طائرة ” هليوكبتر ” عسكرية ضخمة تحوم في السماء، بعد منتصف الليل … وفي الساعات الأولى من الفجر، وبعد فرض الطوق الأمني ” حظر التجوال ” الليلي ” بساعات وساعات.
الطائرة العسكرية المروحية الضخمة تحوم في المنطقة، السكان نيام .. الطائرة المروحية تتوقف في الهواء للحظات .. تبدأ مجموعة من رجال ” الكوماندوز ” بالنزول في المكان من الطائرة .
يقوم رجال ” الكوماندوز ” بالمهمة الملقاة على عاتقهم على الأرض بسرعة فائقة، ثم يعودون مرة أخرى إلى جوف المروحية الضخمة.
في الصباح الباكر ينتشر النبأ في المنطقة انتشار النار في الهشيم .. ليصل إلى سكان مخيم الشاطئ والمناطق المحيطة به كافة.
تتسابق الجموع الحاشدة نحو المقبرة .. مقبرة الشيخ رضوان .. يتراكضون … يزمجرون .. يهدرون .. يهللون.
الجمع الغفير مترامي الأطراف والمندفع نحو المقبرة كالسيل العرمرم هو خليط من الرجال .. النساء .. الأطفال .. الشيوخ. طوفان بشري جامح هادر مزمجر.
الخبر الغريب حرك الجميع بقوة غريبة. ولم يترك لهم فرصة التفكير العقلاني .. وكأن العقول قد تم تعطيلها .. فاندفعوا من كل حدب وصوب نحو المقبرة الكبيرة.
الخبر الذي شاع بين الجميع ومنذ الصباح الباكر والذي استشرى بينهم بسرعة غريبة، مفاده أن طائرات ” الهليوكبتر ” التي كانت تحوم في السماء في الليلة الماضية، أنزلت قوات من ” الكوماندوز ” الإسرائيلي فوق المقبرة، وقامت بسرقة جثث الشهداء من المقبرة ؟؟!! .
الفترة منذ نهاية الستينات وخلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وحتى ما قبيل الانتفاضة الأولى، كانت فترة طويلة ملأى بالأحداث الجسام، وملأى بصور البطولات والتضحيات من رجال المقاومة، وسقوط العديد من أبناء مخيم الشاطئ والمناطق المجاورة أثناء المواجهات مع جنود العدو. كان عدد الشهداء الذين سقطوا في تلك الحقبة التاريخية كبيراً جداً، وكان دفنهم ولحدهم يتم في المقبرة القريبة الكبيرة الواسعة ” مقبرة الشيخ رضوان “.
جن جنون القوم، خاصة من ذوي الشهداء الذين كانوا قد دفنوا شهداءهم في تلك المقبرة، الأمر الذي حرك فيهم المشاعر والخواطر بشكل عنيف.
توجهت الجموع الحاشدة نحو المقبرة، وراحت تنتشر بين القبور المتناثرة هنا وهناك لتغطي مساحة المقبرة بالكامل، بينما الصياح والنداء .. التهليل والتكبير يصل إلى عنان السماء.
راحت كل مجموعة تتفقد قبور ذويها، خاصة قبور الشهداء، لاحظ الجميع بأن القبور كانت كما هي عليه، لم تصب بأي أذى، لم تهدم حجارتها ولم تمس محتوياتها، كانت سليمة بكل المقاييس.
لم تلبث الجموع الحاشدة أن بدأت بمغادرة المقبرة بعد أن اطمأنت قلوبهم إلى سلامة رقدة الشهداء في القبور دون أن يمسهم أحد. وبعد أن تيقنوا بأن الأمر برمته لم يكن سوى ( مجرد إشاعة ) ؟!.
سرعان ما كانت مجموعات أخرى تحل محل الجموع المغادرة للاطمئنان الذاتي على قبور ذويهم .. واستمر الأمر حتى ساعات المساء.
* * *
تتابعت الأيام طويلة .. والسنون قصيرة .. وطوى النسيان تلك الأحداث، وكاد الجميع نسيان مجرياتها وأحداثها المتلاحقة.
فيما بعد .. وبوقت طويل ..القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي قطعت بث برامجها، وراحت تبث شريطاً لبرنامج خاص عن الضابط الإسرائيلي ” دافيد هيلين “.
راحت تعدد بطولاته وتوضح بأن دوره في خدمة دولة الكيان المسخ لا يقل عن دور وزير الدفاع الإسرائيلي ” موشى ديان ” ؟! .
