قراءة في قصيدة “الراقصون على الحبال” للشاعر أحمد حضراوي – شهرزاد مسعودي

0
1088

كاتبة وناقدة من الجزائر الشقيقة:

الشعر ذلك الممكن المستحيل.. حيث المعنى والصورة يذوبان سويا في لغة ذهبت بعيدا في تمثل الحالة الشاعرية وأحرزت وجودا متلبسا ضمن بيئة اجتماعية لم تعد ترضي أهم طرف فيها.. ثمة مناخان متشاكسان يحكمان القصيدة في أشد مناطقها قلقا بحثا عن تفسير ما.. والنص محمول بلهفة الاجتياز لكل عتبات الظلم لبلوغ مستقر أكثر يقينا وأمانا..
لغة تمثلية للاضطهاد تتجه بنا إلى عبارة رائعة للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو إذ يقول: (الاضطهاد يشبه الحب إلى حدما أنه كالحب، لا يحتاج أن يكون متبادلا حتى يكون حقيقيا).
هذه الحرارة العالية للإحساس بالخواء خارج محيط الذات ما لبثت أن توغلت على سبيل اللغة الشعرية في حنايا الذات الشاعرة لأحمد حضراوي.. حتى لقد صار الجسد وطنا خالصا.. يصيبه ما يصيب الوطن من اضطهاد.
تريد أحلامه الإنسانية أن تفتك بهذا الآخر الذي يعلن سطوته وتملكه.. ويكرس سلطته ويؤسلم سيفه.. حق العيش الكريم الآمن.
من أول النص نستشف تصعيدا في القصيدة، تبدو معه الومضة الشعرية قد أحرزت مقامها المراد.. سعيا للقبض على حيثيات الاضطهاد وتفاصيله الصغيرة.. التي حولت الدمع قطرانا.. وهبطت بمنسوب الإنسانية حتى تحولت بعض الشعوب إلى ديدان همها الأسمى خبزا وماء.. واجه الشاعر مطب الحتمية في مفهوم البقاء.. الذي صار رهين الاستكانة حليف الخنوع.. في قوله: (وضميرنا في حضننا ينتابه الغثيان)، وتشبيه الشعوب بالسندان..
ذلك أن مواجهة كهذه تعني خوض مغامرة مكسورة الجناح الإيجابي.. فهي تتكئ إلى وهم لا إلى يقين.. والوهم ضروري متى استعصى بلوغ مقامات تأمن لها النفس.
إنه تحد امتطى متن اللغة وساسها لبلوغ خط التماس مع الوقائع والكلمات..
مضى أحمد حضراوي إلى تشييد عمارته اللغوية عند تخوم الشعر الوعرة، حيث خاض جدليات معقدة شملت ظواهر إنسانية بعفوية.. لنا أن نلاحظ كيف أحرزت هذه التلقائية صنع شخصيات الراقصين.. ومد حبل البهلواني الذي يفضي إلى بعدين أدبيين جسورين:
احتمال السقطات المميتة..
واستغفال جمهور الشعب..
لقد حقق بفوريته وبتدخله العفوي قصيدة ناضجة تضج حركة.. زاخرة باحتملات غرائبية تنقلها الصورة الشعرية.
ثم لا تبرح اللغة أن تتطوع للقيام بلعبتها الساحرة، فها هو الميزان يتدلى تحت الحبل.. والعدالة معلقة تحت المواطئ.. فيضعنا الشاعر حيال كيمياء الحالات المتحولة عن مواضعها الأصلية.. اللافت هنا أن الحدية قامت بمهمة الاستحواذ على الإلهام الشعري، حيث نرى الشاعر يصبح ذا فعالية، فهو ينير ويستنير.
(الموجة لا تصنع البحر لكنها تكشفه إيقاعا).
ضمن هذه الإيقاعية تتحول كلمات القصيدة إلى أشياء ملموسة تتموقع فيها، ليمنو الشعري مكسوا برنة الإيقاع.
ولا يحدث التخطي حينذاك إلا إذا حملت القصيدة هيكلها إلى مغامرة تعرضه لهبوب رياح اللامعقول.. للانعتاق والأسر.. للحلال والحرام.. فالقصيدة تصنع تمردها الذاتي ومناخها الحر لتبلغ ملكوت الحرية.
