قال (تعالى): ” يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۚ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ۚ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ ۚ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ۚ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۗ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ۚ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا” (النساء: 11).
ما فهمه جمهور المفسرين والفقهاء من الآية الكريمة هو أن “لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ” تنطبق في حالة وجود ذكر واحد على الأقل وأنثى واحدة على الأقل ضمن أولاد المتوفّى، بينما ينطبق قوله تعالى: “فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ۚ” في حالة كون عدد الأولاد الذكور = صفر.
شذ د. محمد شحرور وقال إن الأجزاء الثلاثة كلها في قوله (تعالى): “لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۚ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ۚ ” تتعلق بحالة وجود ذكر واحد ضمن أولاد المتوفّى، وقد فسر فهمه بطريقة رياضية بينتُ تداعيها من الأساس في الجزء الأول من ردي عليه.
سأتطرق في هذا الجزء الثاني إلى الجانب اللغوي (وهناك جزء ثالث وأخير سأفرد له مقالا مستقلا حتى لا أطيل على القارئ). لم أكن أحب أن أتحدث في هذا الجانب، لأنني لست لغويا، ولكن بما أن أستاذ الهندسة د. محمد شحرور طرح الجانب اللغوي في تفسيره على صفحته وفي لقاءاته التلفزيونية فلا بد من الرد على هذا الجانب ليكون الرد كاملا غير منقوص. عدا عن ذلك، وقبله، لقد نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين، وهو بذلك ليس كتاب هندسة ولا كتاب رياضيات، ومفتاح فهمه اللغة العربية حتى في الآيات التي تتحدث عن مسائل حسابية.
أنقل من صفحة د. شحرور: “نجد أن السادة الفقهاء قرأوا قوله تعالى: “للذكر مثل حظ الأنثيين”، لكنهم تطبيقاً نفذوه كما لو أنه قال “للذكر مِثْلا حظ الأنثى”. وهذا هو الخطأ الأول في قانون المواريث. قد يتوهم القارئ أن هذه القضية لغوية بحتة، لكنه بعد التأمل سيجد أنها أكثر من ذلك بكثير فالفرق كبير بين أن تضاعف عدد الإناث كما في قوله تعالى للذكر مثلِ حظ الأنثيين، أو أن تضاعف المثل كما اعتبر الفقهاء “للذكر مِثْلا حظ الأنثى” ففي الحالة الأولى هناك تابع ومتحول وهناك متحول مفروض هو الأنثى التي قد تكون واحدة أو اثنتين أو فوق اثنتين وأن الذكر هو التابع لمتغير هو الأنثى، لذا ورد ذكره مرة واحدة في الآية وتم تغيير عدد الإناث من واحد إلى اللانهاية أما في الحالة الثانية فلا تابع ولا متحول ولا أساس، والذكر يأخذ مثلي حظ الأنثى مهما كان عدد الإناث وهذا ما حصل فعلاً.”
يشرح د. شحرور في عدة لقاءات متلفزة كيف أن “للذكر مثل حظ الأنثيين” تعني بالنسبة له “للذكر (الواحد حظ يساوي حظ كل أنثى من) الأنثيين”، أي أن في الجملة عبارة محذوفة أدرجتها بين قوسين.
من المعلوم أن الحذف كثير في كلام العرب وقد يكون من أهم مزيات اللغة العربية، ومن أهم مصادر البلاغة فيها، وقد قالت العرب “لا تنفق كلمتين إذا كفتك كلمة”. في القرآن الكريم مئات الجمل التي فيها حذف يترك تقديره للقارئ المتدبر للآيات الشريفة (بعيدا عن المتشابه)، ومن أسباب اختلاف المفسرين والنحاة في كثير من الأحيان اختلافهم في تقدير المحذوف.
أتفق مع الدكتور شحرور في أن ثمة محذوفا في هذه الآية الكريمة، ولكن ما هو؟
قبل بيان المحذوف لنتفق على ضوابط مهمة حتى لا تكون هناك فوضى في التفسير:
(1) عدم المغالاة في تقدير المحذوف، فالمحذوف يجب أن يكون بقدر.
(2) وجود قرينة لفظية أو معنوية على المحذوف فلا يفتح الباب على مصراعيه للتخمين.
(3) أن يكون تقدير المحذوف مبررا من ناحية اللغة.
(4) أن لا يصطدم تقدير المحذوف بالمنطق.
(5) أن لا يصطدم تقدير المحذوف بالنصوص الصحيحة قطعية الثبوت قطعية الدلالة.
مربط الفرس هو كلمة “مثل” فما الذي تعنيه بالضبط؟
وردت كلمة “مِثْل” عشرات المرات في القرآن الكريم. بالرجوع إلى المعاجم نجد ما يلي:
* لسان العرب. “مِثل: كلمةُ تَسْوِيَةٍ. … فإِذا قيل: هو مِثْلة على الإِطلاق فمعناه أَنه يسدُّ مسدَّه.”
* الصحاح في اللغة. “مِثْلَ: كلمة تسوية.”
* مقاييس اللغة. “الميم والثاء واللام أصلٌ صحيح يدلُّ على مناظرَة الشّيءِ للشيء. وهذا مِثْل هذا، أي نَظِيرُه.”
* المعجم الوسيط. “المِثْلُ: الشِّبه والنظير.”
نفسر الآن الآية الكريمة باستخدام ما ورد في هذه المعاجم المعتمدة:
“للذكر (الواحد حظ يساوي) حظ الأنثيين” أو “للذكر (الواحد حظ يناظر) حظ الأنثيين”.
