عبد الرحمن والبحر، حالة الشخصية وتحولات المكان في رواية “عبد الرحمن والبحر لخالد حاجي – د. محمد دخيسي

0
514
الصورة البارزة
تقديم: تندرج هذه الدراسة ضمن التحليل المقطعي الذي يُكسب الخطابَ الروائي أفقا جديدا انطلاقا من محدِّدٍ مسبَق. ولعل قراءة العمل المقترح حاليا وهو (عبد الرحمن والبحر) ضمن هذا السياق؛ يجعلنا ندرك سر الربط بين مكونين مختلفين من حيث الجنسُ والوظيفة:  عبد الرحمن من جهة= إنسان + وظيفة تعمير الأرض و..  ثم البحر من جهة أخرى=  طبيعة + الاستجمام+ و… ولا يمكن طبعا تأويل هذه العلاقة وترقب أفق انتظار معين دون التوغل في ملكوت الرواية، وتتبع مسيرتها وسلسلتها الحكائية، كما أن التأويل ذاته يخضع لإدراكات سياقية ووظيفية ترغم القارئ استجلاءها انطلاقا من مفاهيم واقعية واجتماعية تشير عبر مقوماتها وقيمها إلى معادلات موضوعية تكون مسبقة طبعا في ذهن المبدع. لذلك ارتأينا التعامل مع رواية “عبد الرحمن والبحر” باعتماد الجانب الخطي أولا باستدراج الحكاية وعناصرها؛ ثم استغلال طاقة التركيب والاستنتاج لتأويل شخصية عبد الرحمن ورمزها من ناحية أخرى. وإدراج فضاء المكان العام (الدوار- المدينة- البلد..) والفضاء الخاص (البحر) ضمن سياق النص الروائي، ووفق تطورات الشخصية الرئيسية. ويعد وصف الخطاب الروائي أحد الروائز التي تؤمن الخط الرابط بين المبدع والمتلقي، وقد ألهمنا الروائي “خالد حاجي” إمكانية ترتيب روايته وفق خط عمودي؛ تنبع إحدى مرتكزاته من عتبة العنوان، وتركز الثانية على أهم لحظاته الحكي داخل النص الروائي. وحتى نكون عند أفق التحليل المتكامل، لا بد أن نخضع هذا الخطاب إلى تأويل مباشر لأهم مضامينه ودلالاته. لذلك اعتمدنا قراءة العنوان من الجانبين اللذين سبق ذكرهما وهما: أولا: مؤشرا العنوان، وروابطهما الموضوعية داخل النص. ثانيا: دلالة كل مؤشر وعلاقته بالسياق العام للنص. وقد اخترنا صيغة المثنى في تحديد المؤشر، وذلك بالعودة إلى العنصرين المذكورين: (عبد الرحمن – والبحر)؛ مؤشر مكاني (فضاء) ومؤشر شخصي (البطل). 1- عبد الرحمن: الشخصية وعلاقتها بالآخر قبل البدء في تتبع نمو شخصية عبد الرحمن في الرواية في علاقتها ببعض الشخصيات الأخرى، لا بد من تسجيل بعض الملاحظات الأولية: أولا: أبعاد اسمِ عبد الرحمن في الثقافة العربية عامة والثقافة المغربية خصوصا، فتجدر الإشارة إلى كون القارئ يمكنه أن يؤوله قبل بدء قراءة المتن؛ إذاك قد يعطيه بعدا دينيا عاما، أو بعدا تاريخيا (عبد الرحمن الداخل “صقر قريش” مثلا)، أو بعدا شعبيا (عبد الرحمن المجذوب على سبيل المثال)… ثانيا: اعتبار عبد الرحمن في الرواية هو نفسه عبد الرحمن المجذوب، لكن في مرحلة متقدمة من عمره، أو ما بعد وفاته. على اعتباره يمثل نموذجا للبطل الثوري في حالته النموذجية المعروف بها؛ أي الانطواء والعزلة عن البشر. لذلك اختار خالد حاجي أن ينقلنا إلى صورة أكثر دقة من حياة ما بعد حياة المجذوب، واستطاع أن يؤرخ لماهية الشخصية من حيث احتواؤها لنماذجَ بشريةٍ مختلفة. في محورنا هذا، سنعمد إلى تتبع أفقي للشخصيات التي التقى بها عبد الرحمن “المجذوب” بعد فك عزلته عن البشر. وفي الوقت ذاته سنكون مرغمين على استبطان ذاته والكشف عن تأويل كل حالة منفردة عن الأخرى.
