لُغَةِ الصَّمْتِ ــ هاني الشوبكي

0
607

   الصمت هو أن تجلس وحيدا بين أربعة جدران .. تتأمل ملامح الفكر الضال على أرصفة شرايين عقلك الراقد بين جوانح ظلام الحياة .. أو أن تجلس بين مليون إنسان وبرغم الضجيج والفوضى، إلا أنك قد تنظر بنظرة ثاقبة لوحي قادم من بعيد، يجتاح ذاكرتك الباردة في مستودع ماضيك القديم، أو في صندوق أسرار قلبك لمستقبل تخاف أن يأتيك كـالتتار أو الطوفان، ليجتاح كل ما هو جميل بداخلك .. في كلتا الحالتين الصمت .. هو الصمت قد يصنع منا عباقرة ومفكرين، وقد يصنع منا جبناء منعزلين عن العالم .. أو يصنع منا مجرد دمى ثابتة في نفس المكان، كقطعة أثاث بجوار الحائط، أو معلقة على جدران الروح … الصمت لغة لمن يعرف معناها كالعظماء، وفي نفس الوقت هو أسلوب حياة للضعاف الذين يخشون الاندماج في العالم البشري .. أو الذين أصابتهم حمى القلق واليأس .. من كل شيء حتى أنفسهم .. وفي نفس الوقت يعتبر الصمت هو ملاذ الزاهدين في الدنيا، لممارسة عبادتهم الروحية والجسدية .. كما هو أيضا مأوى للراهبين في عالم الفكر والتأمل .. الصمت قد يكون سلاح ذو حدين، فقد يجعل منك حكيما .. وقد يجعل منك منحرفا جاهلا .. قد يجعل منك أميرا، أو يجعل منك أسيرا في سوق النخاسين من الصعاليك الذين يثرثرون ليل نهار بلا فائدة .. حتى في الحب، الصمت أفضل بكثير، فقد تلفظ كل كلمات الحب والعشق أنفاسها الأخيرة عندما تنطقها ألسنتنا، أو حتى نسطرها على الورق …. وأخيرا أرى أن أفضل أنواع الصمت هو الذي يجعلك متأملا، عابدا، مفكرا، متزنا، مقداما على الحياة بقلب يحمل بين أوردته حديقة مليئة بالأمل للغد .. الصمت الحق هو الذي يعد فترة اختبار لك، لإعادة النظر في كل شئ من حولك، ومراجعة نفسك أولا بأول .. فـللصمت وسائل كثيرة قد تكون بكبح اللسان عن التفوه بما لا يسمن ولا يغني من جوع .. أو بوضع شهواتك بعيدا في منفى التوبة لأجل غير مسمى .. أو بغلق عينيك عن ما تراه قبيحا، في زمن تلوثت فيه الوجوه والنفوس بماء الأقنعة المزيفة … أو أن تصمت بحجب قلبك عن كل ما يؤلمك ويحزنك في عالم أصبح البحث فيه عن الرذيلة أسهل بكثير من البحث عن الفضيلة .. وإياك أن تجعل من صمتك وسيلة لجلد الذات، أو لتأنيب الضمير، فهذا وذاك بداية طريق مسدود لن ترى فيه سوى الذل والمهانة، وسوف تجعل من روحك طائرا مذبوحا يلفظ أنفاسه الأخيرة .. فإذا كان الصمت وسيلة للتعبير عن خجلك فهو جميل، وإذا كان صمتك للسكوت عن الحق، والخوف من البشر فهو صمت ضال، قد يلقي بك في بئر الشياطين … اصمت عندما تريد أنت أن تصمت .. ولا تصمت لأن غيرك يريد منك ذلك، أو لأنك تخاف شيئا ما .. اجعل من صمتك أسلوب حياة إيجابي .. اجعله عبادة ودعاء، اجعله قوة عظماء، وسلاح مفكرين، وقلم أدباء، ورزانة عقلاء، وجواد الفرسان، وصرخة شجعان .. اجعل من صمتك روحا ترفرف في سماء الأماني، وعروسا ترقص فوق أمواج البحر على أنغام الأحلام .. صمتك قوتك الحقيقية التي لم تكتشفها بعد.. فيا ليتنا نتعلم كيف نصمت، ونوقف عقولنا عن الانشغال بغيرنا، وما لا يفيدنا، وقتها نكون قدمنا خدمة عظيمة لراحة عقولنا.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here