عندما يتعلق الأمر بتقييم مصداقية الفعل الإبداعي، تبدو الثقافة ــ بصفة عامة ــ شيئًا بسيطًا بالنسبة لمن لم يخض قطّ غمار التجربة، بل ومَضْيعة للوقت في عين المثقف نفسه إذا كان ممن يشكّكون في مسيرة المفكر والمبدع وفي قدرتهما على الخلق والتنوير. هذا وذاك، إنما يعبران إما عن جهلهما وإما عن قناعة موروثة مغلوطة، مفادها أن لا جدوى من الكلمة في وطن آفاقه مسدودة، وأنفاقه قاتمة، وأنفاسه مفقودة، تخنقها أيادي الاستبداد المركّب والمشكّل من تراكمات التسلط السياسي والإرث العقائدي والعادات الزجرية.
لسنا في عالم تعطّلت آلاته لنقول قد خرجنا بعالمنا عن قانون السيرورة، أو في قمقم يحرسه جنّي يملك القمقم وكلمة السرّ! نحن في عالم، كان وما يزال ــ منذ أسّسه آدم ــ مجالاً، أوّله وآخره الإنسان، إليه يجيء وفيه يحيا، يتصارع ويتصالح فيه إلى أن يموت، فينطق عنه ذكره بالذمّ أو الثناء عليه. هكذا هي الحياة، فطوبى لمن وُلد وفي داخله الإنسان، ليحيا من أجل الإنسان !
كانت السنوات التي عرفتُ فيها مدام زيراوي كافية لي لأجعل من هذه الكلمات فلسفة، أنظر في أحكامها فأتخذها مقاييسًا، أقيس بها أعمال الناس ممن أصادفهم على رقعة شطرنج الواقع الثقافي. إنها واحدة ممن آمنوا وساروا على هدي هذه العبارة، ولعلها لمحمد شكري : « قل كلمتكَ ودعها تأخذ طريقها !». نعم، لقد قالت السيدة كلمتها، وتركتها تسري كالدم في الشرايين، لما يقرب من ستة عقود، شعارها المحبة والسلام. كانت مهووسة بحب الإنسان، وظلت تقاوم الظلام والتطرف لتؤسس للأمل وتحلم ببناء جسر للتواصل بين الشعوب. منذ عرفتُها، ما كانت تملّ من ترديد هذه المفردات كعناوين لنشاطات وورشات لقاءاتها، بل وكانت تدوّنها في كتبها ورسائلها ومكالماتها لأصدقائها في كل أنحاء العالم. وكم كانت تحرص على ربط الصلات بين هؤلاء وأولئك وهي تجد لذة لا متناهية في التعاطي لهذه اللعبة الجميلة.
أول لقاء لي بالسيدة كان في بروكسيل قبل ثلاث سنوات. جئنا من دول كثيرة للتبرك بها، من فرنسا وإيطاليا وألمانيا، وجاءت هي بضيوفها ــ تحمل لنا شمس المغرب ــ لإحياء نشاط ثقافي كبير بالمركز العربي بنفس المدينة، نظمته جمعية «ملتقى الفن والإبداع» التي كانت تترأسها بعد أن أنشأتها في الدار البيضاء، في بداية التسعينات، كامتداد لصالونها الأدبي الذي جعلت بيتها مقرًّا له لمدة نصف قرن من الزمن. فتكرر اللقاء، وحضرتُه مرتين كمشارك ، كشاعر وكمنشّط للشقّ الفني والأدبي لأعمال الدورة.
لم أكن أظنني أهلاً للقيام بمهمة كهذه، خاصة وأنه كان من بين الحاضرين أكاديميون ومفكرون وسياسيون وفنانون وشعراء مبدعون، ولكن السيدة كانت تحرص على أن أتولّى هذه المسؤولية. ولكم كانت تصرّ على ذلك وتوصي الساهرين على الجمعية، في المغرب وخارجه، على ألا تُخّولَ هذه المهمة لأحد غيري، فيا له من تشريف! وجدتني إذن «حجر الزاوية» أو «مسمار الفرجة»، حسب العبارة الفرنسية التي استُعملت منذ القرن التاسع عشر للتعبير عن الدور المهم الذي كان منوطًا بالفنان الكوميدي لشدّ أنظار وانتباه المتفرج. ولرضاها عني في الدورتين السابقتين، عيّنتني هذه السنة أيضًا لأقوم بدور التنشيط في ملتقى هذا العام، بل وفي ملتقيات أخرى بالمغرب كانت تهيئ لها منذ شهور عديدة، ولكن أدركتها الوفاة، تغمدها المولى برحمته التي لا تُحدّ.
