كمهتمين بالشأن الثقافي والإبداعي منذ انطلاقة المقهى الأدبي ببروكسل (المقهى الأدبي الأوروعربي-بروكسل) حاليا، بعد هيكلته قانونيا بتسجيله جمعية ثقافية بدون هدف ربحي، وهيكلته بانتخاب لجنة تنظيمية له بشكل دوري تقوم بتأطير دوراته وتنظيمها، وهي لا شك نقلة نوعية تندر أو تنعدم أصلا في المشهد الثقافي المغربي ببلجيكا خاصة وربما أوروبا قاطبة، الذي أصبحت ميزته الارتجال وقلة المهنية والكفاءة، والارتزاق. نشعر بالارتياح بعد كل دورة نقيمها للمقهى الأدبي ولا أقول نجاح الدروة فنحن لا نحب تلك الكلمات الرنانة والجمل الطنانة التي تسوق مجهودا -لا نبخسه طبعا- وكأنه إنجاز خارق باعتبار أنفسنا مساهمين ومستمرين في الساحة كما أي طرف آخر يساهم فيها ويدلي بدلوه في نفس البئر التي ندلي بها دلونا، مع احتفاظنا بحق الطلب من هؤلاء الشركاء التحلي بروح الإبداع والتواضع، فالمثقف والمبدع عموما شخص يفترض فيه أنه ذو روح حساسة ومُحبة تشعر بالآخر وتعبر عنه كما عنه بلغتها الإبداعية، ولا تترفع عليه ولا تتكبر بما حباها الله من موهبة.
تعرض المقهى الأدبي منذ دورته الأولى وانطلاقته الصعبة إلى عدة محاولات اختراق وركوب على جهوده وأعضائه، بدأت بمحاولة بعض مؤسسيه منذ البداية بالاستفراد به خارج الجمع العام وتوجيهه حسب رغباتهم الشخصية لجعله كيانا ذاتيا نرجسيا، في حين كانت رؤية آخرين له أن يصبح مؤسسة لا تستغني عن الفرد فالفرد هو المبدع والحاضن، لكن في نفس الوقت بوضع تقنين مشترك ولو بشكل عرفي يصبح لمسات تأسيسية لمفهوم الواجب والحق، ونشر الفكرة حتى تنتشر الرؤية وتعم روح المبادرة في نسيج المجتمع المغربي والمغاربي والعربي ببلجيكا من خلال تقديم المهاجركمبدع أيضا وليس فقط جسر يوروهات بينه وبين بلده الأصل.
كان المقهى الأدبي (كجمعية اتفاقية بين مجموعة من المبدعين) يفتح أبوابه لكل طارق دون توجس منه أو ريب من خلفياته، فهو ليس حزبا ولا منظمة سرية، كما لا مال ولا شهرة ترجى من ورائه غير بذل الجهد والمال والوقت، للاستمتاع بجمال الكلمة ورهافة الحس سواء كان فنا تشكيليا أو موسيقى أو غيرها من الفنون الجميلة، وكلما كان أحدهم يقترح نفسه لمهمة أو منصب كنا نلبي دون أدنى تردد، فالهدف أولا وأخيرا كما كنا نظن -واحد-. لم نكن نعلم بعد أن هناك نفوس مريضة تبحث عن الظهور باي ثمن، ولم نكن نعرف بعد أن هناك من يتاجر بصور وفيديوهات أنشطتنا ويجني من ورائها أموالا طائلة. كانت كل خطرة سلبية تفتضح لنا مع الأيام مثارا لتساؤلات نجابه بها “المتسلق”، لا لشيء إلا لنفهم “دافعه”، وكانت ردة فعل هذا وهؤلاء تلطيخ سمعتنا وصورتنا الحضارية الإبداعية ونشاطاتنا ونزاهة أهل المقهى الأدبي، وكان غالبا ما يقع شق للصفوف داخلنا ينتهي بإعلان كيان آخر موازي لنا يقوم بنشاط أو نشاطين على الأكثر ثم يختفي من الوجود، ونكاد نجزم بفشل كل الكيانات الوهمية الموازية التي كان تأسيسها مجرد ردة فعل ومعظمها مغربية صرفة، لسببين:
- عدم توفر شرط الإبداع في القائمين عليها، فلا هم شعراء ولا هم كتاب ولا هم مفكرون ولا مبدعون ولا أي شيء، وإنما هي ورقات مصلحية تربطها بصاحب مال أو نفوذ غالبا ما يكون سياسيا يستثمرهم في حملة انتخابية ثم يلقي بهم إلى سلة المهملات.
- أنها كيانات تعيش فقط في الماء العكر وفي جو المشاحنات والصراعات، فإذا لم تطعم “تحرشها الثقافي” بحطب الحقد مثلها أكلت نفسها ثم اندثرت.
وما زلنا نطرح نفس السؤال: ما هي دوافع شق الصف الثقافي المغربي ببلجيكا وبروكسل خاصة، وما هي محصلة الكيانات البديلة الكثيرة التي انتشرت في فترة معينة كالفطر، وما هو حضورها ومساهماتها وإسهاماتها؟ الجواب هو صفر، والنتيجة هي اندثارها جملة وتفصيلا.
