هذه قراءة في قصيدة God – Forgotten للشاعر”توماس هاردي”
( ت.1928)، ترجمة بروفيسور “Shaker Radhi” والتي وصفها البروفيسور بأنها مثيرة للجدل وقال فيها:
أكثر الناس يتمنون ان تتاح لهم الفرصة ليشكوا حالهم الى الله سبحانه وتعالى. وما الأدعية الا نوع من أنواع المناجاة التي يتوسل فيها المرء الى خالقه طالباً الرحمة والمغفرة أو الشفاء من مرض أو الخروج من محنة قبل أيام ذكّرني الصديق Abbas Alkabbi وهو من طلابي السابقين في كلية اللغات بقصيدة نسي هو عنوانها وحاولت أن أتذكرها ولم أستطع لكن الصديق الأستاذ فريد قزازي Fareed Kazzazi ذكرني بها فعدت اليها لأجد فيها موضوعاً مهما وحساساً قد يراه البعض تجاوزاً لكن حين نغوص في سطورها سنكتشف هول ما نمر به. ويوحي العنوان بأن الله نسينا ونسي هذا الكوكب ومن عليه من البشر ولكننا حين نقرأ قد نكون نحن من نسي الله ، فضعنا . مسألة محيرة. أرتأيت أن أترجم مقاطع منها، ربما تعيد لنا شيء مما فقدناه وقد نستنزل بذلك الرحمة، لا أعرف. أرجو أن لا تفهم القصيده بنوع من التحسس فنحن نحاول ان ندرس رؤى الشعراء الذين ” يتبعهم الغاوون”.
القصيدة:
حلقت بعيداً، وإذا بي أقف
في حضرة العلي القدير
أرسلني أبناء الأرض
عليّ أحظى بأجابة على توسلاتهم
” تقول، الأرض؟ العنصر البشري؟
أنا خلقتها؟ مصيرها بائس؟
كلا: لأ أتذكر مكاناً كهذا
لم أخلق عالماً مثل هذا”
مولاي، سامحني أن قلت
إنك أنت الذي نطقت بالكلمة، وخلقت كل شيء
– ” أرض البشر- دعني أتذكر….ها اي نعم
بالكاد أتذكر
” كوكب ضئيل بنيته منذ زمن طويل
( وسط ملايين من شبيهاته التي خلقتها)
أهذا هو إسمها…لابد وأن تكون قد فنيت ولم يبق منها حطام أو علامة؟”
– ” مولاي، مازالت موحوده”
” مظلمة إذن حياتها! لا أسمع الآن صرخة تصدر عنها البتة
وقد تقطعت الخيوط التي كانت تسمعني شكواها بما أقترفت من أفعال
كانت تطلب الكثير من عطايا الخير
حتى قطعت عنها بما فعلت
حين تلى ذلك صمت مفاجيء على ذلك الجانب
وساد حتى هذه اللحظة
كل الكواكب حافظت على الأتصال
وكانت نداءاتها تصلني بسرعة
لقد أفرط قومك في قطعها عني
وانت تقول أنها مكلومة بالآلام
والصراع والمعاناة الصامتة؟
إنه ليحزنني أن يقع الأذى
على شيء بائس كهذه الأرض
” أيها الرسل، ضعوا نهاية في الحال
لما يعاني منه البشر
وحين عدت الى المنزل عند الفجر،
ظننت أني سأرى أحد الرسل يقف الى جانبي
يالها من فكرة صبيانية ، لكنها كثيرا ما راودتني
نبدأ اول ما نبدأ بهذه الآيات الكريمة:
“.. ولا يضل ربي ولا ينسى.. ” ٥٢ سورة طه.
“.. وما كان ربك نسيا..” ٦٤ سورة مريم.
“ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون” ١٩ سورة الحشر.
” وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا.. ” ٣٤ الجاثية.
قد يستغرب القارئ أنني بدأت بآيات من القران الكريم في مناقشتي لأبيات من قصيدة “توماس هاردي” – God – forgotten ولكن لدي أسبابي التي سأذكرها تباعا.
من خلال قراءتي للآيات التي أوردتها في المنشور السابق يتضح لنا أن النسيان إذا نسب للذات الإلهية يأتي إما بمعنى “الترك” أو “الجزاء” وإلا “.. ما كان ربك نسيا..”، “.. ولا يضل ربي ولا ينسى..”.
ترك هذا المخلوق في دنياه لمصير – ما – أدت إليه اختياراته بمحض حريته، تركه خالقه لقوانين وسنن الطبيعة وحيوية الحياة وحدها دون رعاية منه سبحانه، وعندها تتساوى الفرص عدلا مطلقا.
ويكون الجزاء من جنس العمل، فمن نسي الله في دنياه نسيه الله تعالى، “.. اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا..”، نسيتم تعاليم الله، كلماته، وصاياه.. ، آنذاك يكون الحساب الأوفى، ولكن كيف يترك الخالق من خلق وهو سبحانه من وصف ذاته، ” .. وما كان ربك نسيا.. “، “.. علمها عن ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى”.
