صدر عن “دار الغاوون” ببيروت رواية: “لم أر الشلالات من أعلى” للشاعر المغربي محمد ميلود غرافي، وقد جاءت الرواية بعد ديواني: “حرائق العشق” (2002 )، و”أمضغها علكا أسود” (2009)، وسلسلة من المقالات النقدية، ظهرت في مجلات وصحف وطنية ودولية، تحوم حول مواضيع الهجرة و قضايا الشعر والرواية.
يتناوب على السرد في الرواية صوتان: صوت الأب وصوت الابن غير متداخلين في الحكي، إذ خصّ الكاتب لكل سارد مساحته الورقية، مما جعل قصتهما متقابلتين بصريا ومتحاورتين دلاليا . لقد جاء صوت الأب على شكل شهادة، تسرد تجربة مناضل في حزب من أحزاب الحركة الوطنية، وكذا تجربته في صفوف منظمة سرية، تعتمد الكفاح المسلح في التغيير: “دخلت الحزب عام 63 مع أحد المعلمين وسي س. الوجدي، وسي م. الجواهري وع.ق. أجنون وآخرين. سايرنا نشاطنا في الحزب إلى سنة 64، وتبين أن هناك منظمة سرية داخل الجزائر مكونة من مغاربة عدة وكنت السبّاق إلى دخول هذه المنظمة. كانت مكونة من عسكريين ومدنيين من بينهم الكولونيل بنحمو وشخصيات عدة..”: ص 77.
غطى صوت الأب المرحلة الزمنية التي يُصطلح على تسميتها بسنين الجمر والرصاص. واعتمدت في سردها على الزمن التعاقبي لتوثيق الأحداث وربطها بأمكنة حدوثها. كما ذكر أسماء الأشخاص للتوثيق لها توثيقا محكما: ” كنت ممن حُكم عليهم بعشرين سنة نافذا. بعد الحكم زجّ بنا في السجن المركزي بالقنيطرة. وجدنا هناك طائفة كبيرة من المناضلين من بينهم الأخ عمر بنجلون رحمه الله ومومن الدويري والفقيه البصري…” ص 98. وعن مغادرة السجن يقول: “كان يوم خروجنا يوم عيد الأضحى. صادف خروجنا من السجن موت الجنرال الكتاني الذي كان بيده صلاحية تنفيذ الإعدامات. كان ذلك سنة 65…” ص 119. وحول توثيق خروجه ومعانقته الحرية، يقول بعد وصوله إلى مدينته الأصلية للالتحاق بالقرية المجاورة: “من بركان ذهبت إلى القرية راجلا. كان بي عطش كبير إلى المشي. حين رأيت الدار من بعيد بدأ قلبي يخفق بشدة. كنت سعيدا وخائفا من المجهول…”. ص 133.
الصوت الثاني في الرواية هو صوت الابن، يحكي عن تجربة المثقف العربي في باريس، كما يخوض في عوالم الهجرة ومشاكلها. يتقاطع فيها الذاتي مع الواقعي. فنص الأب سابق من حيث زمن وقوعه وزمن كتابته، فجاء تمثيله بنص الابن؛ أي أن السارد الابن يسعى بذلك لمجاراة نص الأب من حيث المزاوجة في المواضيع. وإن كانت الوقائع عند الأب أثقل وزنا باعتبارها أحداثا وتأريخا، لزم البوح بهما للتوثيق. على خلاف حكي الابن الذي يمسّ الواقع أحيانا، ويعانق الخيال الروائي أحيانا أخرى .
لذلك جاء ضمير المتكلم في السرد إحالة وتوثيقا للسارد الأب؛ للبوح بمآسي التجربة التي عاشها بمرارة. بينما تنحسر هذه المساحة عند السارد الابن، حيث يتحول الضمير فيها إلى ضمير نحويّ، لا يحيل على العلاقة المباشرة مع الكاتب خارج النص، فلم يعتمد التوثيق باستثناء بعض الإشارات التي تحيل على وقائع عامة، وليست وقائع خاصة كالحرب على العراق مثلا: “وصلت باريس أياما فقط قبل قصف العراق إثر احتلاله للكويت” ص 43. فقد وظف السارد الابن ضمير المتكلم توظيفا جماليا. بقي وفيا لما تمليه طبيعة الرواية وخوضها في التجارب الانسانية. على خلاف صوت الأب الذي جاء موثقا لما تقتضيه طبيعة الشهادة عن وقائع وأحداث عاشها في مرحلة زمنية كان من الصعب الخوض فيها. فهي تحدثت عن المسكوت عنه، وتقدّم بديلا للتأريخ الرسمي تأريخا يخرج من منجم الذات التي عاشت الأحداث، ترويها عبر الذاكرة المنهكة. إن الرواية غنية بالمواضيع التي ينبغي الوقوف عندها مطولا. وسأقف من باب الايجاز عند جانب رؤية الكتابة عن باريس كفضاء للحلم والواقع.