وفي النفس والذاكرة قصص مؤلمة جدا وطعنات ممن يطرحون أنفسهم كبدائل لنا أو منافسين نربأ بأنفسنا أن نذكرها أو نأتي على تبيانها، فقد كان جوابنا دائما هو في استمرارنا وقطعنا المسافات، أولا بالإبداع والخلق، وثانيا إلى النظر فقط امامنا وليس أبدا نحو العقبات والمطبات التي خلفناها خلفنا. المقهى الأدبي كيان مفتوح للجميع منفتح على الكل، لكنه لن يكون بأي شكل من الأشكال ذريعة لحب الظهور والبروز وتنصيب المناصب الوهمية.
سؤال أهم نطرحه هو ما هو إبداعها الذاتي غير رئاسة الجمعيات وصولات الجمجمات والتعليقات على صفحات المواقع الافتراضية، و”مسح الكابة” للمسؤولين والمانحين والسياسيين، والتصفيقات في التجمعات الممولة من جهة “مبقششة” جدا سواء كانت مغربية أو بلجيكية أو أوروبية؟ والرقص على كل الحبال في حفلات الهرج والمرج التي اختصرت معظم نشاطات الجالية وأنشطة الوهم والشنار وخسارة الهوية والاعتبار، والتي لا شك ستعلن إفلاسها بمجرد ما سيتوقف عنها الدعم المالي الذي يستنزف ميزانية الدولتين المغربية والبلجيكية لا محالة.
34 دورة للمقهى الأدبي وما زلنا نسمع أنه كيان إقصائي متفرد بالساحة، وما زلنا نسمع أن مؤسسيه وخاصة رئيسه متسلط متكبر، نسمع من بعيد ما ليس نسمعه ممن يشاركنا الهم والفعل سواء ببلجيكا أو فرنسا وهولاندا أو ألمانيا أو إيطاليا، وهي الدول التي امتدت إليها تجربته وتأسست رابطته الأوروبية بها انطلاقا من السفح نحو القمة وليس العكس، فمن ينطلق من القمة إلى السفح هو إنما عادة الهاوي الهاوي، الذي لا يقدر الأمور إلا تنظيرا، أما في العملي والممارسة فهو مجرد حالم.
المقهى الأدبي يأخذ بيد الجميع ويحبب إليهم الممارسة الإبداعية بشتى أنواعها، فكم من شاعر تخرج من المقهى وكم فنان ابتدأ مشواره الفني منه وكم من فاعل ثقافي كان المقهى بدايته، وما أجمل أن يصبح المتلقي فاعلا وما أجمل أن يصبح التلميذ أستاذا حتى لمن علمه.
ما أؤكد عليه في هذا المقال هو ضرورة التمييز بين الكيان ومؤسسه ورئيسه، المقهى الأدبي ليس جمهورية توريث بل هو فكرة انطلقت من لا شيء وبدون دعم حتى كتابة هذه السطور، لكنه انتقل خلال أربع سنوات من الحضور الجدي ليس فقط إلى مؤسسة ببروكسل بل تخطى الخارطة البلجيكية إلى الأوروبية إلى العالمية، وإذا كان أحمد حضراوي هو أحد أبرز مؤسسيه وليس الأوحد، فإن المقهى شق طريقه وحده بغض النظر عن مؤسسه، سواء استمر فيه أو دفعته ظروف انشغالاته إلى ميدان آخر سواء الكتابة أو الإعلام أو الديبلوماسية الثقافية التي تتطلب منه جهدا وغيابا عن المقهى. أحمد حضراوي بدأ الحراك الثقافي منذ أن كان شبلا ككشاف، واستمر فيه منذ شبابه حتى شيبته، أما المقهى فمؤسسة نريد لها أن يحمل لواءها جيل وأجيال بعدنا.
وأنوه أيضا إلى مسألة مهمة وهي أن المقهى الأدبي كان في بدايته نتاج طاقات مغربية لكنه لم يحب يوما أن يسقط في عصبية القطر أو الجهة بل فتح أذرعه لكل الأشقاء العرب، فلم يسم نفسه لا بيت شعر المغرب ولا المقهى الأدبي المغربي إيمانا منه بروح المواطنة العربية من المحيط إلى الخليج إلى القطب الشمالي إلى استراليا، لكنه لم يكن أيضا مطية لمتشظيي الهوية الذين حلوا حديثا على الساحة الثقافية البلجيكية ليس لنقل حمولة ثقافية وإنما للاسترزاق من الفعل الثقافي الجديد تزامنا مع تعاطف العالم وأوروبا خاصة مع محنهم التي لا تتوقف. والمقهى الأدبي ما زال يرجو أن يتحقق الاندماج العربي في المنظومة الثقافية البلجيكية بعيدا عن الكبر المشرقي والعقدة المشرقية التي لم تعد تنطلي على أحد. فالحضور الثقافي المغربي بقلب أوروبا ماض وحاضر ومستقبل أيضا.