المفاجأة عقدت ألسنة جميع من كانوا يشاهدون الشريط .. وفغروا أفواه الدهشة، واتسعت حدقات العيون الجاحظة .. لشدة وقع الصدمة، ولغرابة المفاجأة التي لا تصدق ؟؟!! .
لقد كان ” دافيد هيلين ” .. تلك الشخصية التي يدور عنها الحديث التلفزيوني .. وصاحب البطولات والأمجاد والخدمات الجليلة .. وصاحب الرتب العسكرية العالية التي تضاهي رتب وزير الدفاع ” موشى ديان ” أو تبزها، والذي أخذت القناة التلفزيونية بعرض صوره على الشاشة .. لم يكن ” دافيد هيلين ” هذا .. سوى .. ” الهليون ” ؟؟؟!!! .. بشحمه ولحمه .. بشخصيته وصورته ؟؟!! .
أوضحت مقدمة البرنامج من خلال الشريط بأن ” دافيد هيلين ” هو من خيرة رجال المخابرات الإسرائيلية، وأنه تدرب في أرقى الأكاديميات العسكرية الإسرائيلية .. وهو يهودي فرنسي .. اختير لهذه المهمة بعد أن اجتاز العديد من الاختبارات الصعبة والعسيرة، والتي نجح فيها بامتياز ؟؟!! .
أصيب بعض المشاهدين بالصدمة الشديدة، وآخرون بالهذيان .. لأن الأمر وقع عليهم وقوع الصاعقة.
آخرون .. لم يستطيعوا أن يستوعبوا الأمر، فعقولهم لم تستوعب ما سمعوا .. وما رأوا .. وركبهم شيطان العناد .. وراحوا يصرون على أن ” دافيد هيلين ” غير ” الهليون ” رغم المشاهد الجلية الواضحة، وراحوا يعللون الأمر بأن الكثير من الأسماء والشخصيات تتشابه ؟؟!! .
ويؤكدون بأن ” الهليون ” مجرد رجل بائس فقير .. و” مقطوع من شجرة ” .
آخرون ما زالوا وحتى أيامنا هذه تحت الصدمة النفسية القاسية .. والبعض يتساءل عن حقيقة الميدان الذي يقع في أحد شوارع “تل أبيب” .. والمسمى ” ميدان الهليون ” ؟؟!! أو ميدان هيلين ” ؟؟!! .
مقدمة البرنامج راحت تصف العملية المعقدة لفرقة ” الكوماندوز ” المحمولة جوّاً، والتي كان هدفها القيام باسترداد جثة ” دافيد هيلين ” من إحدى مقابر المسلمين في المناطق المحتلة وذلك بعد أيام قلائل من دفن الجثة في تلك المقبرة.
المذيعة راحت تصف تلك العملية بوقائعها وتفصيلاتها وحتى لحظة وصول جثة ” دافيد هيلين ” إلى داخل الكيان المسخ ..
في النهاية .. نوهت المذيعة بأن قائد تلك المجموعة هو .. الكولونيل ” يوشع دافيد هيلين ” ؟؟؟!!! .
* * *
المعلومات السرية جدّاً والمتوافرة لدى أجهزة استخبارات رجال المقاومة الفلسطينية وبشكل سري بحت، كانت قد وضعت “الهليون” في دائرة الشك .. وذلك منذ نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي.
حصيلة المعلومات المتوافرة .. وحيثيات ملف الرجل ” الهليون ” كانت بيد القائد الفلسطيني الغزيّ .. بطل المقاومة الفلسطينية وقائدها في تلك الحقبة الزمنية .. القائد العسكري الشهيد محمد الأسود .. والملقب ” جيفارا غزة ” .. والذي كان المسؤول الوحيد عن الملف الأمني للكثير من العملاء والمدسوسين .. وعلى رأسهم ” الهليون “.
حصيلة المعلومات توضح بأن الشخص الذي يدعى ” الهليون ” والذي يسكن في بلوك 3 في مخيم الشاطئ شرقي حسبة السمك، طويل القامة، أشقر الشعر، صاحب البشرة البيضاء والتي تميل إلى الحمرة، قويّ البنية، والذي هو في نهاية العقد السادس من العمر، والذي يسكن بمفرده، الأعزب، الذي ليس له أولاد أو عائلة أو أهل، والذي هو ” مقطوع من شجرة ” والذي لا يعرف له أصل، والذي هو رجل غامض وغريب الأطوار.