نَعم، كنتُ عند حسن الظن، ولكنني لم أرقَ أبدًا إلى مستوى السيدة في التنظيم. فأنا ما زلت كعادتي أتعامل مع أموري كما أتعامل مع القصائد، فأباشرها في آخر لحظة كلما هبت ريح ملهمة. أما هي فكانت ترتب أمور اللقاءات الثقافية عن بعد وبكثير من الدقة التي ربما سبّبت لها شيئًا من التوتر في علاقاتها مع الناس، ولكنها كانت تكون دائمًا هي الأسبق لمد يد المصالحة. وهل يغيب التوتر من عالم الثقافة والمثقفين؟
تساءلت في نفسي : لماذا كان من نصيبي، أنا بالذات، أن أكون «حجر الزاوية» أو «مسمار الفرجة»؟ هل كنت مهمًّا إلى هذا الحد في نظر السيدة؟
مضى عليَّ وقت وأنا لا أريد أن أفهم، فَضِعتُ بين «اللاّء» و«النَّعَم»، حين وجّهتْ لي الدعوة رسميًا، ولكن سرعان ما ارتحتُ لدوري الجديد والأبدي في مؤسسة السيدة الفكرية، لما كانت تُحيطني به من رعاية وعطف أمومة لم أحظَ بهما من قبل. ولأنني لم أرَ أبدًا المرحومة أمي، وجدت في حنان السيدة الجديدة شبهًا منها، ذلك أنها ظلت تناديني ــ دونما انقطاع ــ كلما التقينا أو عبر الهاتف : «يا ابني!». فخُيّل لي مرارًا ــ وأنا صحبة ابنها وبناتها أنني فعلاً قد خرجتُ من رحمها.
كتبتُ لها مرة ــ حين غضِبتْ مني ــ في بداية تعارفنا، إذْ لم تكن قد تلاحمتْ أرواحُنا بعد :
«اِغضَبي يا أمي، فلن أناديك بغير هذا الاسم».
كنت أخاف أن يزلّ لساني ــ إذا غضِبتُ ــ فتسقطُ الأم من عيني كما يسقط الضأن في ولادة عسيرة!
شهور معدودات، وعدتُ كما كُتِب لي أن أكون : «حجر الزاوية» في برنامج السيدة … !
تعجبتُ من مدينة بروكسيل هذا اليوم، كيف تظل سماؤها ملبدة بالغيوم لمدة أسبوع، تستقبلنا ــ نحن ضيوف السيدة ــ بهذا الوجوم العريض، ناسية أننا جئنا إليها من بلدان عديدة لنشرّفها بحضورنا المشرعة أبوابُه جهة الإنسان والسلام. ذكّرتني المدينة بوجدة وهي تفتح لي سجنها المدني بتهمة ارتكاب جناية السياسة.. إنني لأتعجب من هذه المدن التي لا تعرف كيف تغازل، وحين تغازل ترمي بالورود إلى قمامات النسيان ! كنت أخاف على السيدة من هذا البرد الأوربي الذي قد يفاجئك في عز الربيع، فتصاب بوعكة أو زكام، ويتعطل النشاط ويضيع معه دوري ــ أنا المنشّط «الكبير!» ــ في عيون سيدتي. لم يقع أي شيء من هذا، والحمد لله. حلّت الساعة الموعودة، فانطلقنا إلى المركز العربي بالمدينة، وكان اللقاء كما سطرته السيدة، بديعًا، راقيًا، عانق فيه الفكر الإبداع، وغنّينا فيه للمحبة والسلام بين الشعوب.
بقينا مع جمهور متعدد الجنسيات، من منتصف النهار إلى الحادية عشر ليلًا، متلاحمين، متعطشين للمزيد من العروض التي ما كان ينبغي لها أن تنتهي. كان لقاؤنا حالات صوفية يطبعها التقلب والتلوين، فَمنَ الضحك إلى التأوّه، ومن التحسّر إلى التصفيق. وأنا على المنصة طيلة الوصال، كنت أقدم كل حصة بنكتة أو بمقطوعة شعر، أستعمل الفصيح وأجوّد قراءة القصيدة، أنقّل بصري بين الناس وأتفحص وجوه الحاضرين حتى لا يفلت من مداري أحد، لأستأثر بأنفاسهم. وأنا كذلك، كانت عيني المتفحصة تقع ــ بين الفينة والأخرى ــ على محيا السيدة، فأراها مبتسمة أو ضاحكة أو مصفقة بكل ما أوتيت من قوة. كنت أنظر إلى سعادتها البريئة، فأتخيلها طفلة تودّع شيئًا فشيئًا صرامة التأمل الذي ربما ورثته عن مهامها في التدريس. ونظرت من جديد إلى القاعة، فوجدت ابتسامة السيدة قد انتقلت إلى أرواح الحاضرين، لأنها كانت تعرفهم جميعًا، وربما كانت روحها قد انصهرت بأرواحهم قبل هذا اللقاء الأخير.