وقد يخطر للقارئ أن يسأل، وما علاقة هذه الآيات بقصيدة كتبها من قد لا يعلم بها؟ وأجيب: هي فطرة الله، الفطرة التي فطر الناس جميعا عليها دون استثناء، التوق الذي يستشعره الإنسان لكائن عظيم يحاول أن يتسامى ممنيا النفس التواصل معه بصورة من الصور، الفاقة التي تنخر وجدان هذا الإنسان مهما اغتنى ماديا إن فتقر روحيا. الوجد الذي يلازمه وهو في قمة نشوته وانغماسه في ملذاته.
كل خالق – عدا الله – يخلق يصنع، يترك لمستخدمي صناعته “كتلوجا” يبين فيه كيفية الإستعمال والصيانة، لكن الخالق سبحانه أودع فينا من روحه ما يعرفنا به، ما يدلنا عليه، ” ونفخنا فيه من روحنا..” فكيف لهذه الهبة الربانية أن لا تتعرف على مانحها. من هنا يكون التواصل والصلة التي لن توجد في خالق آخر غير “الله”، فالله أحسن الخالقين،”، هنا يكون سر العبودية، هنا تتحقق الآية، ” .. وما كان ربك نسيا.. ” ويحل الإشكال. إنه الإنسان من نسي الله، من نسي خالقه، من لم يدرك سر عبوديته لله.
هنا ولكي تكون الرؤيا واضحة والحكم عادلا، والتحليل أقرب ما يكون إلى ما قصده الشاعر، بل إلى المعنى المضمر الذي يناجي به الله ما لا يعد ولا يحصى من بني البشر لا بد من كلمة حق تقال ابتداء. فكل منا ينطلق من عقائد معينة حشرت في دماغه أو اكتسبها هو من خلال تثقيفه لنفسه أو ما اختبره من أحداث ومشاعر وما عاشه من وقائع.
الإنسان أيا يكن هو حقا ابن بيئته، لكنه يواري كهفا عميقا يقف حارسا على بابه، ذاك الكهف يضم حقيقتة التي قد لا يعلم تفاصيل أسرارها هو ذاته. تتكشف من خلال سلوكيات ما، تعبير فني يصدر عنه، إيماءة، موقف، موافقة لرأي يراه صائبا أو يستحسنه. وأكثر ما يكشف لنا تلك الكهوف قصيدة شاعر. عندما نرسم قد نعدل، نمحو، نزيد وننقص. عندما نؤلف موسيقى تبقي أعماق الكهف سترا مستورا، عندما نرقص، وعندما.. وعندما، لكنها المفاجأة ولحظة الغضب وقصيدة شعر تفتح لك باب الكهف على مصراعيه لتسلط الضوء الكاشف على محتوياته حسب قدرتك على الإبصار وحسب قوة مصباحك.
الشعر وإن كان مجرد عبارات إلا أنها عندما – تكون صادقة، عفوية، أصيلة – هي عمق الشاعر، هي ذاته، كهفه الذي يمتنع علينا لولا قصائده. ونادرا جدا ما نجد شعرا غير صادق.
كل كتابة قد يعمل العقل فيها أدواته، مشارطه، رقابته إلا الشعر كأنما هو يملى على قائله من وجدان يتحدث وحده، يتجنب المرور خلال العقل وشكائمه، يقفز عن كل الحواجز ليعبر إلى القلوب والأفئدة، إلى وجدان الآخرين، يمر دون استئذان عقولهم.
قد نستحسن وربما نستقبح مضامين قصائد لكننا نعترف بإبداع الشعراء وبقدراتهم الخارقة على التعبير عما يعحز عنه الاخرون. ويبقى الشعر لسان حال فصيح.
مما سبق يتبين لنا أهمية دراسة واقع الشاعر وثقافته وخبرات حياته التي مر بها وعاناها ليقول ما قد قال. ومن هنا لابد من اطلاع على ما يضيئ لنا هذه القصيدة للشاعر “توماس هاردي”، قبل ان نمضي قدما في قراءتها.
أعلم ان التمهيد قد طال في هذه القراءة إلا أنني هنا أرى ذلك واجبا. فقراءتي لهذا النص الشعري الذي يقف صاحبه حائرا بين الواقع المعاش وظروفه المركبة من جهة والفلسفة والمشاعر والمعتقدات والأفكار من جهة ثانية والذات الجزيئة للفرد والكلية للمجتمع والكون والخلق من جهة ثالثة. تشابكات تجعل فض هذا الإشتباك إشكالا يستحيل حله إلا ضمن معتقد ديني تطمئن إليه نفوس المؤمنين به. كما أرى أن تحليلنا ونقدنا لنص “ما” يوجب علينا ان نكون محايدين ما أمكننا ذلك، أن لا نحاول لي عنق النص ليتوافق مع أفكارنا نحن ومع معتقداتنا وما نؤمن به من غيبيات. أن لا نسقط مشاعرنا ومعاناتنا وخبايا ذواتنا التي لا نستطيع التصريح بها إلا عبر تأويل نصوص الغير. وأن ليس من حق الناقد أو القارئ أن يجعل النص مرآة يري ذاته فيها، ولا شيء غير ذاته، مهما تشابهت المعاناة والمشاعر والصور. لذا أرى لزاما علي أن أقدم لمحات من حياة هذا المبدع لتنير لنا خبايا قصيدته موضوع القراءة.