  • اللقاء الأول: النزول إلى مضمار الحياة عبر بوابة المدينة المنكوبة
بدأ اللقاء الأول بالمدينة التي غاب عنها مدة طويلة، وبدأ استغرابه وتفاجؤه لمستوى الدمار الذي لحقها من جهة وإهمال المسؤولين من جهة أخرى، لذلك أصدر رأيه أمام الملإ بقوله :”أهذه دولتكم التي بنيتم إن كانت الدول مثل دولتكم هذه فحسب، فما أسهل أن أؤسس لدولة أنا كذلك!”[1] وقد اعتبرت هذه العبارة “لازمة” خلال الرواية كاملة، وصارت تأشيرة عبد الرحمن للمرور من سلطة الذات إلى سلطة الواقع. 1-2- اللقاء الثاني: العجوز الراعي. يعود السبب الأول لاكتشاف صلة عبد الرحمن بالناس، إلى محاولته فك لغز الآخر انطلاقا من فك عزلته التي أجبرته على زهد الناس ومخالطتهم. وقد تمكن في بداية الرواية أن يحافظ على توازنه الاجتماعي، وأن يعبر عن امتلاكه القدرة على التخاطب والمحاورة، انطلاقا من اختبار ثان مع العجوز. يقول الكاتب في بداية اللقاء :”سمع عبد الرحمن مأمأة قطيع؛ أيقن أنه يقترب من عالم الإنسان. بالفعل لم يمض عليه وقت طويل حتى صادف أول آدمي بعد سنوات الصوم عن الكلام.”[2] وبالفعل تمكن من انتشال ذاته من سلطة الإبحار في الذات، إلى مأزق الإبحار في محيط المجتمع بتناقضاته. لكن وبما أن الخط الخطاب الروائي عند خالد حاجي يتسم بالتماسك والخيط المتدرج كما سيأتي ذكره، فإن عبد الرحمن سينجح في أول مهمة رسمية له؛ حيث :”بدا (عبد الرحمن) وكأنه صار شغوفا بالخروج إلى بر الكلام بعد سنوات الإبحار في محيط الصمت.”[3] كما سبق الذكر يصعب الفصل بين عنصري العنوان، لذلك نلاحظ أن الكاتب يقرن دوما بين شخص عبد الرحمن وفضاء البحر، باعتبار عبد الرحمن حبيسَ بحر ذاته في محاولة الغوص في عباب بحر المجتمع. 1-3- اللقاء الثالث: الملأ في انتظار فك العزلة. بعد إخبار العجوز عبدَ الرحمن بكارثة الزلزال الذي ضرب المدينة التي كان ينوي قصدها، صادف في طريقه جماعة من الناس تنتظر إصلاح القنطرة المؤدية إلى المدينة المنكوبة. والنقطة المشتركة بين اللقاء الأول والثاني تكمن في ثلاث نقط أساسية: إلقاء التحية الحديث والحوار (الحديث عن زلزال المدينة، آثاره، غياب مفهوم الدولة..  مشاركة في أكل وشرب (شاي، خبز، زيتون..) والملاحظة الثانية التي تثير انتباه القارئ، هي محاولة الكاتب تأكيد خروج عبد الرحمن من بؤرة الصمت والتقوقع حول الذات، من خلال حديث الآخر لعبد الرحمن أولا ومحاورته بطلاقة ، وإحساسه كونه إنسانا عاديا دون شعور بنقص أو بنعت الآخر له بالمجذوب أو الأحمق من جهة، والاستشهاد بقولته السابقة من جهة ثانية؛ وهو الدافع الأساس الذي سيكون نبرة تحفيزية للتدخل والدخول إلى مضمار الحياة من بابها الواسع. 