“إذهب! فأنت حر!” أو “إذهب فلا جُناح عليك!”.. إنها نكتة كنت أتداولها والجيل الذي قاسمني الدراسة الابتدائية في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات.. أي الجيل الذي كانت بيداغوجية معلّميه ـ رحم الله معظهم ـ تقوم على الترهيب قبل الترغيب!.. تقوم على العقاب وأحيانا دون معرفة الأسباب!.. ومفاد النكتة أن معلماً بعد عودته إلى تلاميذه من استراحة الفطور الثاني مع زملائه.. وجد الفصل رأساً على عقب من جراء فوضى أحدثها الصغار.. فقرر معاقبة كل تلميذ على قدر ما ارتكبه.. وهكذا بعد الاستماع إلى اعترافاتهم واحدا واحدا حبس من كسّر الزجاج أو المقاعد بقبو المدرسة حيث تصول وتجول الفئران، ضرب من مزق الكراسات أو الصور المثبتة باللصاق على الجدران، وصفع من أحدث خربشات بتلك الجدران.. ولم ينجُ من العقاب سوى أفدح التلاميذ جرماً، والذي اعترف قائلا: “قذفت بالورق المقوى من النافذة يا أستاذ!”.. وقال له المعلم غافلا أن “الورق المقوى” الاسم العائلي لتلميذ بالفصل نفسه: “إذهب إلى بيتكم، فلا جناح عليك!”
“إذهب فلا جناح عليك!” قرار معلّم مغربي متخيّل كان مدعاة للضحك في الصبا المبكر.. و”إذهب فلا جناح عليك!” قرار إحدى المحاكم الإيطالية مدعاة للأسف في الكبر!.. وأعني الحكم القضائي الذي خُصّ به في الأسابيع القليلة الماضية شخصٌ قصد بكامل إرادته كنيسة الحي حيث يسكن ليعترف للقسّ بأنه سنة 1994 أوسع “تيريزا” ضرباً حتى القتل ثم شحن جثتها بصندوق السيارة وقصد أطراف البلدة حيث تمرّ قناة الماء الرئيسية ورمى بالجثة هناك قبل أن يذهب إلى المدرسة ويحمل الأبناء إلى البيت وكأن شيئا لم يكن!.. والمأسوف على شبابها “تيريزا” لم تكن سوى زوجته وأم أولاده!.. الأولاد الذين جعلهم يعتقدون منذ 1994 حتى أسابيع خلت من 2013 ومعهم الأهل والجيران أنها هجرته وهجرتهم وهربت مع عشيق لها خارج إيطاليا على خلفية محاولة هرب سابقة أقدمت عليها المرأة دون خليل أو عشيق لكن فراراً من جحيم عنف لفظي وجسدي متكرر..
كان هذا نص شهادة أدلى بها القسّ للدرك الإيطالي (الكارابينييري)، نقلا عن اعتراف زوج قاتل، قرر التخلص من سرّ كتمه لما يقرب من 20 عاماً.. وهو نص الشهادة الذي رفعه الدرك إلى المحكمة مع مذكرة توقيف في حق الجاني لكن القضاء الموقر ارتأى من خلال حكم نهائي عدم متابعة القاتل بسبب التقادم!.. وحكم كهذا يقضي بعدم المتابعة أو المتابعة في حالة سراح، أو إخلاء السبيل بعد قضاء ثلث أو ربع المدة بعد الإقدام على جريمة في حق امرأة ـ وإن اختلفت الحيثيات والتفاصيل ـ ليس الأول من نوعه بإيطاليا.. التي تشهد سجونها تكدساً فظيعا وتحظى في المقابل بميزانية جدّ جدّ هزيلة في ظل الأزمة المالية الخانقة.. لكن هذا لا يبرر إخلاء سبيل الجناة.. خاصة وأنه لا تكاد تمر سنة دون أن يتراوح عدد القتيلات النساء من ضحايا العنف الزوجي أو الذكوري بصفة عامة ما بين 55 و70 امرأة من مختلف الأعمار والفئات الاجتماعية.. وقد قلت العنف الذكوري لأن الجاني يكون أحيانا الخليل الذي يعترف به القانون رفيقا للحياة، أو العشيق المتزوج الذي يخشى افتضاح أمره في حالة وقوع حمل .. كما لو أن الثورة النسائية لسنة 1968 لم تأت لتفرض على المُشرّع تعديل القانون ببنود تحمي المرأة، وعلى رأسها إقرار الطلاق الذي كان تمنعه الكنيسة، وتمتيع المطلقة بحقوق مادية مهمة ومعنوية تكفيها العوز والحاجة خاصة إذا كانت حاضنة.. لكن لجعل الرجال يجنحون إلى القتل بدل إحقاق العدل! فهل “من العدلِ ما قتل؟!”..
قصارى القول.. يستحسن أن تصلي نساء المغرب ركعتي شكر لله لكون الرجال يبقون عليهن على قيد الحياة وإن قتلوهن في اليوم ألف مرة بال”نكير”..