“توماس هاردي” روائي وشاعر انجليزي – عاش في الفترة الممتدة ما بين أواخر القرن التاسع عشر وعشرينيات القرن العشرين – تأثر بالرومانسية. هو كاتب واقعي من العصر الفكتوري. اهتم بنقد أوضاع المجتمع الفكتوري وركز بشكل أكبر على الطبقة الريفية. له عدة روايات تصارع فيها مجموعة من الشخصيات أقدارها وظروف الحياة. عمل جده ووالده في البناء المحلي.
كانت والدته ذات اطلاع فكري واسع فتولت مهمة تعليمه حتى ذهابه إلى المدسة في سن الثامنة، وتوقف عن الدراسة في سن السادسة عشرة إذ لم تتمكن أسرته من الإنفاق على تعليمه الجامعي. تدرب على يد مهندس معماري، ثم تمكن من دخول كلية “الملك” وحصل اتجاهها مبررة، وقد تزوجا عن حب!
لم تكن حياة هاردي الزوجيةحياة سعيدة فقد كانت زوجته “إيما” تؤمن بالعناية الإلهية بينما كان “هو” يرى بأن الصدفة العمياء هي التي تتحكم في مصير بني البشر، ولهذا فقد كان كل منهما يرى العالم بطريقة مختلفة تماما عن رؤية الآخر مما ساعد على تعميق الفجوة بينهما وهما المثقفان اللذان لا يمكن أن يتنازل واحدهما عن نظرته مسايرة للآخر وإن كان شريك العمر، ومهما كان الثمن.
كانت زوجته دائمة المرض بينما كان “هاردي” ذو طبيعة قاسية ومتعجرفا نوعا ما، فلم يتمكن من التعاطف مع آلامها، كما أنهما لم ينجبا أولادا وهذا ما زاد من بعدهما عن بعضهما.
معاناته الحقيقية بدأت بالفعل بعد وفاة زوجته، وعوضا عن محاسبة الذات لتقصيرها بحق العلاقة بينه وبين زوجته في حياتها، أخذ شعوره بالذنب – بعد وفاتها – يتجه به وجة أخرى هي الوجهة ذاتها المتجذرة في نفسه بسبب الظروف التي فعلت فعلها في حياته حسب رأيه.
أولى خطاه في ذاك الإتجاه من لوم الذات وتأنيبها ولو بشكل غير مباشر أنه قام برحلة حج إلى (سانت جوليو)، أظهر فيها توبته وندمه الشديد عما سلف منه. ثم قام بزيارة أخرى إلى مسقط رأس زوجته، كما كتب العديد من القصائد في “التكفير والندم”.
نظرته المتجذرة في أعماقه والتي كانت سببا مهما من أسباب فشل علاقته بزوجته كانت هي أيضا لأسباب منها: الظروف الحياتية التي عاشها ووقفت في طريق تحقيقه لأحلامه وآماله رغم أنه تمكن من تجاوزها حينا والقفز عنها أحينا. فبعد أن توقف عن الدراسة تمكن من المضي فيها قدما، وبعد فقره استغنى وبنى قصرا، وبعد ضعته أصبح من الطبقة الارستقراطية بعد غناه وشهرته، إلا أنه لم تخلص من شعوره بشدة وطأة الظروف عليه وقسوتها.
لم يكن ينظر “هاردي” إلى الطبيعة لاعتبارها مجرد خلفية للأحداث او مصدر للإلهام الشعري والجمال وإنما نظر إليها باعتبارها قوة عمياء نتيجة إيمانه بأطروحة “دارون” “الصراع من أجل البقاء”، أضف إلى ذلك تأثره بالمؤرخين والعلماء الذين شككوا في صحة أجزاء من الكتاب المقدس وتشكيكهم بقصة يسوع المسيح.
بعد الفراق الاختياري بينهما جاء الفراق الأبدي الذي لا مفر منه، هنا، وهنا فقط افتقدها فعلا، تلك التي أحبها ولم يتمكن من إيجاد قاسم مشترك يجمعهما معا تحت سقف واحد رغم كونهما متزوجين يعيشان في بيت واحد. أحس بذنبه، ضخمه، سقط تحت وطأته الشديدة فكان لا بد من إيجاد معامل توازن ما. فكان القدر. ومن هنا بدأت رحلة الشعر والروايات التي تضخم دور الظروف وتجعلها وحدها المسيطرة على حياة الإنسان وكأنه دون إرادة خلق. فالإنسان في رواياته لا يبدو حرا أبدا، يرزح تحت ثقل الزمان والمكان، وفوق هذا هناك قوى غامضة تسيطر على حياته، وكأنما الإنسان دمية خيوطها معلقة بيد الأقدار تحركه كيف تشاء.