والذي يقوم بـ ” نزح المجاري ” لمنازل مخيم الشاطئ مقابل أجر معلوم موحد يدعو إلى الغرابة أيضاً كشخصية صاحبه ( ليرة واحدة شريطة أن تكون ورقية ؟؟!! وقطعة صابون لوكس وزجاجة كولونيا خمس خمسات ؟؟!! ) .
والذي تقول بعض المعلومات أنه حضر إلى غزة عن طريق البحر من بيروت وتم إلقاء القبض عليه والتحقيق معه ثم إطلاق سراحه، وسكناه في البداية في ” براكس ” .. أو ” براكية ” من الزينكو ( الصاج ) القديم المهترئ، والذي هناك ادعاء ( ولعله تمويه ) من الرجل بأنه كان يسكن في أحد المعسكرات الوسطى بالقطاع ثم انتقل إلى مخيم الشاطئ ؟؟ ) وكلا الأمرين مشكوك فيهما .. وتوحي بأنه تم زرعه لأهداف استخباراتية من قبل العدو الصهيوني في المخيم بشكل أو بآخر .
والذي يبدو أنه اختار – أو لعله تم الاختيار له – مهنة ” نزح المجاري ” لدورات مياه المخيم .. والذي بحكم مهنته تلك أصبح يعرف كل بيوت المخيم .. وكل رجاله ونسائه وأطفاله وشيوخه .. والأهم من كل ذلك .. شبابه ؟؟!!
والذي كان يجلس في بعض الأوقات أمام منزله على كرسي خشبي متواضع جدّاً ، قاعدته من القش المحلي الصنع، وبدون ظهر يستند عليه، يجلس مداعباً الأطفال، موزعاً عليهم الحلوى والسكاكر، مردداً عبارته الشهيرة للأطفال :
– كلوا .. هذا من خير أهلكم ؟؟!!
التقارير السرية لأجهزة الاستخبارات الوطنية تستكمل الملف :
في ساعات المساء يرتدي ” الهليون ” ملابس جميلة غريبة على سكان المخيم، ويتوجه ناحية منطقة الميناء على شاطئ بحر غزة، حيث الكازينوهات والمطاعم السياحية، يجلس دائماً في مطعم معين .. يتبادل الحديث الهامس مع مدير المطعم، يتبع ذلك تسليم ” الهليون ” مظروف ورقي كبير يحتوي على زجاجتين من الخمر ملفوفتين ببعض الأوراق المشبوهة التي قد تكون رسائل سرية.
وفي بعض الأحيان يجلس ” الهليون ” مع بعض الشخصيات ( التي يبدو بأنها أجنبية ) والذين هم ضباط مخابرات للعدو على الأرجح، يخرج بعدها ” الهليون ” .. ” سكران ” بعد أن ينقد صاحب المطعم بعض النقود الورقية ؟؟!! الورقية بالذات ؟؟!! من فئة الليرة ؟؟!! والتي قد تكون عبارة عن رسائل سرية .. بما كتبه عليها ” الهليون ” من عبارات وإشارات، واحتمال استعمال الحبر السري للكتابة.
يسير ” الهليون ” في أزقة المخيم وهو يدندن بألحان وكلمات غير مفهومة ؟؟!! متأبطاً زجاجة الخمر الأخرى .
في بعض الأمسيات كان ” الهليون ” يتسلل خلسة والقيام بالتوجه إلى طرف المخيم من الناحية الشرقية الجنوبية، حيث بيت الراقصة الشهيرة ( أنصاف ) والتي كانت تقوم بإحياء حفلات الأفراح في المخيم والمناطق المحيطة، فيكمل سهرته في بيتها معاقراً زجاجة الخمر التي كان يتأبطها .. فتطول السهرة حتى الصباح، وقد يقضي ليلته هناك في بعض الأحيان وحتى الصباح.
في بيت الراقصة تقام ليالٍ حمراء يرتادها الكثير من الشباب ؟؟!! والتي قد تكون وكراً للإسقاط واصطياد ضعاف النفوس من أبناء المخيم للسقوط في مستنقع العمالة.
وفي أوقات متباعدة، كان ” الهليون ” يختفي .. ساعات طويلة.. قد تطول إلى يوم أو يومين ؟؟! ولا أحد يدري أين يذهب الرجل خلالها ؟!! .
خلاصة الأمر أن التقارير تصل إلى .. أن ” الهليون ” يبدو بأنه يدير شبكة كبيرة للإسقاط والعمالة ؟! .
…. يتبع ….