ليس بمقدوري اليوم أن أعدّد اللحظات الجميلة التي جمعتنا، ولا التعاليم التي ورثتها عنها، ولا تلك الصلات مع الناس التي كانت هي السبب في صنعها، ولكنني أستطيع أن أحكي تجربتي معها كناشر لأحد أهم كتبها : «الثقافة جسر بين العوالم». ليس هذا الكتاب مقاربة سوسيولوجية لدَوْر الثقافة في التقريب بين الشعوب، ولا هو تحليل لخطابات المثقفين أو تأسيس لثقافة الالتزام، وإنما هو فكرة وتصور للمثقف الفاعل في المجتمع الذي يعيش فيه وهو يمارس مهمته كسفير للإنسان. عندما وصلتني مواد الكتاب، حاولت أولاً أن أنظر فيها لأعرف جوهر التناسق بين لغاتها ومواضيعها، فوجدتني أمام نصوص لمثقفين من المغرب وسوريا والعراق وغيرها، وبين لغات تضاف إلى العربية، كالفرنسية والإنجليزية والإسبانية والسويدية، وكأنها كلها أشباح متداخلة ومركبة. وقبل أن أؤلّف بين المواد، فتخرج فيما بعد في حلة قشيبة، هي الآن من أفضل مطبوعاتي، قلت في نفسي : لِمَ لا أرجع إلى السيدة في كل هذا علّني أقف على طريقتها في العمل فأهتدي لحلّ الإشكال؟ بعدما تأتّى لي ذلك، أخبرتني أنها طلبتْ من زمرة من الأكاديميين والمبدعين العرب في بلدان الهجرة، من كُتاب وشعراء وفنانين تشكيليين، كتابة نصوص يحكي كل واحد فيها ــ من خلال حياته وتجربته ــ تصوره للتلاقح الثقافي بين الغرب والشرق. كانت ثمرة هذا السؤال نصوصًا في غاية الإبداع، اكتشفتُ من خلالها شخصيات عربية وازنة تلعب ــ بفضل نجاحها ــ في بلدانها المضيفة أدوار السفراء : إنها جسر التواصل بين الشعوب!
وكعادتها في كل دورة، فقد أصدرتْ السنة الماضية ــ في ملتقى جمعيتها ببروكسيل ــ كتابًا جديدًا بعنوان «نحو الأمل»، جمعت مواده بنفس الطريقة. وكان من المنتظر أن يعاد طبعه، هذه السنة، في حلة جديدة موسّعة، تزامنًا مع تأسيس فرع جديد للجمعية في كل من باريس ونيويورك. ظلت تحلم بهذا المولود الفريد، وهي تواصل تنظيم لقاءات بروكسيل وباريس، إلى آخر لحظة من حياتها. لقد كانت لها مكالمة هاتفية في هذا الشأن ــ بضع ساعات قبل وفاتها ــ مع الفنان التشكيلي المغربي عبد القادر مسكار الذي كان أحد زملائها القدامى في التعليم. كان الفنان من أقرب الناس إلى عالمها، مما جعل صداقتهما تزيد عن ثلاثين سنة، كما كان أحد مُلهميها لتعاطي الفن التشكيلي الذي زاولته باحترافية كبيرة، بل وكتبت عنه كمؤرخة وناقدة، قبل أن تدركها حرفة السرد فتنشر في القاهرة روايتها «الفردوس البعيد».
رجعتُ إلى بروكسيل في الأسبوع الماضي، صحبة الفنان عبد القادر مسكار، نزولاً عند رغبة السيدة التي كانت تهيء للقاء هذه السنة بنفس المدينة. كان من اللازم أن نلتقي بالعراقي السيد علي خضر، مدير المركز العربي، لمناقشة التفاصيل. لم تكن ابنتها «مُنى» موجودة هذه المرة لتباشر الترتيبات، كما المعتاد، لأنها سافرت إلى المغرب لوداع أمها الأخير. وجدتُ بروكسيل هذه المرة ذابلة، سماؤها أكثر شحوبًا من العام الماضي، وجدتُ امرأة تبكي على أحد أرصفة الساحة الكبيرة المقابلة للمتحف العريق؛ وعلى بعد منها، شاب أسمر يقبل عشيقته الشقراء، وهما على يقين أنهما لن يُطردا من المدرسة كما هو الشأن في بلاد السيدة. تمشيت قليلاً تحت زخات المطر، فإذا بهاتفي يرنّ، وإذا بأحد الإعلاميين العرب يهاتفني من ألمانيا، يترحّم على روح السيدة، ويسألني عن تاريخ لقائها السنوي، مؤكدًا حضوره للمساهمة في مواصلة مسيرتها. تعبتُ كثيرًا بفعل الأرق وتصارع الخواطر التي لا تنام، دخلت إلى مقهى، فتحت الفايسبوك فإذا خبر رحيل السيدة قد «ملأ الدنيا وشغل الناس !».