1- 4- اللقاء الرابع: بداية التحدي حين يتعلق الأمر بشخص عادٍ؛ تكون جل اللقاءات التي اعترضت طريق عبد الرحمن عادية، لكن ما دام الأمر يتعلق بفك عزلة ومحاولة عيش على غرار الباقي؛ فإن اختياره التأقلم مع الناس ذا طابع تحديٍّ، لأنه يعكس روح الاندماج، ومدى مصاحبة الناس وتحقيق الذات. لذلك فقد بدأت تعترض عبد الرحمن مشاكلُ لم يسبق له أن عاشها. من ذلك مثلا نذكر ما تعرض له خلال لقائه الرابع بجماعة اتهمته بالزنديق، كونه صلى العصر في مسجد القرية، وأراد أن يصلي معهم حين لاحظ تواجدهم في مكان منعزل بعيدا عن جماعة المسجد. إذ ذاك تلقى ضربا مبرحا جعله يتعرف على “الحاج سليمان” وابنيه الذِين أخذوه إلى منزلهم وعاملوه معاملة جعلته ينسى ما اعترضه، وجعلته يحقق اندماجا لا مثيل له مع كل أهل الدوار. فلم يستطيعوا فراقه بعد مدة غير قصيرة (أسبوع) استطاع أن يبرهن لهم أنه يملك قوة فكر وسلطة تعبير وسرعة بديهة. واللافت للنظر خلال هذه الفترة من لحظات تواجده في حضرة الحاج سليمان وباقي أفراد القبيلة، ما سمعه من استشهاد فقيههم بقول الأحمق بقوله: “والله لقد أحسن الأحمق في وصف حال الأمة حيث قال: إنه قادر على تأسيس دولة إن كانت الدول تبنى بهذه السهولة.”[4] 1-5- اللقاء الخامس: دخول المدينة بصراعاتها وتناقضاتها لن نديم النظر طويلا في بعض متفرقات اللقاءات عبر الحافلة، أو بعض مشاهداته للشباب المختلي في غياهب الغابة؛ لكن نقف عند نقطة التحول التي جعلت عبد الرحمن يغير من فهمه الحقائق، ويرتبط بكل ثقله بحال المدينة وأحوالها. إذ الانتقال من الأجواء المرتبطة بالقرى والدواوير والمدن الصغيرة، إلى المدينة الكبيرة التي يختلط فيها الحابل بالنابل والتي تعرف تطبيق المثل :”إما جهدك أو جلدك”[5]. وفعلا سيحدث الطارئ الذي يغير كل المفاهيم: العدل- الأمن- الحقيقة – النفاق الاجتماعي .. يبدأ المنعطف الخطير في رواية عبد الرحمن والبحر في الصفحة (72) حيث يخاطب عبد الرحمن رجلا أشعث بقوله :”الملك لله، الملك لله؛ فسدت أخلاق العباد ولا من مصلح أو مخلص؛ انتظر السقوط انتظر الانهيار ” إذ سيكون الرجل أحد منغصي حياته، كونه مخبرا أولا وملاحقا له في جل تحركاته حتى يدخله السجن ويكون نفسه المحقق معه ثانيا. والمخبر ذاته سيكون محط سخط وضرب من لدن طفل خلال تدشين لأحدى المنشآت؛ فهروب عبد الرحمن عبر أزقة المدينة ومحاصرة الشرطة لكل المداخل والمخارج. 1-6- اللقاء السادس: الحسم في الأمور مع الشاب “نوفل” تشهد بعض لحظات لقاء عبد الرحمن بالشاب (نوفل) الذي أنقذه من بطش الشرطة، إحدى النقط الفاصلة في حياة بطلنا. لذلك استطاع أن يتكيف مع الشاب بالرغم من الفرق الفاصل بينهما في السن والتجربة في الحياة والمهام المنوطة بكل واحد. فالشاب رجل تعليم يائس من الحياة، باحث عن فجوة يستغلها للهروب من واقعه، محب للموسيقى الفرنسية. والغريب هنا اكتشافنا ولع عبد الرحمن بالموسيقى ذاتها، كما أنه سيعلن أول مرة جهرا أمام نوفل أنه صاحب القولة التي استشهد بها أحد المشاركين في برنامج تلفزي. كما أنه سيغادر أرض الوطن في اتجاه مجهول دون سابق إنذار مساهما مع شباب الهجرة السرية، والغريب أيضا هو نجاته من غرق محتم عكس كل أعضاء المركب ومن ضمنهم نوفل. 1-7- اللقاء السابع: “روزانجيلا” الشابة المفتونة بعبد الرحمن بعد علاج دام أياما، وتعرفه على الفتاة الشقراء في بلاد المهجر؛ استطاع عبد الرحمن أن يندمج في حياة جديدة غير متوقعة أيضا. وقد أرخ لروح صديقه الشاب الذي فقده في عرض البحر بابن له سماه نوفل؛ ليكون خليفته بعد حياة طويلة. يقول عبد الرحمن مخاطبا روزانجيلا :”سأتعهدك يا نوفلي بالسقي حتى تنبت فتشتد ساقاك… سأعلمك أول ما أعلمك السباحة..