عبثية وإسقاطية دخيلة ليس لها ثمرة مرجوة من وراء كل هذا الإجحاف .
فقد أصبح العمل الفني عند الناقد غريبا طريدا شكلا ومضمونا بين روح الأصالة والحداثة، أصابه جمود ورقود وتسلط بين الأمس واليوم، بعد أن غرق في أسماء تفقد حيثيات الشيء المسمى، دون الوصول إلى غايته النبيلة كرسالة هادفة إلى المجتمع لتغير ملامح وجه الحياة .
فعلى النقد أن يكون عاملا مساعدا، لا عنصرا هداما في إصدار الأحكام على العمل الأدبي .
وأن يعيش الأديب والكاتب عصره بكل مفرداته، فكل قديم كان حديثا في عهده، بل ينقل منه خلاصة التجارب فلا يتقوقع في مخبئه، ولا يتجرد من حداثته فيستدعي ما ليس له وجودا سرياليا مبهما خارج مسارات المنطق مجرد رص لمفردات خاوية عن التقييم والتقويم، ليس لها دلالات نصية مفيدة مجرد مصطلحات لا تخدم عملية البناء الفني مطلقا .
فالكاتب المبدع يعيش قضايا مجتمع محملا بعبق ثقافات وحضارات يستخلص منها تجارب الآخرين فيوظفها داخل الجديد، يرسم انطلاقة للمستقبل في توازن يضفي على العمل مسحة من الوفاق والواقعية بعيدا عن التفريط والعيش في عصور سحيقة لا تنفع ولا تفيد، مجرد تكرار واستعادة واستهلاك .
فعندئذ تغيب رسالة الفن للفن وللمجتمع والالتزام بسبب ثقافات عقيمة، أو الإغراق في مذاهب الغرب التي تدور حول حلقة مفرغة منعدمة القيمة هكذا !.
وعدم إغفال علاقة الأدب بقضايا المجتمع، فهو خط بياني يتلاحم مع البيئة، ربما صوتها الداخلي الذي يرصد ظواهر بعينها يعيشها الفرد والمجتمع أيضا . فيصيغها في قوالب متعددة متجددة مع روح العصر التي تواكب فترة ذاتية من رحلته مع موكب الحياة .
وعلى أية حال لا بد أن نفسر المفردات والصور البلاغية واللغة الجمالية والإيقاعات التي تحرك العواطف، وتمسك بمراحل الفكر في صور، ولوحات فنية تنبئ عن حالة الإبداع الفني بكل مقوماتها، وتغليب بعض الجوانب التي تطفو على سطح العمل الفني الإبداعي داخل الموهبة، والاستعداد والثقافة وتزاوج عناصر البناء في استثناءات تحكم صيرورة الحالة التي تلازم المبدع، فيعيش جو النص الناقد لحظات الدراسة و التحليل وفهم الشخصية وإحصاء كل الجوانب الجميلة، ومحاولة التوضيح لبعض السلبيات في إشارات لها وجاهتها في أسلوب راق مقنع منصف .
فكم من ناقد نال من مبدع في البداية، ولكن مع العطاء المستمر وجدناه مرجعا أصيلا في ساحة الأدب ومن أعلامه الآن، سواء رحل أو ما زال على قيد الحياة، لأن العمل الأدبي لا يهرم ولا يموت، بل تظل صدى روحه تعطي لكل حديث مرجعا له أصوله .
وأخيرا أتمنى أن نرتقي برسالة الأدب وفنونه الجميلة كاتبا مبدعا، وناقدا مبدعا، ومتلقيا متذوقا، مبدع عملية إبداعية مستمرة كالنهر المتدفق بلا توقف، في روح جمالية تجديدية بعيدا عن التغريب والحديث الهابط بل مواكبا، يرتقي بالكلمة والصورة في لوحة رائعة تبدو بعبقرية الإتقان، و تجنبا للخصومة والأحكام بدون موضوعية ومنهجية فيكتمل دور النقد شكلا وموضوعا وكيفا وكمّاً إضافة إلى ثقافتنا وحضارتنا وتشجيعا للمواهب الواعدة من كل الأصناف دائما.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here