حاول خلال تلك الروايات الأخيرة أن يبرز وجهة نظره بهذا العالم الامبالي بآمال الإنسان المحطمة. كما أصبح شعره بشكل عام، حزينا كئيبا، ورثاء للآمال المخادعة، معبرا عن سخرية الحياة داعيا إلى الإستسلام في وجه القدر المعادي أبدا.
إنه التملص من المسئولية، الإنسحاب إلى منطقة تأمن النفس على ذاتها، إن هي إلا محاولة للتخلص من الشعور بالذنب طالما أن هذا الذنب ليس ذنبها الذي اقترفته بكامل الرضى. فالإنسان عنده إن هو إلا نتيجة تفاعل ظروف عمياء يقوم مجبرا بأدواره فلم يشعر بالذنب أو يحاسب نفسه!
وإذ ذاك لا بد يشعر بالسلام الداخلي ذاك الذي زرعه في نفسه زرعا وإن كانت بذوره غير صالحة للزراعة في ذات إنسان خلق ليكون حرا في خياراته، لكنه الوهم الذي يخدر الأعصاب فلا تتأثر بتأنيب الضمير، علاج وإن نفع لبعض الوقت إلا أنه لن يدوم إلا إن تحول إلى إدمان. إن تحولت المسؤولية عن عمل ما إلى من ليس له يد فيها، إن تملص الإنسان من نتائج أفعاله، إن جعل الظروف بديل إرادته، وهذا منتهى السلبية..
ولم يتوقف الشاعر هنا وحسب بل مضى خلال قصيدته إلى ما هو أبعد من ذلك.
بعد ذاك السرد لبعض جوانب من حياة الأديب “توماس هاردي” والتي أضاءت لنا زوايا من كوامن ذاته، نكون قد اقتربنا من فهم أصدق وأعمق لقصيدته ولمعاني عباراتها وللفكرة الرئيسة التي أراد البوح بها لذاته قبل أن يبوح بها لغيره. ود أن يستحضرها من تلافيف دماغه الذي شغل بما حدث، أن يضعها أمام حواسه كلها كي يتشبع بها، لتمتصها أعصابه حتى آخر مشهد فيها، وآخر رشفة تخدير ممكنة ليرتاح ضميره، ليشعر ببعض السلام الداخلي. أراد أن يتملص من تهمة يستشعر ثقلها، ذنب وجد أنه ارتكبه ولا سبيل إلى غفرانه بعد أن غادرت من يمكن لها أن تغفر ذاك الذنب. أراد أن يحفر لسوءة فعله قبرا ليواريها كما وارى الغراب فعلته. هو لم يقتل كائنا حيا لكنه ساهم بقتل علاقة كانت حية في ذاتيهما، هو وزوجته، ولم تزل حية فيه تلك العاطفة. يعاني بقاياها، جذورها التي ما زالت كما هي تمتص من رحيق روحه فتضعف وتضعف تلك الروح حتى باتت تهدد كيانه كلل، فكان لا بد أن يحمل مسؤولية كل ذلك لمن يملك الكون كله ويملكه ويملك نفس زوجته التي توفيت وتركته يعاني شعورا لم يعرف الخمود بعد أن شب لهيبه.
أنا لست حرا ولا أنت أيها الإنسان، نحن جميعا تركنا لمصائرنا، خلقنا من خلق الكون ونسينا. نحن جميعا لسنا إلا عبيدا، فلم لا أكون نائبا عنكم جميعا وأذهب إلى ذاك الإله القابع هناك في سماه وأتحدث إليه باسمنا جميعا.. بهذا المعنى وما هو أعمق منه جاءت عبارات القصيدة، قصيدة – God – Forgotten – لتوماس هاردي.
ترى هل بيد هذا الكائن الضعيف – الإنسان – أن يتمرد، أن يشق عصا الطاعة، أن يكون ما يريد، أن يعاند القضاء والقدر، أن يكون حرا حرية حقيقية لا مجاز فيها وهو الذي لم يخير أن يخلق أو لا يخلق، أن يحب أو يكره، أن يفعل ما يفعله وهو يدرك نتائج فعله.. قد يظن القارئ أنني أوغلت بعيدا بعيدا عن مضمون القصيدة، لكن مفتاح القصيدة أضحى بين أيدينا وهو أن ذاك العتاب – لله – في القصيدة لم يكن إلا بهدف التملص من شعور الشاعر بالذنب لما اقترفته نفسه بحق زوجته، فما حدث إلا قضاء وقدرا، ما حدث لم يكن ليحدث لو أن – الله – التفت إليه ولم ينسه، وأن ذلك حدث كما حدثت أحداث أخرى سبقته، كظروف ميلاده وتعليمه، فقره وغناه، والعراقيل التي وضعت أمام خطى درج عليها في سبل الحياة، وغير ذلك كثير، كثير.