وتنفث فيك أمك من حداثتها ما يخصك من عجزي ووهني.. أتعدينني يا روزانجيلا أن تعينينني على أن أورث نوفل ما علمتني إياه سنوات الخلوة في الجبل وأن تنفخي فيه من حداثة سنك..؟”[6] تركيب: حين ننتقل من الجانب الخطي إلى الجانب المتعمق في العمل الإبداعي، نكون أمام خيارين: أولهما: اختيار نمط معين في النص والعمل عليه لاستنتاج أهم مكوناته وخصوصياته. وقد كان من الممكن الاشتغال على الشخصية والفضاء المكاني، واعتمادهما مرتكزين أساسيين لتحليل العملية الإبداعية والنسج القصصي. لكن يقف أمامنا حاجزُ تجزيء دراستنا من خلال تقسيم العنوان كما سبق الذكر في أول المقام. لذلك يصعب علينا أن نشق طريق البحث في مجال لم يتم التطرق له (البحر / الفضاء المكاني). ثانيهما: هو الأساس المعتمد في دراستنا، إذ يُبنى على “الحلقات السردية” التي تتبعناها خطيا، لنصل إلى اختزال الزمن وتحديد خصوصيات شخصية عبد الرحمن بعيدا عن شقه الثاني (البحر). وهنا سنكون أمام انحراف للنص، أو تحريف لمكوناته، لأن عبد الرحمن جاء مقرونا بالبحر في العنوان، وقد كان ملازما له في كل لحظات حياته. لكن منطلقنا كان هو الواقع الذي عاشه: الواقع الحقيقي /الخلوة، والواقع المتخيل / ما بعد الخلوة ومحاولة الاندماج. لذلك فتأويلنا لشخص عبد الرحمن ينبثق من كون الزمن فاقدا لتسلسله في النص، باعتبار عبد الرحمن (المتوفي) حاضرا في مكونات السرد القصصي؛ بأبعاده الوجودية /الواقع، وأبعاده المتخيلة /ما وراء الواقع. والتوازن بين الشخصية والحدث في النص يخلق علاقة متوازنة  بين شخصية عبد الرحمن من خلال علاقات اجتماعية متدرجة من الأقل عددا وأهمية إلى أكثرها قيمة وقوة اجتماعية. وقد سبق الكشف عن هذا التدرج من خلال اللقاءات المتراكمة التي أحدثها النسج القصصي.. وقد استطاع عبد الرحمن أن يكشف ذاته للمجتمع من خلال “قولة بسيطة” استأثرت باهتمام الكل، وبفضل ورعه وتقواه الذي أنزله للواقع ومارسه بكل قواه النفسية والاجتماعية، وبفضل تجربته لوقائع الظلم والاستبداد والسلطة وما ترتب عنه من فرار جل الشباب إلى ما وراء البحر، مغامرته التي أثمرت حياة جديدة غير متوقعة، ولا توضع في حسبان القارئ أو المتتبع. إذن هل يمكن القول إننا قمنا بتلخيص الرواية فغي شقها الأول المتعلق بالشخصية الرئيسية؟ بغض النظر عن التقسيم الذي اعتمده الكاتب خالد حاجي لفقرات الرواية (24 فقرة أو فصلا)، فإننا مجبرون على تقديم الأبعاد الموضوعاتية للعمل من خلال شخصية عبد الرحمن الذي استطاع أن يقوِّم حالة المجتمع في قولته المشهورة، وتمكن من فرض أولوياته الدينية والاجتماعية على كل من التقى بهم. لذلك نستطيع التأكيد “أنه حالة اجتماعية مركبة” معقود عليه الأمل من أجل إعادة ترتيب المجتمع، لكن ليس من الخارج (الابتعاد عن الوطن)، بل بخلق الرابط المهيمن وهو “نوفل” القادم من أجل إثبات الذات وأحقية كل فرد في فرض أسس التغيير والحياة السليمين. 2- الفضاء المكاني، علاقة الشخصية الرئيسية بتحولات المكان.  ننتقل في الشق الثاني من العنوان (البحر) من واقع عبد الرحمن الذي عاش فيه، إلى واقع النص. أي اعتبار عبد الرحمن الذي عاش كما تتبعنا سالفا حلقات متسلسلة مع وقائع معينة، إلى واقع النص الذي خلقه العنوان (عبد الرحمن والبحر). ومن الوقائع الطبيعية التي ميزت مسير عبد الرحمن إلى الوقائع المتخيلة كما سردها خالد حاجي، واكتشف عبد الرحمن مفارقاتها النصية والواقعية. كما سبقت الإشارة في العنصر الأول، استطاع خالد حاجي التدرج في بناء شخصية الرواية وعلاقاته بباقي الشخوص الذين التقى بهم في خضم مواجهاته ومقابلاته ومحادثاته. ونقف الآن عند عنصر الفضاء المكاني الذي يشكل سؤال النص ونص السؤال في الوقت ذاته: نقصد بسؤال النص تحويل الفضاء المكاني في رواية (عبد الرحمن والبحر) إلى سؤال. يقول في بداية النص :”كانت حياته النفسية بحرا متلاطمة أمواجه، مدُّه التعب وجزرُه الخوف، تعب من الحاضر الموجود، وخوف من المجهول المفقود.”[7] على أن السؤال الذي وهَّج حالتـَه النفسية تحوَّل إلى قضية أساسية حين وصوله إلى آخر المطاف ومحاولته غرس نبض الحياة في ما وراء البحر من الجهة الأخرى (الشمالية) في ابنه “نوفل” ومن ثمة نص السؤال الذي يمكن أن نصوغه بقولنا: هل سيستطيع نوفل أن يغوص في بحر لاطمت أمواجـُه حياة عبد الرحمن ليعود إلى بلده بنبض جديد؟ بيد أن الرابط الحقيقي الذي استطاع أن يبنيه خالد حاجي في روايته يعود إلى أمرين اثنين: أولهما: الفضاء المكاني عامة. ثانيهما: البحر. وسنعمد هنا إلى تتبع أفقي في مرحلة أولى دون الدخول في مجريات الأحداث على أن نصوغ تركيبا موازيا لشخص عبد الرحمن وعلاقته الحقيقية والتخييلية بالمكان. 2-1- الانتقال المكاني: البحر بين التدرج والتوهج. اعتمد الكاتب خالد حاجي في روايته (عبد الرحمن والبحر) على خصوصية البحر من حيث مكوناته المادية والمعنوية. والملاحظ أنه تعامل مع هذا المكون من خلال استغلاله “بوصلة” للمرور والتوجه والعبور والوصول. المرحلة الأولى: البحر الانفتاح على العالم. استهل خطته هاته بالتركيز على التوجه صوب البحر :”هرول في الظلام حتى بلغ الفج الذي اعتاد أن يطل منه على البحر قبل أن ينزل باتجاه المدينة.”[8] ويقصد بالمدينة هنا المكان الذي أصابه الزلزال فجعله دمارا وخرابا، مما أثمر معه المثل السائر الذي جعل الناس تردده في كل لحظة :” :”أهذه دولتكم التي بـَنـَيـْتـُمْ إن كانت الدول مثل دولتكم هذه فحسب، فما أسهل أن أؤسس لدولة أنا كذلك!”