يقول الله (سبحانه وتعالى): “وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ۚ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَمِنْ هَٰؤُلَاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)” (العنكبوت).
أنقل من تفسير الطبري: ” عن ابن عباس، قوله: ( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) قال: كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أمِّيا؛ لا يقرأ شيئا ولا يكتب.”
الآية الكريمة صريحة قاطعة لأي شك في أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان لا يقرأ ولا يكتب، وقد بينت العلة في ذلك. وأنقل من تفسير الطبري: “عن قَتادة (إذًا لارْتابَ المُبْطِلُونَ) إذن لقالوا: إنما هذا شيء تعلَّمه محمد صلى الله عليه وسلم وكتبه.”
ما الإشكال، إذن؟
الإشكال أن كثيرا من الأصدقاء على وسائل التواصل الاجتماعي يتناقلون أدلة مبتورة من سياقها، وأحاديث أسيء تفسيرها مدعين أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يقرأ ويكتب، وأن في القول بغير ذلك انتقاصا منه (صلى الله عليه وسلم).
* مصدر الشبهات:
يستشهد هؤلاء بأن للأمي معاني أخرى غير (الذي لا يقرأ ولا يكتب)، وهذا صحيح!
نعم، وردت الأمي لتعني كل من لم يكن من أهل الكتاب (بخاصة العرب) في عدة آيات كريمة، منها:
– قال (تعالى): “فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ۗ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ۚ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ” (آل عمران: 20)
– قال (تعالى): “وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ” (آل عمران: 75)
– قال (تعالى): ” هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ” (الجمعة: 2)
لنناقش الآن المقصود بـ(النبي الأمي) في الآيتين الكريمتين:
” الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)” (الأعراف)
أنقل من تفسير البغوي: “قوله تعالى : ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي ) وهو محمد (صلى الله عليه وسلم). قال ابن عباس (رضي الله عنهما): هو نبيكم كان أميا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب. وقال النبي (صلى الله عليه وسلم): “إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب”، وهو منسوب إلى الأم، أي هو على ما ولدته أمه. وقيل هو منسوب إلى أمته، أصله أمَّتي فسقطت التاء في النسبة كما سقطت في المكي والمدني، وقيل: هو منسوب إلى أم القرى وهي مكة.”
تعقيب: لا أستسيغ القول بأن (الأمي) نسبة إلى (أم القرى) مع أن هناك شبهة صحة. قد ينسب إلى أول الاسم المركب/ إلا أن من أهم مبادئ اللغة العربية أن يؤمن اللَّبس، وفي هذه النسبة لبس شديد. هناك أيضا لبس شديد في القول إنها نسبة إلى أمة؛ فاللبس شديد كذلك، لأي أمة؟! لا يصح هذان القولان في رأيي المتواضع.
وأنقل من تفسير ابن عاشور: “الأمي: الذي لا يعرف الكتابة والقراءة، قيل هو منسوب إلى الأم أي هو أشبه بأمه منه بأبيه، لأن النساء في العرب ما كُنّ يعرفن القراءة والكتابة، وما تعلمْنها إلاّ في الإسلام، فصار تعلم القراءة والكتابة من شعار الحرائر دون الإماء كما قال عُبيْد الراعي، وهو إسلامي:
هُنَّ الحرائِرُ لا ربّاتُ أخمرَة … سُودُ المحاجِر لا يقْرأن بالسّوَرِ
أما الرجال ففيهم من يقرأ ويكتب.”
نقاش:
من المعلوم أن للكلمة الواحدة في العربية أكثر من معنى (خذ مثلا كلمة العلَم، فهي تعني الراية وتعني الجبل، وتعني الرجل المشهور إلخ)، فلا يوجد أي مانع من أن تعني (الأمي) في سورة الأعراف الذي لا يقرأ ولا يكتب، بينما تعني الذي ليس من أهل الكتاب في بقية الآيات. وهذا ما ذهبت إليه معظم التفاسير.
أنا شخصيا أميل إلى أن (الأمي) في جميع الآيات، بما فيها آيتا الأعراف، تعني من ليس من أهل الكتاب.”
لنفترض أن (الأمي) في آيتي الآعراف لا تعني (الذي لا يقرأ ولا يكتب). أين الدليل في هذا على أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يقرأ ويكتب؟! بأي منطق يقال إن الفهم “الصحيح” لهذه الآية ينفي أنه (صلى الله عليه وسلم) كان لا يقرأ ولا يكتب؟!
غاية ما يمكن أن يقال إن آيتي الأعراف لا تثبتان أنه (صلى الله عليه وسلم) كان لا يقرأ ولا يكتب؛ والمنطقي أن يقال في هذه الحالة: إنهما لا تثبتان ولا تنفيان.
ماذا نفعل في هذه الحالة؟ من المنطقي أن نُحيِّد آيتي الأعراف ثم نبحث عن أدلة أخرى تثبت أو تنفي.
الآية 48 من سورة العنكبوت قاطعة الدلالة في أنه (صلى الله عليه وسلم) كان لا يقرأ ولا يكتب. وكذلك أقوال ابن عباس وغيره التي أوردتها كتب التفسير المختلفة في تفسير هذه الآية.
إن نفي القراءة والكتابة عنه (صلى الله عليه وسلم) كان لحكمة بينتها الآية، وهي حكمة قريبة في نفي الشعر عنه (صلى الله عليه وسلم)؛ قال (تعالى): “وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ” (يس: 69).
أما شبهة أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يأمر أصحابه بتعلم القراءة والكتابة، رغم أنه هو نفسه لم يتعلم القراءة والكتابة، فقد بينت الآية الكريمة نفسها الحكمة من ذلك. وهناك أحكام خاصة للرسول (صلى الله عليه وسلم) انفرد بها عمن سواه لحكمة علمت أو خفيت.
أما القول بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان لا يقرأ ولا يكتب قبل الرسالة، ولكن الله (تعالى) علمه القراءة والكتابة بعد الرسالة ففذلكة لا دليل عليها، فحكمة جعله لا يقرأ ولا يكتب لم تنتف بل العكس هو الصحيح! إن الحاجة إلى هذه الحجة الدامغة على أن الوحي من الله (تعالى) بعد البعثة أشد من الحاجة إليها قبلها بخاصة في المدينة المنورة.
* ما حكمة الوصف المزدوج: الرسول النبي … رسوله النبي؟
أنقل من تفسير الطبري: “حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن إدريس الأودي، عن الحكم، عن مجاهد ( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) قال: كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يخطّ بيمينه، ولا يقرأ كتابا، فنـزلت هذه الآية.”
وأنقل من تفسير ابن عاشور: “ومن نكت القرآن الجمع في هذه الآية بين وصفي النبوة والرسالة للإشارة إلى أن اليهود بدّلوا وصف الرسول، وعبروا عنه بالنبي، ليصدق على أنبياء بني إسرائيل، وغفلوا عن مفاد قوله مثلك، وحذفوا وصف الأمي، وقد كانت هذه الآية سبب إسلام الحبر العظيم الأندلسي السموأل بن يحيى اليهودي، كما حكاه عن نفسه في كتابه الذي سماه «غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود».”