باريس الحلم والواقع :
إن الكتابة عن باريس وفي باريس، لها نكهة خاصة. باعتبار المدينة محطة مهمة في تاريخ الأدب العربي الحديث، فهي المكان الحلم الذي انجذب إليه المثقفون العرب من الرعيل الأول أمثال: رفاعة الطهطاوي ومصطفى عبد الرازق ومن تبعهم مثل طه حسين وتوفيق الحكيم… فهي بحق عاصمة للمثقفين العرب وغير العرب. ولعبت دورا للمثاقفة بين الشرق العربي والغرب الأوربي. فمن هذه الناحية يكون جيل محمد ميلود غرافي من بين الذين وقفوا، وعايشوا عن قرب الصورة التي تركها بعض الأجداد، من خلال كتاباتهم ومذكراتهم مثل: “تخليص الابريز في تلخيص باريز” و”الساق على الساق فيما هو الفارياق”، وفي أعمال طه حسين وغير ذلك من الأعمال التي تقدّس المكان وتمجّد الحضارة. وسارت على نفس الرؤية أعمال كثيرة بدون توقف ولا انقطاع. فاعتاد المواطن العربي أن يقرأ عن باريس من خلال هذه الرؤية .
لكن الأدب الذي يخلفه هذا الجيل، قد يختلف في الرؤية. فما هي الأسباب الكامنة في هذا التحول؟
لعلّ من بين هذه الأسباب أن الجيل الأول جاء إما على شكل بعثات، تدرس وتعود إلى الوطن، أو على شكل رحلات استكشاف لعوالم باريس. سكن الحي اللاتيني ليبقى قريبا من الجامعة ومن الأنشطة الثقافية التي تعج بها. أما الجيل الذي تتحدث عنه رواية:” لم أر الشلالات من أعلى ” فتمثله شرائح اجتماعية، لا هي جاءت على شكل رحلات استكشاف، ولا هي جاءت على شكل بعثات رسمية للدراسة، بل شرائح اجتماعية مختلفة هاجرت إلى باريس من تلقاء نفسها، بعضها تدرس في جامعات باريس وتشتغل في مطاعم الحي اللاتيني ومقاهيه. وهذه الشريحة تمثل جيلا جاء يطلب الإقامة والبحث عن إعادة اعتبار للذات التي قهرت في بلدها بشواهدها، وسدّت في وجهها الأفاق بعد تخرجها. وبعضها تمثل نماذج من شخصيات جيل المهاجرين الذين جاؤوا إلى باريس، منذ بداية السبعينات للاشتغال في المزارع والمصانع وأوراش البناء.
العنوان عتبة لتأويل باريس الحلم :
يعتبر عنوان رواية “لم أر الشلالات من أعلى” عتبة عبور لقراءة: رؤية انكسار باريس الحلم وتقديس المكان. إن افتراض تحوير العنوان بـ: “أرى الشلالات من السفح” يفتح في ذهن المتلقي غياب الكثير من الحقائق التي اكتشفها الراوي حين وصل لمنبع هذه الشلالات، فتأتي عملية القراءة لتؤكد هذه الرؤية في الرواية، إما في موضوعات المعارضات التي حاكى فيها مواضيع الأب، أو عن باريس الحلم، كانكسار الحب مع ريبيكا في باريس، وانكسار حلم الديمقراطية الغربية التي كان يُروَّج لها في الجامعة وعلى صفحات الجرائد.
لذلك يعتبر عنوان الرواية بداية السرد وليس عتبة خارج النص؛ باعتباره نقطة بداية في تأويل المعنى عند المتلقي. لم يأت العنوان من خارج النص، بل هو امتداد له، ورسالة المعنى مشفرة فيه: “أنا غلطاتي كثيرة. أهمها أني ركبت حافلة ذات خريف إلى باريس. قال مصطفى: لا، أهم غلطاتنا أننا دخلنا المدرسة وبدأنا نفهم أشياء في السياسة والحياة ونقرأ “ما العمل” وأشعار درويش ولوركا. غلطتنا أننا حلمنا بالديمقراطية ..” ص 56.
