عرفَتْ لحظةُ الإبداع عندي شكلين مختلفين طيلة رحلتي عبر أدغال الشعر. الشكلُ الأول كان حاضرا منذ خطواتي الأولى إلى مطلع سنوات السبعين من القرن العشرين. وهو شكل بسيط، ذلك بأني كنت خلاله أتحكم في لحظة الإبداع. كنت غالبا ما أستدعيها كلما رغبت في ذلك؛ لأن هذا ينسجم مع رغبتي في التجريب وقتئذ. والتجريب غالبا ما يخضع لسلطة العقل، وصرامة الوعي. ولعل شعراء جيلي قد عرفوا الحالة نفسها، فالالتزام الذي كان سمةَ سنوات السبعين يطلب هذا الشكل.
الشكل الثاني بدأ مع سنة 1973، واستمر إلى يومنا هذا، أي: إن هذا الشكل احتل تجربتي الشعرية منذ غادرت الرباط لأستقر بوجدة. في هذه المرحلة انقطعتُ عن الماضي، وخاصة المادي منه، ففقدت كل أصدقائي، وخاصة أصدقاء الطفولة. فواجهت عالما جديدا، فرض علي العزلةَ سنوات عديدة في مشرع حمادي، ثم في العيون (الشرقية) قبل أن أستقر بوجدة سنة 1978.
صارت لحظة الإبداع في هذا الشكل معقدة، صار سلطانها قهارا. تفرض سلطتها أَنَّى تشاء. وأيّد هذه السلطةَ على ممارسة سطوتِها أني أصبحت أومن بأن الشعر سيرة ذاتية؛ ولهذا لا يمكن أن أكتب إلا ما له علاقة بِهذه الذات.
تبدأ الولادة بتوتر شديد يطفو على صفحة جسدي، أكون سريع الغضب، أغضب وأثور لأتفه الأشياء، ولكي أَقِيَ أهلي وأصدقائي من لهيب هذه الحالة، كنت أُفَضِّلُ العزلة. هذه الحالة تستمر أياما خلالها تزدحم الأبيات في داخلي، ثم بعد ذلك تأتي لحظة التدوين. في هذه اللحظة، قد أكتب في أي مكان، وإن كنت أفضل مكانا يعج بالصخب والضجيج. فإن كنت في بيتي، أسمح للراديو بأن يرفع صوته. أكتب ولا أهتم بما يقول: كأن صمما من نوع خاص يحتل أذني. وإن كنت في مقهى، فلا بد أن تكون ملأى بالرواد. ولهذا كثيرا ما كنت “أكتب” في الشارع المزدحم.
حين يتم تدوين القصيدة لا أُطلع أحدا على أبياتها حتى أقرأها. لكن كيف أقرأها؟ في هذه الحالة لا بد من مكان هادئ. لأن القراءة تكون بصوت مرتفع. وأثناء القراءة المتكررة، قد أغير بيتا ببيت، أو لفظة بأخرى. القراءة تكون أحيانا قراءة عادية، وأحيانا تكون منشدة. هذه العملية تتكرر أياما وربما شهورا. وتتوقف عندما ألاحظ أن النص لم يعد يقبل التنقيح. بعد ذلك أُطلع عليه أصدقائي. على أن النشر لا يتم إلا بعد مرور أشهر عديدة.