تتيح أي قراءة أولية لكلمة الأمين العام لحزب الاستقلال الدكتور نزار بركة، التي ألقاها بمناسبة “أمسية الوفاء” لتكريم رموز العمل المدني والحزبي بتطوان يوم الجمعة 10 مارس الجاري، بمنزل زعيم الوحدة الوطني عبد الخالق الطريس، مناسبة سانحة للوقوف على مؤشرات رمزية عديدة دالة على الرغبة والإرادة في ترجمة الوعي بضرورة تجسيد مشروع التغيير كدينامية متجددة حاملة لبذور تحول تاريخي نوعي في الممارسة السياسية للحزب، على قاعدة تفعيل العودة إلى الأصول والتشبث بها ضمن مشروع استجابة خلاقة للراهن وإشكالياته المتعددة، تساهم في طرح البدائل، وتبلور أنساقا اقتراحية حاملة بتبصر وحكمة وحس عال بالتضامن لهموم المواطنين وانتظاراتهم.
وفي هذا السياق الرمزي المؤطر للكلمة، كان لافتا للاهتمام أن تستهل بإعلان الوعي بضرورة تثمين علاقات التفاعل المثمر بين العملين السياسي والمدني، بعيدا عن أي مقاربة تفقيرية قائمة على تبخيس الفعل السياسي، بناء على تعويض وهمي للفعل المدني لأدوار وجدوى العمل السياسي الحزبي، انطلاقا من احترام فعلي للعقل وللتاريخ والمستقبل، في سياق طموح بناء رؤية سياسية فكرية استراتيجية تستوعب الحاجة إلى استثمار كل الطاقات والاحتمالات والإمكانيات، متعددة المصادر والروافد والأدوات، في بناء مشاريع حية للاستجابة الفعالة لانتظارات المواطنين. وقد كان هذا التنبيه الضروري مدخلا مضيئا لتقديم الملامح الكبرى لاستراتيجية الحزب الجديدة الحاملة لمشروع التغيير الذي قاد مناضلات ومناضلي الحزب إلى محطة المؤتمر الأخير، واختيار القيادة الجديدة، والانخراط بحماس في دينامية رد الاعتبار للحزب وتجديد التموضع ضمن حركية الحياة السياسية الوطنية.
وإذا كانت هناك من قيمة مضافة فعلية تاريخية لمرتكزات هذه الرؤية الاستراتيجية، كما يمكن استخلاصها من كلمة الأمين العام، فهي الانحياز الواعي المبدئي لأهمية النقد وتجديد الفكر في صلب الممارسة السياسية، بحيث لا يمكن فهم العودة إلى الأصول كنوع من التقديس لفكر وممارسة سياسيين محنطين، ثابتين عاجزين عن التجدد، وإنما كتشبع بمنظومة قيم تعيد للمرجعية التاريخية قيمتها السياسة والأخلاقية في تغذية التفاعل الخلاق مع أسئلة الراهن وإشكالياته، وتجعل من التواصل والاستمرارية أداة لربط مشروع التغيير بجذوره الحيوية، ولوقف وجوه الاغتراب المتعددة عن التاريخ والمستقبل معا، لأن تجديد الفكر السياسي لا يمكن أن يعنى بمنطق الضرورة والحتمية، سوى تحمل المسؤولية أمام الماضي والحاضر، في مشهد سياسي في حاجة حيوية إلى مصالحة شاملة مستدامة بين الجذور التاريخية والآفاق المستقبلية، انطلاقا من تقدير ووعي بإشكاليات الحاضر المستعصية، بعيدا عن التهويل والتسطيح معا.
من هنا يبدو فكر الحزب المؤمن بضرورة تجديد نفسه وأدواته، وتجاربه الممتدة عميقا في قلب الحياة السياسية الوطنية، عبر مراحل من الصراعات القاسية، ولحظات مضيئة من الإسهام في فك رموز الاستعصاء والانحباس السياسيين إلى جانب الانحياز المبدئي للمصالح العليا للوطن، أرضية لصياغة محاور رؤية سياسية استراتيجية تتخطى حدود رصد وتشخيص الواقع وإشكالياته، إلى المساهمة في بناء أنساق للتوقع والاقتراح تساعد في تقديم الحلول وفتح آفاق الانتقال والتطور في صيغ وآليات الاستجابة لهموم الوطن والمواطنين، التي يقع في صميمها المساهمة في بناء مشروع مجتمعي قائم على تقليص الفوارق الاجتماعية، عبر التصدي لظاهرة التوريث الجيني للفقر، ووقف تدهور أوضاع الطبقة المتوسطة، واتجاهها المريع نحو السقوط في الهشاشة، وبناء نسق وطني لعدالة اجتماعية حقيقية محمية من النكوص والانتكاس. وفي هذا السياق حددت الكلمة آليات الممارسة السياسية والتنظيمية الحزبية الكفيلة بالنهوض بالرؤية السياسية الاستراتيجية للحزب، على قاعدة طموح تحقيق التعادلية الاجتماعية والاقتصادية، عبر تجديد الفكر السياسي للحزب، وتحسين الحكامة السياسية الحزبية، في سياق مرحلة ربط المسؤولية بالمحاسبة، عبر آليات التعاقد التنظيمي والقيمي، وإعادة الاعتبار للحزب وتطوير مكانته وضرورته ضمن المشهد السياسي الوطني، بالتأثير الخلاق في السياسات العمومية، لتستجيب توجهاتها لانتظارات المواطنين وفي مقدمتهم الشباب والنساء وكل الشرائح والقطاعات المتضررة من واقع معاناة الهشاشة والتهميش وتعطيل الطاقات والقدرات.