لا خلاف في أن فكرة حوار الأديان قديمة قدم الأديان نفسها، وذلك بسبب حاجة الأفراد والجماعات إلى حوار من هذا القبيل تفاديا لشن الحروب الدينية، وأملا في إشاعة الأمن والتعايش والاستقرار. وقد قدمت الحضارة العربية الإسلامية في العصور الماضية نماذج من هذا الحوار، والذي تجسد، كما نعلم جميعا، في الجدل الإسلامي المسيحي، والجدل الإسلامي اليهودي، وفي المناظرات الدينية، وفي الكتب الكثيرة التي يمكن أن ندرجها الآن ضمن، ما يعرف في العصر الحديث، بعلم مقارنة الأديان. ولم يكن التأليف في الأديان حكرا على العلماء المسلمين فقط، بل هناك أعمال دبجتها أقلام مسيحية ويهودية. وستظل الأندلس الإسلامية خير مثال للتلاقح الثقافي، والتسامح الديني، وحوار الحضارات. غير أن الجديد في حوار الأديان حاليا هو أنه لم يعد وسيلة لتدبير الاختلاف داخل أمة واحدة مثلما كان الأمر في الماضي، بل أضحى أسلوبا لخلق جسر التواصل بين أعضاء المجتمع الدولي.
إن حوار الأديان كوجه بارز من أوجه العلاقات الدولية، وكمطلب غربي يجسد الرؤية المستقبلية للعلاقة بين الثقافات المختلفة، لم يتوقف عن استقطاب مثقفين، ورجال دين، ورجال المال والأعمال، وفاعلين من المجتمع المدني. ولا بد من الإشارة إلى أن حوار الأديان مر بعدد من المحطات. لعل أبرزها وأكثرها أهمية هو قيام فرنسا سنة 1937 بإرسال ممثلين عن الكنسية إلى علماء الأزهر للتحاور معهم بخصوص إمكانية توحيد الديانات الثلاث. ومنذ ذلك التاريخ وحتى العصر الراهن نُظمت العشرات من المؤتمرات سواء في الوطن العربي أو العالم الإسلامي أو الغرب. من أهمها في هذه السنة انعقاد مؤتمر حقوق الأقليات الدينية بالعالم الإسلامي الذي انعقد بمراكش، المغرب بتاريخ 25-26-27 يناير 2016. والمؤتمر الثاني عشر لحوار الأديان أيام 16-17 فبراير 2016 بمدينة الدوحة بقطر، الذي رفع شعار الأمن الروحي والفكري في ضوء التعاليم الدينية.
ويُثير انعقاد مثل هذه المؤتمرات، في الغالب، جدلا كبيرا في الأوساط الفكرية والدينية العربية التي كانت تتأرجح في مواقفها بين مؤيد ومعارض. فأصحاب الاتجاه الأول يميلون إلى التركيز على جدوى الحوار الإسلامي الغربي، مؤكدين على أن اللوم يقع على المسلمين دون غيرهم لأنهم تعودوا على تلقي الحوار من الغرب دون أن يكونوا فاعلين فيه. لهذا ينبغي عليهم أن يعمدوا إلى صياغة أجندة للحوار في ندية للغرب يختارون لها موضوعات تهمهم، وتبرز الأرضية المشتركة التي تقف عليها الإنسانية جمعاء. أما الاتجاه الثاني فهو لا يؤمن على الإطلاق بجدوى الحوار متذرعا بأن نتيجته محسومة مسبقا، وأن موضوعاته تُصاغ في الغرب، وتُفرض على الطرف الثاني دون أن يكون له الحق في رفضها، فهو ملزم بالانسياق وراءها.
والحقيقة أن أي متتبع لحوار الأديان، لا سيما بين الغرب والإسلام، سيلاحظ أن هذا الحوار المنشود تحول دون نجاحه مجموعة من العوائق. البعض منها تتمثل في نظرة الغرب المسيحي التقليدية للإسلام على أنه هرطقة دينية مسيحية، والتي ظلت سائدة حتى انعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965)، واعترافه بالإسلام دينا رسميا. كما أن حوار الأديان، كما يفهمه الغرب، كثيرا ما كانت تحركه أهداف تبشيرية. هذا بالإضافة إلى التقصير الكبير الذي يعاني منه الغرب الأوروبي في معرفة الآخر، وما سيترتب عنه من موقف عدائي اتجاه الإسلام والمسلمين، والذي غذته في العقود الأخيرة كتابات التيار الاستشراقي الجديد ممثلا في برنارد لويس وصامويل هانتنغتون وفوكاياما.
والثابت أن معيقات حوار الأديان متعددة، وحتى وإن وُجد من المفكرين الغربيين من يبدي رغبة أكيدة في حوار للأديان اعتمادا على معايير أخلاقية وقيم إنسانية مشتركة فإن نظرتهم للإسلام ستبقى دوما حبيسة بعض الأفكار الراسخة في الذهنية الغربية. إن هانس كينغ الذي يُعتبر من دعاة حوار الأديان الأكثر انفتاحا على الإسلام يُسلم بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبأن رسالته سماوية، وأن القرآن موحى به من الله تعالى. غير أنه، في المقابل، لا يجد حرجا في اعتبار القرآن الكريم وحي الله بالمضمون، وليس بالنص على غرار التوراة والإنجيل. ومن ثم يرى ضرورة إخضاع القرآن الكريم لدراسة نقدية تاريخية قياسا على مناهج نقد الكتاب المقدس. وفي دعوته هذه نداء صريح لفصل الدين عن الدولة في المجتمعات الإسلامية لأن الربط بينهما هو سبب تخلف المسلمين منطلقا في ذلك من تجربة المسيحية عندما كانت السلطة ترتبط بالكنيسة، وأثر ذلك على أوروبا في العصور الوسطى. مما أدى إلى ثورة على الكنيسة انتهت بفصل الدين عن الدولة.
أما معيقات الحوار كما يراها الغرب فتتجسد في تنامي الحركات الأصولية في العالم الإسلامي، والتي أصبحت حسب التصور الغربي تهدد، بشكل كبير، المصالح الأوروبية والأمريكية، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 الشهيرة، وما تلتها من أحداث عنف في مناطق مختلفة من العالم. ويُجمع الغربيون على أن مناهج التعليم في بعض دول العالم العربي والإسلامي تُروج لمفاهيم تتناقض مع دعوة الغرب لحوار الأديان. الأمر الذي جعلهم يحثون بعض هذه الدول على ضرورة إصلاح مناهجها التعليمية.
وانطلاقا من بعض هذه المعيقات التي أتينا على ذكرها يبقى نجاح حوار الأديان الإسلامي الغربي والمسيحي، على وجه الخصوص، رهينا بتقديم تنازلات من كلا الطرفين لكن شريطة ألا تمس جوهر العقيدة في الديانتين معا، وبإيجاد حلول عادلة لبعض القضايا السياسية العالقة. وفي جميع الحالات فإن حوار الأديان، وإن لم ينجح دائما في تحقيقه أهدافه، فإنه على الأقل سيُمهد تدريجيا لخلق أجواء الثقة بين أفراد المجتمع الدولي.
كريمة نور عيساوي، باحثة في علم مقارنة الأديان