منذ أربع سنوات، كان الطقس باردا، وأنا أريد أن أدخل إلى المنزل وذلك بعد صلاة العشاء، فإذا بي أفاجأ بفتاة قاصر تستنجد بي، وهي واقفة قرب سيارة مركونة قرب إحدى الجيران برفقة شاب يتجاوز الأربع والعشرين من العمر، لا يريد أن يتركها تذهب إلى حال سبيلها، حاولت التدخل برفق وطلبت منه أن يتركها لحالها لأن الوقت متأخر، وقلت له : هل تقبل بأن تكون لك أخت في سنها، يعترض طريقها شاب في عمرك، ويعاملها بهذه الطريقة المهينة، فنهرني ورد علي بلسان قبيح، وهددني بالقتل، فلم يبقى أمامي سوى الاتصال بالشرطة التي جاءت بسرعة وقامت باعتقاله في الفور.
هذا ليس مجرد مقتطف من سيناريو أحد الأفلام الأمريكية التي تعالج وضعية المراهقين المنحرفين، بل هي حادثة حقيقية حكاها لي أحد المحامين عاشها بكل آلامها وسخافتها. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، يضيف صاحب البذلة السوداء، فقد أكد لي أنه أصيب بالدهشة لما سأل رجال الأمن الجيران وبعض المارة الذين عاشوا معه الواقعة، فرفضوا الخوض في الموضوع وصاموا عن الكلام واعتبروا الأمر لايعنيهم لا من قريب ولا من بعيد، ولسان حالهم يقول : ” وماذا خرجت تفعل هذه البرهوشة في هذا الوقت، فهي تستحق أكثر من هذا “.
هذه واحدة من الحوادث التي تحدث بشكل متواتر في كل مدن المملكة وقراها، وأضحى المواطنون يتعاملون معها بشكل بارد، وبسلوك أقل ما يمكن نعته بالسخيف، والسؤال: هل هناك تحول في بنية العلاقات بين أفراد المجتمع ؟ وهل التوسع العمراني ساهم في توسع الهوة في العلاقات الاجتماعية والإنسانية ؟ أم الأمر لا يعدو أن يكون مجرد بروز قيم جديدة في المجتمع ؟
ما يجمع بين هذه الأسئلة الثلاثة هو وجود عناصر ثلاثة وهي الإنسان والمجال والقيم، والملاحظ أن هذه العناصر لا يمكن فصلها عن بعضها البعض، لأنها متداخلة ومترابطة، فالإنسان لا يمكنه أن يعيش في الفراغ، فهو يحتاج إلى مجال ينشط فيه وينقل معارفه وهواجسه وتجاربه من جد إلى جد، وهذا مسار كل الشعوب عبر الزمن ولعل الأركيولوجيا تنقل لنا أثر هذا الإنسان بنوع من الحياد، والاستقلالية المطلوبة.
الإنسان المغربي لا يخرج عن هذه الخاصية أو هذه الدورة الحياتية، فهو كبقية الشعوب عرف تطورا في كل مناحي الحياة، في الأكل واللباس والعادات والعلاقات، ولعل كل التطورات التكنولوجية الجديدة ساهمت بشكل كبير في تغيير نظامه المعيشي والعلائقي، ولعل أهمها التلفزيون والمسرح والسينما كوسائل تعبيرية وترفيهية وتثقيفية، غيرت من طريقة تفكيره وسؤاله لذاته وللآخر، تم وسائل النقل كالسيارة والقطار والطائرة والتي غيرت نظرته للعالم (أصبح العالم قرية صغيرة). كل هذه الوسائل الجديدة ساهمت من قريب أو بعيد في إعادة تعريفه للمجال.
بالنسبة للمجال يعتبر مساحة الصراع الحقيقي بين الأفراد، لا يمكن الحديث عن تاريخ الحروب بين الأمم دون الحديث عن مجال حدوثها، ولهذا فالأفراد يحتاجون إلى مساحات من أجل الحرث، ويحتاجون إلى مساحات من أجل اللعب، فالإنسان مجبول بطبعه على الصراع والاحتفال في نفس الوقت.
وهندسة المجال بمعايير جديدة، بأشكال مدهشة، كان له بالغ الأثر على شهوة الإنسان المغربي وعقله، وجعله ينقل عن الأمم الأخرى كل ما يجعله متميزا ومختلفا، وبات همه في جعل مجاله متنوعا ومبهرا من نافورات الماء، ومجسمات بأشكال إبداعية، وبنايات راقية من الرخام والزجاج، ومقاهي وفنادق، وعلى هذا الأساس حاول زرع كل الشبكات الجديدة التي تسهل ولوجه إلى مكانه المفضل. على كل حال حاول الإنسان المغربي بكل الأشكال أن يشبه مجاله بكل الوسائل الممكنة، هل توفق في ذلك أم لا ؟ المهم فقط حاول تطويع هذا المجال بما يخدم احتياجاته المتنوعة، فأثر فيه وتأثر به وأصبح له قيم جديدة.