من أبيات القصيدة..
حلقت بعيدا، وإذا بي أقف
في حضرة العلي القدير
علي أحظى بإجابة على توسلاتهم
“تقول، الأرض؟ العنصر البشري؟
أنا خلقتها؟ مصيرهابائس؟
كلا: لا أتذكر مكانا كهذا
لم أخلق عالما مثل هذا”
اعتدنا أن يكون من البشر رسل من الله إليهم لكن “هاردي” هنا عكس الآية وجعل من نفسه مبعوثا إليه سبحانه. ففي هذا المقطع نجده قد انتدب نفسه عن البشرية رسولا منهم إلى الله يستوضحه أهم ما يشغل نفوسهم ويقض مضاجعهم. إنه المصير، ذاك الذي نسميه “الآخرة”، آخرة الفعل وآخر المصير الإنساني ككل. الجزاء الأوفى في الدنيا قبل الآخرة، والذي يمر عبر القضاء والقدر، كل ما كتب على الإنسان أو تركت له فيه حرية التصرف.
كثيرة هي أشكال مناجاة الإنسان لربه، لكنها هنا تتميز عن غيرها بالحيرة المبثوثة في ثناياها. في إجابات الله. في تلك الزيارة الفريدة، في العروج إلى الحضرة الإلهية مباشرة. و يا لها من مفاجأة حين كانت الإجابة، ولكن لم المفاجأة والأمر كله حديث نفس بين الذات وذاتها، تحليق في فضاءات الخلق، وفي فضاءات الذات في آن واحد، تصورات شاعر شديد الحساسية، رهافة تجعل الكلمات تنبض كما القلوب بكل ألوان المشاعر لا بسيلان الحياة وحده، وعي يكاد يلتهم الوعي، يدفعه إلى أقصى حدوده وأقساه نتائجا، فالخالق نسي أنه خلق، نسي هذا الكائن الذي ترك لمصيره دون عناية من خالقه، حتى أن الخالق قد نسي الكوكب كله وليس الإنسان وحده. فما كان السؤال، ولم هكذا كانت هذه الإجابة؟! وبأي أسلوب توجه السائل إلى خالق الإنسان وموجده على هذا الكوكب الذي أصبح خارج اهتمام الرب، وما الربوبية إلا تملك وتربية وإنماء؟! وإن هو بعد إلا حديث من رسول يتوسل الإجابة يتضمن رغم كل شيء أمل بالإستجابة للتوسل وليس الإجابة على السؤال فقط.
مولاي، سامحني أن قلت
إنك أنت الذي نطقت بالكلمة، وخلقت كل شيء
– ” أرض البشر- دعني أتذكر….ها اي نعم
بالكاد أتذكر
” كوكب ضئيل بنيته منذ زمن طويل
( وسط ملايين من شبيهاته التي خلقتها)
أهذا هو إسمها…لابد وأن تكون قد فنيت ولم يبق منها حطام أو علامة؟”
– ” مولاي، مازالت موجوده”
” مظلمة إذن حياتها! لا أسمع الآن صرخة تصدر عنها البتة
وقد تقطعت الخيوط التي كانت تسمعني شكواها بما أقترفت من أفعال
كانت تطلب الكثير من عطايا الخير
حتى قطعت عنها بما فعلت
حين تلى ذلك صمت مفاجيء على ذلك الجانب
وساد حتى هذه اللحظة
كل الكواكب حافظت على الأتصال
وكانت نداءاتها تصلني بسرعة
لقد أفرط قومك في قطعها عني
وانت تقول أنها مكلومة بالآلام
والصراع والمعاناة الصامتة؟
إنه ليحزنني أن يقع الأذى
على شيء بائس كهذه الأرض
في المقطع السابق من القصيدة تخيل الشاعر أنه بعد تحليقه قد أصبح في أفق “العلي القدير”، وهنا يبتدأ هذا المقطع بقوله “مولاي”، فهو إذا يعترف بربوبية الله. هو إذا ولا شك من المؤمنين به وإلا لما جاء مبعوثا إليه من البشر، يحمل تساؤلاتهم، فمجرد تفكيره بالحضور بين يديه يعني فيما يعنيه اعترافه به. جاء ليسأله: الأرض، العنصر البشري الذي عليها، هل نسيتهم ليصبح هذا حالهم؟ سؤال يبدو مشروعا، فالأرض بائسة، مظلمة، مكلومة بصراعات البشر، هم تائهون في ظلمتها، لا يتبينون موضع خطاهم. فيجيبه العلي القدير أن ذلك لم يكن إلا نتيجة لأفعالهم. لنسيانهم الرب فنسيهم إلى الدرجة التي جعلتهم وكأنهم لم يخلقوا، غير موجودين، غير حاضرين أمامه، ظلمة أفعالهم لم تبق بصيص نور ليروا من خلاله. قطعوا خيوط صلتهم به. أوقفوا نداءاتهم له. لم يتوسلوا، لم يطلبوا شيئا، لم ترتفع أصواتهم بندائه.