[9] ثم بعد ذلك يخرج ثانية في اتجاه الشرق، إذ: “وجد نفسه يتوجه شرقا، يسلك ممرا يطل على البحر.”[10] ثم بعد ذلك يسلك “مريرة”: “وسط الجبال المطلة على البحر”[11] حيث سيصل إلى أول مكان يعتقده أكثر عمرانا وأكثر جدة من سابقيه. وهنا ستبدأ مغامرة عبد الرحمن مع الإنسان الذي سيغريه وجوده إلى جنب البحر بالكلام، لكن الأمل انقطع بانقطاع أواصر الحديث مع الشيخ الصياد الذي فضل عدم الاسترسال في الكلام. لذلك وجد عبد الرحمن نفسه مرغما على دخول أول دوار، ومنه إلى أول سوق عامر أيضا، وهو السوق الذي يتوسط الدوار والبحر.[12] ما يمكن تسجيله حول المرحلة الأولى من محاولات اندماج عبد الرحمن مع الإنسان، ومرافقته البحر في تجواله؛ هو كونه موافقا لحالته النفسية، ولتقدمه في الاندماج والعودة إلى الحياة دون مشاكل تذكر. المرحلة الثانية: فقدان البحر وانغلاق الحياة. لقد قررنا تقسيم رحلات عبد الرحمن إلى مراحل تستلهم خصوصيتها من خلال درجة تعامله مع البحر، ومحاولات اندماجه. فكانت بذلك المرحلة الثانية أكثر أهمية من حيث الانتقال إلى فضاءات أكثر اتساعا، ثم تعرضه لعوائق أثارت غيظه وجعلته يتعرف أكثر على مشاكل الحياة اليومية. وأول ملاحظة أثارها الكاتب هو افتقاد عبد الرحمن البحر عند دخوله الدوار الأكثر اتساعا: “مشى عبد الرحمن حتى جاوز الجبل وأصبح يطل على دوار أكبر من الدوار الذي غادره. انجلى أمام عينيه أفق آخر. افتقد منظر البحر..”[13] وبافتقاده البحر ودخوله عالم البنايات والمداخل والمخارج وغيرها، حاصرت عبد الرحمن أولى عوارض الاندماج مع جماعة المصلين (المنفصلين) عن الجماعات الموجودة في المسجد. مما جعله يخرج بعد أسبوع قضاه صحبة الحاج سليمان. والخروج هذه المرة كان صوب المدينة، حيث حاول الابتعاد عن فوضى المدينة باللجوء إلى فضاء أوسع وأرحب: “كان عبد الرحمن أينما أدار البصر ساءت في عينيه مناظر هذه الأرجاء؛ لذلك أسرع الخطو حتى بلغ تلاًّ خارج المدينة يطل على البحر.”[14] وهذا ما جعله يلجأ إلى البحر وفضائه المريح كل مرة وجد نفسه باحثا عن الأمن والأمان. والعكس صحيح: “وكم زاد إحساسه بالحزن واليأس منظر الطريق وهي تبتعد عن البحر لتوغل في البر.”[15] وقد كانت هذه الحلقة بداية المشاكل المتعلقة بالاعتقال والسجن والظلم والتمرد وبؤس الطفولة وغليان الواقع والنفاق الاجتماعي وغيرها. ومن ثمة استطاع الكاتب أن يقرن بين حظيرة الإنسان داخل المدينة بمكوناتها البنيوية والإنسانية وفوضاها ومشاكلها، في مقابل فضاء البحر الدافع إلى الأمن المنير لطريق الأمان والسلام. المرحلة الثالثة: البحر الخلاص. لم يكن في حسبان عبد الرحمن اللجوء إلى البحر باعتباره مصدرا للخلاص من الحياة داخل الوطن. لكن تعرفه إلى نوفل وشباب المدينة الباحثين على “الهجرة السرية” التي تؤمن مستقبلهم، جعله يتخلى عن مبادئه الأولية، ويحاول الاندماج في حياة ما وراء البحر. فأصبح البحر في لحظات ما قبل غرق الزورق إلى فضاء غريب مليء بالكوابيس والأخطار: “سننتظر إشارة ضوئية تأتينا من الجرف، من هناك، قبل أن نشغل المحرك. إذا خلا لنا الطريق، سنصل البر في أقل من أربع ساعات. أما إذا كانت هناك مراقبة، فسنلبد في وسط البحر حتى نتيقن من سلامة الطريق ثانية..”