القصيدة تجل تحت وطأة المجهول.. انطلاقة لا تحد.. إذ أنها قبض محكملتفاصيل وجودية تتكرر تحت مسميات جديدة.. وربط ناحل لواقع أفضى آليا إلى اللاإنسانية.. فلا يكاد يفصل فاصل بين الرؤية الشعرية وموضوعها.. حيث تماهت الأزمنة والأمكنة والأجناس في هيولى واحدة وهي مناهضة الظلم والتفرقة. حدث هذا ضمن لحظة اختلاج ذاتي.. فالنص عندئذ لم يعد مجرد وصف آني لحالة راهنة بقدر ما استحال تجسيما لعالم مستقل بذاته يمكن لآلاف الحالات أن تستوطنه.. فقد استقل بذاته وكسر النمطية المعهودة للنص القديم وعلا بها في هرم الحداثة بحيث بلغت القصيدة صداها الحقيقي وصارت أبعد من مجرد نص محكوم بقواعد تذهينية وتنظيرية.. إنها وعاء احتوى لحظة الشعر ودثرها بدفئه.. بعد أن كانت ضائعة في أفق لا حدود له..
لقد استولى الشاعر كنوف على اللحظة الشعرية فضبط مؤشر الحس الإبداعي بشكل يميزه عن سواه.. ويخص ملكوته بأنحاء جمالية تبدأ عنده وتنتهي بنصه.. لم يحدث في النص انحناء يكسر احتمالات المتعة، فالتواصل مع المتلقي حقق رغبته مع النص طواعية.. وتمضي القصيدة إلى الوعي الشعري على هواها.. لا منظم لسيرورة انفعالاتها.. لا رقيب يحد أقاليمها.. إنها وحدها من تحث خطاها نحو عرشها.. الشاعر في نصه يقتص من خواء الانحاء من الإنسانية.. وتكدسها بمعان أعيد تدويرها فظلت هجينة..
يلتقط النص كل صورة عن تواطئ الضمائر.. عن جنون الحوافر.. ويعرض حلول انتقائية.. إذ ربما أفلحت مرايا الماضي في الإفصاح عن هوية الحاضر..
ها هو الشاعر يواصل ارتقاءه نحو التحدر الإنساني بعد أن تماهى في كل شخصية مضطهدة.. وهنا نقع على تمثل عجيب للحالة القابيلية حيث ينسكب الإنسان في لعنة الطين وثقله.. وتضيق مساحة الروح.. يريد الشاعر الإنسان روحا شفيفا لا تندك تحت وطأة الجسد.. يحط طائرا فوق كتفي كل مكلوم.. ويمتد فضاء جناحات..
وهكذا ينفث الشاعر ندى المعنى.. وئيدا.. ويحول الأحداث كينونة لغوية أحرزت بجدارة القدرة على دخول اللامتناهي.. متماهيا مع الزمان والمكان.. ما دام ثمة إنسان يناهض الظلم.. وتبقى قصيدته بحق كمشة لغة ذكية مفتوحة على الآفاق كلها.. فعليك صلاة الشعر وسلامه أستاذنا.