وهكذا يدور حوار حر بين المخلوق المبعوث والله الذي خلق – حوار يتبدى فيه تعظيم وإجلال المبعوث للمولى. وردود من الرب تخاطب العقل، توضح له الأسباب والنتائج، فلا حصاد إلا بعد حرث، وهذا حرث العنصر البشري وهذه نتائجه.
ولكن هل يتخلى الخالق عن خلقه لأنهم أخطأوا، لأنهم ارتكبوا الآثام، لأنهم حادوا عن السبيل القويم، لأنهم لم يتوجهوا إليه بالصلوات، وهو الذي يعلم مدى ضعفهم، أم أن هذا الكوكب الضئيل الذي تقادم زمن خلقه ضئيل في قيمته وقيمة من عليه، أم أن هناك أسباب أخرى.
مولاي، سامحني إذ أذكرك بانك أنت من نطق بأمر الخلق، بالكلمة – بكلمة كن – فكانت الأرض، وكان الإنسان. ألا يعني هذا يا رب أن رعاية خلقك واجبة عليك، كيف تخلق وتنسى، كيف لا تتذكر حتى وإن كانت هذه المخلوقات ضمن الكثير الكثير مما، وممن خلقت؟! هنا يتذكر الرب – وهل الرب ينسي؟! – تذكر الكوكب الضئيل الذي خلق وسط ملايين أمثاله. حتى أنه تعالى نسي اسم الكوكب ومن عليه، فلا بد أن كوكبا ما لم يعد له حضور أمام الرب، لابد أنه في حكم الفناء. هو في حكم ما فني وإن لم يفن.
يرد “المبعوث” لا مولاي، لا زالت موجودة. ليجيب الرب إذا هي مظلمة، لم تعد تظهر لي – وهل يحتاج الخالق ما يضيء له عتمة المكان ليعلم بوجوده؟!
الإشكالية إذا في طبيعة الضوء المنبعث منها، من تلك المخلوقات، وما ضياؤها المرئي إلا انعكاس لنور الخالق فيها، كلما أرادت الإستزادة منه أعطيت، ولا يكون إلا بالتعرض لنفحات النور هذه لينعكس عنها فترى. يعلم الله بوجودها لكنها لن تكون في حضوره قائمة ما لم ينعكس نوره من عليها، والله أعلم بوجودها منها.
متى يشرق وجه حسناء، متى نرى ضياء نافذة، متى نرى الكواكب والنجوم وشمس النهار، لا لن ترى إلا إن اشتعل الفتيل فيها أو انعكس الضياء من على صفحاتها. وأرضكم هذه قد منح سكانها النورين معا فأطفأوها، نور تجذر في النفوس وضياء يستمد من السماء. فهيهات بعد ذلك أن تسترعي انتباهي.
هكذا وبكل بساطة كانت الظلمة التي سادت الأرض نتيجة لا سبب. ثمرة إهمال الإتصال بمصدر الضوء المنبعث من الأعماق، هبة الإله إذ تشد النفس رحالها إلى منبع النور الأصيل، إلى كلمات الله التي كتبها فينا. وإلى مناجاة النور حيث يكون.
قد ظلم الإنسان نفسه وما ظلمه “العدل”. وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ۖ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ۖ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) سورة هود
هنا تلتقي الفطرة السليمة التي غرزت فينا كبشر مع كلمات “النور” يقولها إنسان اختبر الحياة وأحداثها ومعاناته لها، اختبرها من خلال قلقه الوجودي، واختبرها إذ فرغت حياته ممن كان يأنس بها، زوجته التي استلها الموت من حيز حياته، وإن لم يكونا على صلة طيبة.
فطن شاعرنا إلى أن الإنسان هو من يظلم نفسه والظلم ظلام دامس يمنع عنه النور والضياء فيصبح بحكم الامرئي، فاليجابه ذاته وليعلم حقيقة الأمر وليتصرف وفق ذلك.
الإنسان في عمقه العميق مهما تنصل من فكرة الألوهية، مهما أنكر الربوبية تجده في لحظات ضعفه أو تشتته وضياعه، في الحظات التي لا يجد فيها من يؤنسه، تجده يتجه إلى تلك القوة العظمى طالبا عونها، يرفع يديه إلى السماء دون وعي منه أو يتردى إلى أقصى دركات ظلم الذات منتحرا، وما انتحاره إلا اعتراض على مشيئة القدر، احتجاج عليه وإنكار لخياراته، وأنه هو الإله المتحكم بمصائر البشر. وقد اختار شاعرنا أن يتوجه إلى الإله مولاه ليخاطبه وكأنه مبعوث من بني آدم.