[16] كان هذا آخر خطاب يوجه من قبل قائد الزورق إلى الراكبين، وكان آخر لقاء لعبد الرحمن مع نوفل ومع محيط وطنه، لينتقل إلى حياة ما وراء البحر مع روزانجيلا التي أنقذته من مشاكل الإقامة بتقديمها طلب الزواج منه حتى تؤمن حياته واستقراره. أخيرا استطاع عبد الرحمن عقد اتفاق مع زوجته للإلمام بمشكل الهوية عنده، ثم الانتقال إلى تتميم مخططه الرامي إلى دمج ابنهما (نوفل) في وطنه الأصل، وأن تنخرط معه من أجل اندماجه في محيط شعبه ووطنه. لذلك خاطبها أخيرا بقوله: “حبيبتي، من ينبو به وطنه مثلي، فلن يرتوي، ولو شرب ماء هذا البحر كله.. قد يروي نوفل عطشي.. لقد بعثرني الزمان، وما يدريك، فقد يجمعني نوفل.. قد يخلصني من حيرتي ويمحو آثار جراحي.. أتعدينني يا روزانجيلا أن تعينينني على أن أورث نوفل ما علمتني إياه سنوات الخلوة في الجبل وأن تنفخي فيه حداثة سنك..؟”[17] تركيب: من أجل لم عناصر التحليل السابق، نتدرج مع بعض مكونات شخصية عبد الرحمن في علاقتها بفضائها المكان العام (الدوار – المدينة- البلد..)، والفضاء الخاص (البحر).. وهذا الاستدراج يحقق مبدأ التكامل من جهة ومبدأ التواصل من جهة أخرى. فيتحقق التكامل من خلال انتقال شخص عبد الرحمن من حالة الخلوة، إلى الاندماج الجزئي مع أهل مدينته والدواوير المجاورة ومنها إلى المدينة ثم الانتقال إلى بلد المهجر ما وراء البحر. أما التواصل فقد تحقق عبر علاقته بأفراد مجتمعه منفردين أو مجتمعين، وخلق التواصل الفعلي والفعال مع كل من التحق بهم في حياته. فعبد الرحمن الإنسان الذي يريد التخلص من خلوته ينتقل عبر طريق البحر إلى المدينة المجاورة ويترك بصمته عبر قولته المثل.. ثم ينتقل عبد الرحمن إلى أماكن منوعة ومختلفة وأكثر شساعة وكلما حضر البحر كان الأمن، وبغيابه تنعدم أواصر العلاقة وبواطن الأمان. لينتقل أخيرا إلى حالة البحث عن الخلاص عبر البحر قسرا، ويجعله بداية التوافق مع حياة ابنه؛ خليفته وأمله في الحياة. –  خالد حاجي: عبد الرحمن والبحر، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء- المغرب، لبنان بيروت، ط- 1، 2010، ص- 13.[1]  المصدر نفسه، ص- 20- [2] – نفسه، ص- 21.[3] – المصدر نفسه، ص- 47.[4] –  المصدر نفسه: ص- 57 (سيأتي ذكر تحولات المكان من الضيق إلى الواسع عبر فضاءات المحور اللاحق)[5] – المصدر نفسه، ص- 160.[6] – عبد الرحمن والبحر: خالد حجي، ص- 7.[7] – المصدر نفسه، ص- 12.[8] –  المصدر نفسه، ص- 13.[9] – نفسه، ص- 16. [10] – نفسه، ص- 26.[11] – نفسه، ص- 28.[12] – نفسه، ص- 36[13] – المصدر نفسه، ص- 59.[14] – نفسه، ص- 65.[15] – نفسه، ص- 41.[16] – المصدر نفسه، ص- 160.[17]

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here