تملكني الشعور بالغضب والحنق قبل أن أستمع إلى خطاب دونالد ترامب وقد علمت كما علم كل الناس بمضمون خطابه قبيل إلقائه، فالرجل واضح طرحه حارم نهجه لا يترك لك هامشا للتخمين أو الترقب بل منسجم مع طرحه المجنون الذي تسبقه النذر قبل الخطاب.
غير أني وأنا أستمع إلى خطابه لم أشعر بذلك الغضب الذي تهددني من قبل وكاد يسيطر علي ويغمرني من لا وعيي حتى إدراكي التام بهذه المرحلة الحرجة التي لا حول له ولا قوة بإدخال العالم العربي فيها والتي ليست في الواقع غير تحصيل حاصل وقطف لنتائج أصبح بديهيا قطفها وقد اعتُصرت فيها المنطقة العربية وخاصة دول الطوق أو المطلة عليها، ودول الخليج المنشغلة بجبروتها في حروب هامشية، ودول ما بعد خط التماس مع غزة وهي مصر الكلب الغربي الحارس لحدود الكيان الغاصب.
مثلما تم الإجهاز على العراق -البلد العربي الوحيد- الذي طالت صواريخه العمق الإسرائيلي بعد أن استنزف في حرب مع إيران، والقضاء عليه بعد تهوره وسنه احتلال البلد العربي لبلد عربي مثله كسابقة خطيرة في العلاقة العربية العربية مما أدخل المنطقة العربية في شبه حرب بين الأشقاء انتهت بالقضاء على صدام حسين ونظامه، والذي لم ينته إلا والعراق رهن بيد إيران عدو الأمس تتحكم فيه كيف تشاء وتسلم زمامه لعملائها من الأكراد والشيعة وتضع جغرافيته على أطباق التقسيم حسب الأعراق والطائفية. ومثلما تم الإجهاز عليه تم الإجهاز على بقايا ماء وجه سوريا التي طالما تغنت بعروبة جيشها الممانع المقاوم الذي أثبت في أول امتحان له أمام شعبه أنه ميليشيا طائفة علوية ذات مزاج رافضي تأتمر بأوامر الولي الفقيه في طهران، هذا الولي الفقيه الذي انهالت عليه ولاءات ميليشيات كانت تحسب قبل الثورة السورية على المقاومة التي تسعى إلى تحرير الأرض -جنوب لبنان- فأثبتت مرة أخرى أنها مجرد مخالب لهذا الفقيه يحركها لمصالحه الطائفية فتنقلب بين ليلة وضحاها من خندق المقاومة إلى فيالق احتلال تسطر في أول سابقة كيف يحتل حزب -حزب الله- دولة مثل سوريا ليذبح شعبها باسم القضاء على الإرهاب ويتمدد إلى أقصى جنوب الجزيرة العربية ليطلق من بين الحوثيين صواريخه على الشرعية اليمنية بل ويتعداها إلى مدن المملكة السعودية والإمارات العربية.
نار سياسات عربية خاطئة تتمدد من أقصى دولة عربية شرقا على حدود فارس إلى ضفة الأبيض المتوسط الشرقية لبنان، إلى جنوب الجزيرة العربية التي اشتغلت صحراؤها بحرب الإخوة الأعداء، الإخوة الذين كان مجلس الخليج الذي أسسوه لربما الكيان العربي المتماسك الوحيد لمدة سنوات قبل أن يتفكك بسبب أزمة حيض سنين عجز الملك سلمان بعد بلوغه سن اليأس وقد جاءه الملك على كبر فأوكله على مضض وألزايمر إلى ابنه المخنث الظمآن إلى السلطة محمد بن سلمان، الذي لم تشفع له دراساته وشهاداته في فهم الواقع بحكمة فأطلق سهامه في كل اتجاه: الشام واليمن فلم يظفر لا بصيد ثمين ولا بصيد بهزيل. فلما استعان بغلمان زايد بالإمارات زادوا طينه بلة وخسارته خسرانا فأوقدوا حرب اليمن فكانت مستنقعهم الذي غرقوا به وقد استهانوا بقدرات إيران في تجنيد العملاء والمرتزقة الذين احتلوا صنعاء، وقد يحتلوا غدا جازان والرياض وأبو ظبي، ليس لقوتهم لكن لتوفرهم على عقيدة قتالية لا تتوفر للجيش المقاتل المقابل.
اشتعل الخليج حربا، والضفة اليسرى للبحر الأحمر ليست بأحسن حال من ضفته اليمين، فالسودان سودانان وقد يصبح أسدنة، ومصر التي يوشك نيلها أن يجف لا إمكانية أبد لأن يجف دم أبريائها وفرعونها يؤسس لسفك الدم في سيناء بخلق سيناريوهات الدعشنة ضد نظامه، حتى يستطيع من جهة إلحاق صفة الإرهاب وإثباتها على جبهة الإسلاميين الذين انقلب عليهم، ومن جهة أخرى إرسال كل من يخالفه في المؤسسة العسكرية في نهجه الانقلابي إلى سيناء إما ليضرب به خصومه فيها فينتهي منهما معا، أو يقوم بتصفيتهم بالجملة ليلحق التهمة بمن شاء فيتسنى له ضرب عصفورين بحجر واحد، بل ثلاث عصافير فالهدف الأكبر هو نزوح السيانويين عن سيناء ليتم إخلاء هذه البقعة الطيبة من جميع أهلها ليتم استيطان الفلسطينيين فيها في موجة نزوح جديدة لهم، وربما قبولهم بإعلان دولتهم على هذه الرقعة، والتي دفعت مصر من قبل ثمنها للمملكة السعودية التي ستمول هذا المشروع الكبير، ذلك الثمن الذي لم يكن غير جزيرتي تيران وصنافير!
لم يبق أمام الكيان الدخيل غير إعلان القدس عاصمة أبدية له، ولتفادي اندلاع ثورة أو انتفاضة من تحت أقدامه، المشروع ماض على قدم وساق لتهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية وغزة نحو الصحراء إلا من كيان عربي عميل له عاصمته رام الله ورأس عمالته سلطة مشلولة قد يحتفظ بها لفترة أخرى لتوقع على شهادة القضية الفلسطينية في مرحلة لاحقة، وبعدها يتم التخلص منها بشكل نهائي، وعليها يسدل مشهد النصر الصهيوني.
ورغم مأساوية المشهد، الإحساس الذي يراودني وهو رغم عمالة الأنظمة العربية وتواطئها مع المشروع الصهيوني، فإن ما لم يحسب حسابه لا ترامب ولا حكام تل أبيب هو الانتفاضة المباركة التي وكأني أراها رأي العين، والتي ستكون وحدها قادرة على إعادة القضية الفلسطينية ومدينة القدس إلى الطريق الصحيح اتجاه التحرير، انتفاضة الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة ضد الاحتلال والاستعمار، فقضيته ليست قضية صلاحيات سلطة أو حكم ذاتي، قضيته قضية تحرير أرض من قبضة محتل غاصب، والأيام بيننا.