” أيها الرسل، ضعوا نهاية في الحال
لما يعاني منه البشر”
وحين عدت إلى المنزل عند الفجر،
ظننت أني سأرى أحد الرسل يقف إلى جانبي
يالها من فكرة صبيانية، لكنها كثيرا ما راودتني
توماس هاردي
يا لها من صدمة، أن يعود الإنسان إلى وعيه، بل إلى حقيقة واقعه الصلب الذي يعاني أحداثه ليجد نفسه وحيدا يجابه مصيره على هذه الأرض ما بين ميلاد وموت، أين الإله الذي كنت قبل هنيهة أحادثه ويرد علي، أين مبعوثيه إلى هذه الأرض ومن عليها من التعساء الذين أرسلوني طمعا برحمته، ورغبة في أن ينهي عذاباتهم وأملا في نور من لدنه يبدد الظلمة؟! أكنت متوهما، أم هو حلم راودني وانتهى مع بزوغ الفجر، أم هي مجرد أمنيات جالت في خاطري فارتسمت أحداثا ترى وتسمع!
كنت قد غزلت الأمل بخيوط تصل الأرض بالسماء، كنت أنتظر رسولا يبعث من هناك، كنت أناجي مولاي. لكنني وجدت نفسي وحيدا كما كنت.
بهذا المقطع الأخير قلب الشاعر موقفه رأسا على عقب إذ قلب تصوره، فالخلاص يبدأ من هنا، من على الأرض ذاتها، وبيد الإنسان وحده. وأن القدر نحن من يكتبه.
نعم على الإنسان أن يتحمل مسؤولية خياراته، أفعاله، وكل فكرة عداها إن هي إلا أفكار صبيانية. علينا أن لا نحمل الإله أوزار أعمالنا، وسواء أرسل لنا رسلا أم لم يرسل فقد منحنا ما به تستقيم حياتنا وتصح خياراتنا وإلا لما خيرنا! وصلتنا الحقيقية به تبدأ منا، من خلال خياراتنا. والنور ينبعث من أعماقنا نحن.
فهل يكون الرب قد نسي من خلق وقد زوده بما يعينه على المضي قدما ليصنع أقداره ويجابه من الأقدار ما لا قبل له برده، ومن القضاء ما حكم به عليه ولا راد له. هنا يتوقف “توماس هاردي” فقد عاش في بيئة قلقة، تناوبتها عقائد شتى واختلطت ببعضها البعض. وهو كأي “مبدع” ابن بيئته التي نشأ وأبدع فيها، مهما حاول الإنسلاخ منها تبقى بقاياها في ذاته. عانى من أقداره التي اختارها والتي فرضت عليه. أراد أن يلقي بحمولة قلقه الوجودي على كاهل من غيب، ليجد نفسه كأي عاقل واع يستسلم لحقيقة وإن كانت أمر من العلقم إلا أنها هي الحقيقة التي جعلت منه إنسانا من البشر آدمي.
قلنا أن الشاعر هنا توقف عند هذه النتيجة، نعم، لكنه لم يتخلص تماما من ذاك القلق الذي جعله يحلق في عالم من الخيالات الخصبة محاولا العروج في تأملاته نحو السماء.
قصيدة توماس هاردي
موت إله
1
رأيت قافلة تسير ببطء
من بعيد على مرأى البصر
تسير عبر سهل باهت
غريب وغامض ويحفه السأم.
2
ومع خفقات الفكر المتحولة
والمعرفة الكامنة في داخلي
ملأتني الإثارة
وتجلل وعيي بالأحزان.
3
بدى لعيني المطموستان في البداية
كإنسان قابلٍ للتحول
إلى سحابة رائعة بلا ملامح
إلى حلقة كبيرة من المجد المحلق.
4
وهناك ذاك الخيال المتغير
يتملكني كلما اقتربت
وهاهما ذا يتغشياني:
القدرة الشاسعة والحنان الجارف.
5
وقبل أن أعرف ما هنالك انحنيت
تجاه الأعمدة المتحركة دون أن أنبس بكلمة
كانوا يمضون..وكانوا يتكاثرون
ويتناقلون الأفكار السقيمة.
6
مشروع شكل إنساني
صورة متأخرة عنا
ناموسه هو الباقي..
وعندما جاء ..
أغريناه بخلقنا
وعندما فعل.. لم نعد نرغب في بقائه حيا.
7
في البداية أنشأناه شرسا ..غيورا
وأعطيناه العدالة حين دارت بنا الأعمار
قادرا على بركة من جعلتهم أحوالهم ملعونين
وجعلتهم أوقاتهم معذبين مستحقين للرحمات.
8
و تعثرنا في أحلامنا المبكرة
وحاجتنا للعزاء, وخدعنا أنفسنا
وصنعنا صانعنا الذي كنا نحتاجه
تخيلناه فخلقناه ..وآمنا به.
9
لكن, وفي ميعاد مقدر تقلبت الأمور
بدت لنا الحقيقة وقحة وعنيدة
وسحق الله صياغتنا الخاصة
وتوقف عن أن يكون ما أردناه.
10
لذا, نحو اندثار خرافاتنا
تسللنا وتحسسنا الوهن والخفاء
وحزنا أكثر من أولئك الذين بكو في بابل
على ذلك الذي مازالت صهيون تبني عليه الآمال.