ما هو مبرر إضافة “كل أنثى من” إلى المحذوف المقدر؟! لا اللغة ولا المنطق ولا النصوص الثابتة تبرر مثل هذا التقدير.
* يتساءل الدكتور شحرور على صفحته وفي عدة مقابلات ما معناه: لو كان صحيحا أن حظ الولد الذكر مساوٍ لمثلَي حظ الولد الأنثى، فلماذا لم يقل الله (تعالى): “للذكر مِثْلا حظ الأنثى” أو “للأنثى نصفُ حظِّ الذكر” أو غيرها من العبارات التي تفيد ما فهمه المفسرون والفقهاء؟!
الإجابة:
– يقول الله (تعالى): “لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ” (الأنبياء: 23)، فليس لنا التساؤل عن سبب الصياغة بل علينا الإقرار بأنها الأبلغ ثم البحث عن الحكمة من هذه الصياغة.
– بنفس منطق د. شحرور، يحق لي أن أتساءل لماذا لم يقل الله (تعالى): “للذكر مثل حظ الأنثى”؟ فإن قيل لأن هناك حالات أخرى لا يكون فيها حظ الذكر مساويا لحظ الأنثى، أجيب بكل بساطة: هل عجز الله أن يصيغ ذلك بطريقة لا تدع مجالا للبس إن كان هناك لبس من الأصل؟! حاشى وكلا.
– إن النص محكم واضح الدلالة، والصياغة بليغة فلماذا تستبدل؟! والدليل على إحكامها ووضوحها الشديد أن لا أحد من العلماء قبل د. شحرور (بحسب علمي) شكك في ما فهمه المسلمون على مدار أكثر من 14 قرنا (وإن كان د. شحرور يعلم بوجود من سبقه فقد كان عليه أن يذكره من باب الأمانة العلمية)، ولله در المتنبي حيث يقول:
وليس يصح في الأفهام شيءٌ * إذا احتاج النهار إلى دليلِ
ولأنني اعتمدت في الجزء الأول منهجية الرد على د. شحرور بنفس أسلوبه فإنني أقتبس من صفحته (حول مسألة أخرى): “لا يعقل البتة أن أمة بكاملها فيها أمثال الفخر الرازي وابن سينا وابن رشد وابن خلدون والجاحظ ثم لا تلتفت إلى أمر خطير كهذا، على مدى قرون وقرون”، وأتساءل بنفس المنطق “كيف أقبل أن أمة بأكملها فيها أمثال الخليل بن أحمد، وسيبويه، والجاحظ وآلاف اللغويين لم ينتبهوا إلى أمر خطير كهذا حتى جاء د. شحرور ليُفهمها لغتها؟!”.
– لا أحجر هنا على فهم جديد للقرآن الكريم يتناسب مع العصر وما توفر لنا من معلومات جديدة عن الكون والحياة لم تتوفر لمن سبقنا، ولكني لا أقبل تفسيرا يتعارض مع اللغة أو يلوي عنقها ليّاً ليناسب نظرية توهم صاحبها صحتها لوجود بعض المؤشرات (الناقصة) عليها. لم يتحصل لنا علم جديد في اللغة يفيد هذا الفهم الجديد، بل العكس هو الصحيح: فهمنا للغة في تراجع مستمر حتى وجدنا من يشككون في المسلمات دون أن يفقهوا اللغة.
ملاحظة: أنا مع غربلة كتب التراث وعلى رأسها كتب التفسير غربلة كاملة ففيها (بلاوي زرقاء)، ولكني ضد أن يقوم بذلك كل من هب ودب، بل على المختصين القيام بذلك وفق منهجية واضحة حتى لا نقع في الفوضى المدمرة (غير الخلاقة) كالتي وقعنا فيها. هناك للأسف من يغرون بأي فهم جديد يوهمهم بأن القديم كله أو جله خطأ وهذا غير صحيح؛ في فهم السلف نسبة من الخطأ وجل من لا يخطئ.
– كيف يخطئ دكتور في الهندسة مثل هذا الخطأ؟!
بما أن “شرعنا الطاهر له الظاهر” وبما أن منهجيتي لا تسمح لي بمحاكمة النوايا، فإنني قد تفكرت كثيرا في ما دفع د. شحرور إلى ارتكاب هذا الخطأ اللغوي (الموضوع ليس مسألة لغوية عويصة حتى يخطئ فيها غير المختص). شاهدت عدة فيديوهات للدكتور شحرور وأظن أنني “ربما” اهتديت للسبب، وهو في رأيي “القياس الفاسد” بمصطلح علم الأصول.
يقول د. شحرور في إحدى مقابلاته: إذا قلت لك إنني أعطيتك مثل ما أعطيت (رِفْقاتك) فإن المعنى واضح وهو أن كل واحد منكم أخذ نفس المبلغ.
تمام. على عيني ورأسي. ولكن …
هل القياس صحيح؟! قد يتبادر للذهن للوهلة الأولى أن القياس صحيح، ولكن …
إن وجود كلمة (الأنثيين) مقابل (الذكر) بما تحمله من الدلالة على وجود مجموعتين متمايزتين، وبما تحمله من عدد يستبعد ذلك.
في المثال الذي ضربه د. شحرور هناك مجموعة من الرفاق وكلمة “مثل” هنا يمكن أن تعني، بل الأرجح أنها تعني، التساوي بين جميع أفراد المجموعة. لكن في المثال الذي نحن بصدده هناك مجموعة كلية (الأولاد) تنقسم إلى مجموعتين جزئيتين غير متقاطعتين: الأولاد الذكور والأولاد الإناث، والأَوْلى أن تقيس على قولك: “أعطيتك ما أعطيت رفيقين من رفاقك”، وهذا هو القياس الصحيح في رأيي المتواضع.