إن القصيدة النابعة من ذات شاعرية هبطت على وحيها اقتلعتنا، لا يمكن اقتلاعه عبر لغة مستكينة طافحة بالسبات الفكري..
قصيدة علمتني ألا أتعامل مع الروح الشعرية كوافدة تستجليها من مسافة محسوبة.. وتؤشر فيزتها لتخوض بيانها.. دخلتها كما أمرتني بلا دليل لأتعاطاها كأقرب ما يكون تعاطي اللاممكنات. قراءة تشابك فيها لاوعي المتلقي بإبداعية الشاعر، فتبادلا الإضاءة دون حاجة لكاشف يبيح لعدسة الروح بلوغ جدوى الضوء..
وقد منحتنا القصيدة من ذاتها مرآة لنرى ما خفي من ذواتنا.. فعليك صلاة الشعر وسلامه يا أحمد.
قصيدة الراقصون على الحبال:
ما كل ترب وردُه ريحانُ
ونسيمه الإنسانُ والأوطانُ
نمشي على وهج الإشارة لا نعي
أن الإشارة كلها قضبانُ
والصمت ينطق بالبيان لسانه
كلماته من وحيها الطغيانُ
ظهر الفساد بجلدنا كعظامنا
حتى الضمير بصبرنا جوعانُ
لو لم أكن من هاهنا  فلأي
ذنب تنتمي في كأسها الأشجانُ
أعلامنا أكفاننا ودمٌ سرى
بعروشهم مذ بيننا قد كانوا!
من جذع حَجّاج تَقطّع ظلمهم
فكأنهم لأصوله الأغصانُ
الذل مركبهم وأمْريكا لهم
دين وإيفانْكا هي الأركانُ
وشعوبهم في وهجها وضياعها
وهوانها وسلامها القربانُ
عنواننا بيت الدعارة والخنا
والمالكون البيت هم غلمانُ
الراقصون على الحبال بعزفنا
لما تدلى تحتها الميزانُ
في كل قصر بئر قبر دافق
وحديقة سرّيّةٌ تزدانُ
كم سورة للوأد تنزل بيننا
لكن جهِلْنا أنها قرآنُ !
كانت سيوف الله فتحا طيبا
فغدت بأوطاني هي الأوثانُ
الكل يحمل خنجرا متأسلما
في حده الطغيانُ والعدوانُ
ظمِئ إلى شعب جميع يقينه
ماء وخبز مثلُه الديدانُ
ظمئ إلى عرش تبدل حرفه
لا العدل ديدنه ولا الفرقانُ
هي فتنة طافت على حدثانها
يا ويحنا ما أضمر الحدثانُ !
وطن يقال بأنه أسطورة
لكنما بهتانه بهتانُ
كذبَ المداد وقد تدارك مُلكه
بالبطش كيف بدونه التيجانُ
والجور في كل الشوارع قد مشى
ليبوء في عري به العريانُ
العالم الحجريُّ ينعم صخره
وبعصرنا تتزينُ الجدرانُ
لا شعب يدرك أنه في ثورة
لا ذاك يدرك أنه الطوفانُ
يتربصان محملقين بعروة
فُكّت بموثقها لهم سيقانُ !
من هاب كيف يهاب مَن مِن خوفه
نُسجت لهم بسياطه الأيْمانُ
أعماره فنيت فكيف فناؤه
يخشى الفناء وخلْده الإيمانُ
وعروشهم محكومة فملوكنا
من عصر بيع العهد: أمْريكانُ
هم كعبة الميقات، وجهُ صلاتنا
ودعاؤنا والكف والرهبانُ
هم قدسنا والسور والمبكى الذي
يبكي عليه المسجد الغضبانُ !
حكامنا لم يذنبوا، هم حفنة
من نقمة ألقى بها الشيطانُ
في وجهنا فتفتحت أوداجنا
فتفتحت فكأنها القيعانُ
فنلومهم ونلومنا لكننا
لسنا ضحايا، إننا السندانُ
كل المطارق فوقنا وضميرنا
في حضننا ينتابه الغثيانُ !
في عالم الحيوان ألف فصيلة
وبعالم الإنسان لا إنسانُ
قابيل أسس دولة الدم وانمحى
عن عوده في لحظة غفرانُ
تتبرّأ الطعنات منه جريحة
إن عاث في أشلائها ميدانُ
تتناسل الأحزان في أحزاننا
فكأن كل وجودنا أحزانُ
من أول الدمعات نحو مناحة
في أغنيات دمعها قطرانُ
وعبورنا نحو السراط بكفهم
سبحانهم، أيامهم أكفانُ !

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here