11
كم كانت جميلة تلك السنوات البعيدة الخفية
تبدأ عجلات اليوم مع المصلي الواثق بالله
ومع المستلقي الخاضع له وهو في المساء
ذاك الذي يشعر بالبركة والطمأنينة !!
12
من وماذا سيملأ مكانه ؟
كم ستتجول تلك العيون المتشتتة
متأملة النجوم الثابتة فعسى أن تسرع
وتصل بهم إلى هدف لهاتيك المغامرة.
13
شاهدت بعضهم في الخلف
نساء لطيفات, شباب، رجال..
كان الجميع مرتابين
هتف هاتف: أنه قش مزيف
أنها سخرية مقدسة!
أما زالت تعيش بيننا ؟!!
14
لم يكن من الممكن أن أسند ثقتهم
لقد عرفت الكثير, وتعاطفت مع كل شيء
وسرت واجما إذ لم أنس
أنني أيضا، ولزمن طويل، كنت أثمن ما يثمنونه.
15
وحتّى الآن, مازلت أتساءل
كيف يمكن للإنسان أن يتحمل هذه الخسارة
سؤال يجب أن يبحث عن إجابته كل عقل مفكر
وبالتأمل العميق بدت لنظراتي الشاحبة
ومضات أكيدة متنامية من بعيد.
16
وانتشرت لترفع ذلك الليل الممتد
قيمة قليلة معتزلة قائلة:
انظر إلى الأفق..
إلى ذلك الضّوء الصّغير المتنامي
أنظر إلى حيث يهز كل نادب رأسه.
17
و كوّنوا حشدا من الأشياء
أشياء صحيحة
وأخرى فاضلة …
وقفت بينهم مذهولا و حائرا بين الومضة و الظلمة
ودون أن أشعر..
اتبعت الباقين.
قمنا بتحليل مضمون نص هذه القصيدة ليتببن لنا أن الشاعر ومن خلال رحلته المتخيلة عرج إلى الإله مبعوثا من قبل أبناء الأرض للحصول رحماته تعالى، أن ينظر إليهم، ينير ظلمة كوكبهم، لكن هذا الإله بدا أنه نسيهم نتيجة لنسيانهم له إذ لم يحاولوا التواصل معه أو اللجوء إليه والصلاة، وبسبب الظلم الذي أحدثوه والذنوب التي اقترفوها أطفأت أنوار دنياهم وغرق كوكبهم في ظلام دامس، هو من خلقهم وبيده مصائرهم وأنه وحده من سيغير أحوالهم. لكن تلك الرحلة المتخيلة تنتهي بالشاعر من أن مصير الإنسان بيده هو وحده، فهو من عليه أن يتحمل مسؤوليته ويصنع قدره وما عدا ذلك إن هو إلا أفكار صبيانية كانت تراود الشاعر ذاته كما غيره من بني البشر.
وتأكيدا مني لصحة هذه النتيجة التي وصلت إليها من خلال قراءتي لها قمت بنشر قصيدة ” موت الإله” ضمن هذه القراءة. فمن خلال سبعة عشرة مقطعا حاول الشاعر أن يصل بالقارئ إلى النتيجة ذاتها التي وصل إليها من أن ذاك الإله الذي خلقه البشر، رسموه بأخيلتهم، منحوه صفاتهم هم وأنس هو به كما الباقون، ثمن ما كانوا يثمنونه، وقبلوا به إلا أنه اكتشف الحقيقة وترك هؤلاء وهم كثرة، غادرهم إلى قلة لم يتقبلوا إلها هم من صنعوه وكأنه مجرد (صنم ) رفض أن يعبد من خلقه البشر. وهذا مذهب كل عاقل. وأشير هنا مجرد إشارة إلى اثنين من انبياء الله “إبراهيم”، و”موسى” عليهما السلام، وكيف حاولا التوصل إلى الإله الواحد الأحد من خلال التفكر والتدبر حتى أوحي إليهما. الإنسان العاقل الواعي لن يقبل بما يقبل به الناس لمجرد أن الأكثرية اعتنقته أو ادعت صحته أو اختلقته اختلاقا. يبقى العاقل قلقا حتى يحصل على الدليل، على البرهان ثم يتقبل ما يمكن الإيمان به. وهذا الشاعر عاش ذلك القلق لكنه لم يصل إلى ما يطمئنه، لم يصل إلى اليقين، استدار عن الجمع وقال بموت إله البشر هم منحوه صفاته وميزاته. أما نحن العرب المسلمون فقد أسلمنا عقولنا وقلوبنا لكل متصور ومتخيل، لكل من زعم وادعى، تركنا اليقين الذي بين أيدينا – نص القران – إلى إرث يكاد يكون مجرد خرافات وأساطير. وعندما أردنا تفسير كتاب الله لم نحسن ذلك. فكيف لا تنهار ثقافتنا وتنهار دنيانا بل تنهار الحياة فوق رؤوسنا لتسحق واقعنا سحقا.