بالنسبة للقيم، فعلى مر العصور الإنسان ينتج قيما جديدة، لأن الإنسان بطبعه ميال إلى التغيير وإلى كل ماهو جديد، وكل جيل يحاول أن يصنع لنفسه ذاكرته الخاصة والمتميزة عن الجيل السابق، فهو دائما يحاول أن يحرق السفينة بكل مافيها من أثقال قديمة، ويسعى للإحتفاظ لما هو نفيس وجديد ولامع، فهو يتمنى قتل ربان السفينة، لكنه يخاف من الغرق، ولهذا فهو يحتفظ به للطوارئ، هكذا الإنسان المغربي، يريد أن يرمي كل شيء في الماء من قيم قديمة لكنه يخاف أن تنزل به السفينة إلى قاع البحر، ولذلك فهو يحتفظ بالعديد من القيم لأنه يرى في الوقت الحالي أنها لا زالت تعطيه نفسا وقيمة بين الشعوب.
ومن باب الأمانة، يجب أن نقر أن الإنسان المغربي، عرف تحولا قيميا (من القيم ) كبيرا وعلى كل المستويات، الأكل واللباس، والمعاملات، والسكن، والأعراس، والمآتم، وعلى ذكر المآتم فقد أصبحت تقام في آماكن خاصة وبمواصفات عصرية حتى أنك تعتقد أن الأمر لا يتعلق بوفاة شخص من الأشخاص وإنما بعرس من الأعراس.
ونفس الشيء يقال عن الأعياد، فهناك من أصبح يقضي أيام عيد الأضحى بفندق من الفنادق المصنفة مع أولاده دون أن إعطاء للأضحية أية معنى أو رمزية دينية أو تعبدية. وقد تجد أغلب أفراد المجتمع يقضون أغلب الأوقات في المقاهي أو العلب الليلية على الذهاب إلى بيوتهم وقضاء الوقت مع أولادهم وزوجاتهم.
نفس الأمر يتعلق بالسكن، فقد عرف تحولات جذرية، فلم تعد تقبل الزوجة أن تعيش مع عائلة الزوج، فهي تفضل العيش بمفردها مع زوجها في بيت واحد بعيدة عن كل ما يمكن أن يقلق راحتها وخلوتها مع زوجها.
الآن نخلص إلى : مجال شاسع، بأشكال هندسية مختلفة ومثيرة وطبقية فجة، تساهم بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر في صناعة نفسيات متباينة، وعدوانية وموحشة في كثير من الأحيان، فتؤثر في سلوك الأفراد فتجعلهم أكثر غُرْبَةَ عن ذواتهم، وغَرابَة عن الآخرين، هنا المجال يصبح مصنعا لصناعة الوحوش.
بالنسبة للقيم، فالكل أصبح يلاحظ التغيير الجديد على نمط العيش للمغاربة، ساهمت فيه مجموعة من العوامل، والعديد من المتدخلين بشكل خفي، وأهم هذه العناصر الخفية، القروض كعنصر حاسم في تشكيل نوع الحياة للمغربي، وأصبح مقيدا بقواعد هذه القروض وخاضعا لقواعد اللعب الجديدة مع هذا الوحش الجديد، ودوره الكبير في تغيير القيم في المعاملات المالية بين المغاربة، ناهيك عن القيم التي سبق ذكرها وجميعها، ساهمت في بروز توجه جديد للإنسان المغربي.
بالنسبة للإنسان المغربي، أضحى محكوما عليه في ظل هذه التحولات الجديدة، أن يختار طواعية أو كرها نحو النزوع الفردي الحاد، وأصبح يفكر في نفسه أولا، وفي نفسه ثانيا، وفي نفسه ثالثا… وأصبحت تتردد عبارة أنا ومن بعدي الطوفان بين كل أطياف المجتمع.
الآن نعود إلى حادثة المحامي، لماذا كان المجتمع قاسيا على هذه الفتاة ولم يرد أحد أن يتدخل لإنقاذها من رعونة هذا الشاب ؟ ربما هناك تحولا جذريا في قيم المجتمع ولا نريد أن نعترف بذلك، وربما هي بوادر بروز دولة المؤسسات وحمايتها المفروضة للشأن العمومي، وربما هناك أسبابا أخرى ، المهم حان الوقت أن ينكب البحث العلمي على دراسة المجتمع المغربي الجديد.