إن مثقف هذا الجيل الذي تنتمي إليه الرواية، يعيش رحلة الضياع والاغتراب. ولا يعرف كيف يتموقع تجاه الصورة المركبة التي ترسخت في ذهنه، من عصر الأنوار والصورة التي تسللت مع بعض الكتابات وبرامج التعليم المفرنسة. فأصبح يكتب أعمالا، تقطر ألما وحزنا حين يعبّر عن أحلامه في باريس، عن اغتراب اسمه وثقافته، عن محطات تستعر فيها الكراهية تجاه بعض القضايا المستجدة. يقول السارد عن الحرب على العراق: “كنت أقرأ جرائد عربية في القطار وينظر إليّ بعض المسافرين بنوع من الحقد والحذر. كان ذلك أول اكتشاف لي للوجه الآخر للغرب. فبدأت أتخلّص من التّرهات التي كنت أقرأها في أدبيات اليسار العربي وأسمعها في اجتماعات الحزب عن الديمقراطية الغربية والحرية والمساواة ..” ص 43.
ومن بين هذه الأعمال التي تسير في نفس الرؤية رواية: أوراق الرماد لمحمد العتروس، وأمواج الروح لمصطفى شعبان وإلى حد ما عراقي في باريس لصموئيل شمعون… فباريس الحلم التي ترسخت في ذهن المثقف المغترب، لا يعرف كيف يتموقع بين بعدها الحضاري والخطاب المزدوج للساسة، خاصة في الحملات الانتخابية. فمن جهة هناك خطاب التسامح والتعدد الثقافي والحوار الحضاري وخطاب ثان حول: اللحم الحلال واللحم الحرام. وهي مواضيع تحشر في نقاشات بغيضة للنيل من مرجعيات ثقافية، تعمل جاهدة لاستقطاب أصوات بعض الناخبين الذين أعيتهم الأزمة. وبالتالي فرؤية هذا الجيل الإبداعية، تختلف من هذه الناحية عن نظرة الإعجاب والانبهار التي تبلورت من خلال بعض كتابات الرعيل الأول .
تجسد رواية “لم أر الشلالات من أعلى” هذه الرؤية في كثير من المشاهد نقرأ: “فرنسا تحب من العرب من يشتغل في ورش البناء وحقول العنب ويقول “وي مسيو” كما في أيام الاستعمار. لا حاجة لها لطلاب عرب وأفارقة بدأوا يفهمون أن الديمقراطية ما زالت مشروعا لم يتحقق بعد على هذه الأرض وأن حقوق الإنسان أمر يهمّ الساسة الفرنسيين حين يتعلق الأمر بمواطنيهم، وأن الهجرة تصير مشكلة فقط إبان الانتخابات الرئاسية…” ص 56.
فالكاتب واع بالرؤية التي يمثلها أدبه، يدافع عنها من داخل النص في نقده الأدب الفلكلوري يقول: “أكره أن يجاملني فرنسي بجامع الفنا والكسكس. أجد في هذا نوعا من الاستهزاء. أغلبهم قرأوا أدب صاحبنا الفرنكفوني ولديهم صورة سحرية وفولكلورية عن واقعنا” ص 79.
نحن أمام ميلاد أدب جديد يتأسس، يؤرخ لعلاقة الأنا بالآخر برؤية نقدية لا هي بالدونية ولا الهجومية. يحتكم فيها أدب هؤلاء للواقع، تعريته، وإعادة تقويمه من الداخل. وهذا طبعا، من خلال جبهة الأدب. فهو جيل يناضل في صمت، يخوض معارك الحياة من أجل تحقيق الذات. يُقصى، يُطرد من الباب ويَدخل من النافذة، يكتب عن تجربته وعن معاركه في الحياة باعتبار الكتابة منفى للذات، يعزف بصوت الناي الحزين في الشعر، وبلغة السرد حين يضيق مقام الشعر لحكي المواجع التي يعيشها. فقارئ هذا الأدب لا يستطيع أن يتمتع من خلاله بجولات الحي اللاتيني، ولا شارع الشونزليزي وشارع سان ميشال، كما هو الشأن بالنسبة لكتابات ومذكرات أجيال أدب المهجر السابقة.
رواية “لم أر الشلالات من أعلى” عمل في منتهى الحداثة في الرواية العربية المعاصرة، جمع بين نصين في عمل واحد: سيرة الأب النضالية ورواية الابن الإبداعية. وهي تنضاف إليه كشاعر وروائي، وتنضاف إلى السرد المغربي، وتعزز الرواية المهجرية بحضورها الشيق وصوتها المعبر عن آلام المهاجرين.